• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

سر السلوكيات المتناقضة في رمضان

سر السلوكيات المتناقضة في رمضان
◄شتّان ما بين نهار رمضان وليله. ففي نهار رمضان تبدو مظاهر الشهر الكريم واضحة على وجوه الناس وسلوكياتهم ومظهرهم أيضاً، فكثيرون يتوقفون عن النميمة والغيبة، وتتسم سلوكياتهم بالهوء والتسامُح وغَضّ البصر. ولكن بالنسبة إلى البعض، فإنّ هذه السلوكيات لا تلبَث أن تنقلب إلى الضّد تماماً مع إطلاق مدفع الإفطار.   -        خطأ ولكن: يُقر أيمن الماجري (موظف تسويق) بأنّ "السلوكيات المتناقضة ملموسة جدّاً في رمضان"، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أنّه "حازم جدّاً" مع نفسه في هذا الشهر الذي يأتي مرة واحدة كل عام. يضيف: "أحاول أن تكون سلوكياتي في نهاراته هي نفسها في لياليه، فأنا بطبيعتي أتسم بالهدوء ولا أميل إلى جلسات الغيبة والنميمة، ولا أتردد على الأماكن التي من شانها أن تُفسد صيامي".   -        نعم للأسف: أما أحمد دياب (موظف تسويق)، فيعترف بأنّه يرى الكثير من صور هذه التناقضات أمامه. يقول: "للأسف، هناك حالة من التناقض يعيشها البعض منّا في رمضان، حيث تجلس مع الشخص أثناء الصيام، أي في النهار، فتجده أكثر هدوءاً ويتحاشى الدخول في حوارات من شأنها أن تؤثر في صيامه، تمرّ أمامه الفتيات ولا يرفع عينه تجاه واحدة منهن. ولكن عندما تجلس ليلاً مع الشخص نفسه، لا تُصدّق أنّه هو الذي كنت معه في النهار، حيث تشاهد إنقلاباً كاملاً في الشخصية. وهذا ما أتحاشاه على المستوى الشخصي، فرمضان بالنسبة إليّ هو إلتزام في النهار وفي الليل، كما أنني أتسم بالسلوكيات نفسها، التي تظل هي هي لا تتغير، حتى بعد رمضان".   -        لا تعارض: في سياق تفسيرها جانباً من تلك السلوكيات، تعترف سامية محسن بأنها تحرص على صيام رمضان وأداء الصلوات في أوقاتها. ولسامية وجهة نظرها التي تدافع عنها بشدة، وتقول: "لا تعارض بين صيامي وسهري في رمضان، ولكني حريصة على الحفاظ على صيامي فلا أدخل في حوارات عقيمة، ولا أسمح للآخرين بجذبي إلى عالم الغيبة والنميمة، وما أكثرهما في محيط العمل".   -        بين العادة والعبادة: ويتفق مروان محمد (يعمل في قطاع البنوك)، مع ما طرحته سامية محسن، حيث يقول: "لقد إعتدنا في رمضان على السهر، ولكنني حريص على أداء صلاة التراويح وأنطلق بعدها إلى لقاء الأصدقاء الذين يسهرون على مدى أيام رمضان"، يضيف: "أما في نهار رمضان، فأنا حريص على أداء الصلاة في وقتها وأؤدي عملي بكل إخلاص، وأعود إلى منزلي قبيل مدفع الإفطار لأبدأ السهرة بعد ذلك".   -        تعوُّد: إلى ذلك، وعلى الرغم من إعتراف أحمد عبدالفتاح (موظف)، بأنّه يدرك أنّ الإلتزام في نهار رمضان لا ينفصل عن الإلتزام في ليله، إلا أنّه يكشف أنّه تعوّد على السهر قبل وبعد رمضان، ويقول: "رمضان ليس مجرد صيام النهار فقط، فالعبادة في نهاره وليله مطلوبة، ذلك أنّه هو شهر العبادات، ولكن طبيعة الأجواء في رمضان هي التي تجذب الناس إلى السهر.   -        شهر العبادة: لكن، يبدو أن ما سبق من آراء، لا يَتّسق مع ما يؤمن به أشرف نبيل (موظف)، فهو يرى "أن شهر رمضان هو شهر العبادة ولا يجوز أن نفصل بين نهاره وليله". يقول: "أنا أحرص في كل عام على قضاء العشر الأواخر من رمضان في مكة المكرمة". أيضاً، فإنّ رمضان بالنسبة إلى محمد سعد (محاسب)، هو "شهر العبادة بكل معانيها". يقول: "أنا أقضي معظم وقتي في المسجد، فما إن يأتي الشهر الكريم، إلا وأكون قد أعددت العدة لصيامه وقيامه، إذ إنّ من غير المعقول أن نصوم عن الطعام والشراب ولا نصوم عن الغيبة والنميمة، فهل من المعقول أن نُفرّط في أيام رمضان ولا نستغلها في العبادة، وكأن رمضان هو للصيام نهاراً فقط؟". من ناحيته، يُفضّل أسامة عويضة (موظف إستعلامات)، أن يقضي رمضان مع زوجته وأطفاله، ويقول: "أبتعد خلال الشهر الفضيل عن كل المؤثرات الخارجية، وإذا جَمَعَتني جلسة مع شخص يغتاب الآخرين، أصمت وأقرر الإنصراف بعد ذلك فوراً، فالشهر الكريم واحد لا يتجزأ، ولا يصح الفصل بين ليله ونهاره".   -        ضوابط: في سياق متّصل، ثمّة مجموعة من الضوابط الشرعية والأخلاقية والدينية تحكم سلوك عمار الحاج (موظف). ومن هذه الضوابط كما يقول عمار: "لا يجوز التردد على مكان يلتفُّ فيه الناس حول الشيشة، وغير ذلك من الأشياء التي لا تتفق مع روحانية هذا الشهر الفضيل". يضيف: "للأسف، فإنّ التلفزيون لعب دوراً هدّاماً في تشجيع الناس على التردد على هذه الخيام، من خلال ما تعرضه الفضائيات من مسلسلات وسهرات تجذب ضعاف النفوس، فأنا لا أشاهد الفضائيات طيلة شهر رمضان، وأعود من صلاة التراويح لكي أجلس مع أسرتي".   -        عبادة: خلال ليالي رمضان، تحرص كريمة قشمر (موظفة تسويق)، على "العبادة وقراءة القرآن". وتقول في هذا السياق: "منذ أوّل يوم في شهر رمضان أجلس أنا وزوجي نقرأ القرآن ونتعبّد ونتقرّب إلى الله في ساعات الليل، بعد يوم صيام وعمل". وتلفت إلى أنّه "في رمضان فرصة كبيرة للتقرّب إلى الله، وعلى كل مسلم أن يغتنم هذه الفرصة التي لا تأتي سوى مرة واحدة في العام، ونحن ننتظر رمضان من عام إلى عام"، متسائلة: "هل من المقبول أن لا نستغل هذه الفرصة التي تأتينا لكي يرضى عنّا الرحمن؟".   -        مُغرية إنما مرفوضة: بدورها، تسير حفيظة لهيبة (موظفة تسويق) على خطى زميلتها كريمة، وتقول: "ثمّ تناقض كبير أراه لدى هؤلاء الأشخاص الذين يصومون نهاراً ويسهرون ليلاً، فأنا أحرص على الإلتزام ليلاً أكثر من النهار، ففي الليل نُصلّي التراويح ونقرأ القرآن". تضيف: "صحيح أنّ الأجواء مُغرية، لكن الحفاظ على الصيام يتطلب من الشخص أن يعيش أجواء رمضان في الليل والنهار".   -        إتجاهان متناقضان: قد يتبادر إلى أذهان البعض منّا أنّ أولئك الأشخاص الذين يفعلون الشيء ونقيضه، يعانون إزدواجاً في الشخصية، وهو السؤال الذي طرحناه على الأخصائي النفسي الدكتور عبدالعزيز الفقي، الذي قال: "بدايةً، أنا لا أسَمّي هذه الحالة إزدواجاً في الشخصية، ولكنها إزدواج في التصرفات، أي أنه شخص يسير في إتجاهين متناقضين"، لافتاً إلى أنّ "هناك خيطاً رفيعاً بين الخطأ والصواب في سلوكيات هؤلاء، أي الإلتزام وعدم الإلتزام، يصوم النهار ويسهر الليل حتى طلوع الفجر، بلا حسيب ولا رقيب على سلوكياته، وكأنّه ليس في رمضان. يقرأ القرآن وبعدها بدقيقة واحدة يشاهد التلفزيون". ويؤكد د. الفقي أنّ "هذه الشخصية تعاني عدم وجود مُثُل عُليَا في حياتها، فالمثل العليا هي التي تجعل الشخص ثابتاً في تصرفاته، ويتصرف بمستوى مُعيّن".   -        بين الديني والنفسي: ويربط الدكتور عبدالعزيز الفقي بين العاملَيْن الديني والنفسي في تحليله أصحاب مثل هذه السلوكيات بقوله: "هناك حديث للرسول، صلّى الله عليه وسلّم، يقول فيه: "إنّ شَرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه". وفي حديث آخر يقول (ص): "لا تكونوا إمّعَة تقولون إنّ أحسن الناس أحْسَنّا وإنّ ظلموا ظلمنا، ولكن وَطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا". يتابع قائلاً: "الذي أقصده بهذا المعنى، هو أنّ الإنسان جيِّد السلوك هو الذي يتمتع بقيم ومبادئ مستقرة، فهو يُحسن التعامل مع مَن أحسن إليه ومع مَن أساء إليه، بينما في حالة هؤلاء الذين يصومون نهاراً وينفتحون ليلاً، فالمثل والقيَم لديهم ضعيفة. فالشخص تجده مع من يصوم نهاراً، وعندما يأتي الليل يبحث عن أصدقائه الذين يُخرجونه من جَوّ الطاعة الذي مارسه طوال اليوم وحتى ساعة الإفطار، فيبدأ يمارس المعصية التي كان يشعر بأنّه محروم منها على مدار اليوم، ويستحق أن نطلق على صاحبها أنّه "شخصية مهزوزة"".   -        كبْح الشهوات: من جهتها، ترى الباحثة في الحضارة العربية منى بعزاوي، "أنّ الفكرة المترسخة في ذهن المسلم، أنّ الصوم يعني آليّاً تجنّب الأكل والشرب إلى وقت الغروب، أي يصوم النهار ويفعل ما يحلو له ليلاً. وهذا الفهم خَلق انفصاماً وازدواجيةً في القيم والمبادئ المتفق عليها، فمن الناس مَن يرى أنّ الصوم يكون نهاراً فقط، متناسياً فكرة أن شهر رمضان الغرض منه هو التقرّب إلى الله عن طريق كبْح شهوات الجسد والقلب، والتقرب إلى الله تعالى عن طريق الإخلاص في العبادة والعمل الصالح". وتتساءل منى بعزاوي: "لماذا هذه الازدواجية في شهر رمضان؟ وكيف لمسلم أن يصوم طوال النهار ثمّ يأتي بأفعال أو أقوال من شانها أن تنقض صومه؟ وإلى أي مدى يمكن للمسلم أن يستشعر روحانيات هذا الشهر الكريم، في ظل استسلامه لشهواته ورغباته بعد الإفطار"؟ أما الإجابة عن هذه التساؤلات فتلخصها بعزاوي في قولها: "لا شك في أنّ الإنسان الذي يُحلّل لنفسه ما شاء وقتما شاء، ويحرّم ما شاء وقتما شاء إنما يفعل ذلك وهو يعي تمام الوعي أنّه يخدع نفسه لا خالقه". وتنصح منى بعزاوي " بأن يسعى المسلم إلى التمسك بشخصية واحدة وبنظام مستقر، لا أن يكون نهاره صوماً وعبادة ويكون ليله ذنوباً ومعاصي، وأن يكون واثقاً بنفسه وبإيمانه الحقيقي والصادق، وأن لا يَدّخر وسعاً في مراقبة نفسه وتقوية إيمانه بتعويد نفسه على الصبر، وتزكيتها بالعبادة والخضوع وكبح جماع الشهوات".   -        تشريع الصيام: من ناحيته يوضح الشيخ مصطفى عبدالعال "أنّ الله سبحانه وتعالى شرع الصيام في رمضان حتى يخرج الإنسان منه، وقد تعوّد على ما كان ينبغي أن يكون عليه". يقول: "لم يقل الله "فمن شهد منكم النهار فليصمه". وإنما قال تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/ 185). والمقصود الشهر ليله ونهاره". ويتساءل: "ما هو الصيام إذن؟". يضيف: "قال رسول الله (ص): "مَن لم يَدَع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه". والزور هو كل باطل. بالتالي، فهو إثم حرّمه الله، في قوله (ص): "والعمل به". يريد أن يكون الصائم على علاقة بربه طوال شهر رمضان، فهل يصوم الإنسان نهاراً عن فعل المنكرات ثمّ يرجع إليها ليلاً؟ وهل يُعقل أن يكون هذا هو المقصود من الصوم؟". يواصل عبدالعال تفسيره الجانب الشرعي، في ما نمرُّ به من تناقضات في رمضان، ليُضيف مُذكّراً بحديث رسول الله (ص): "إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق، فنادوا اغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم يمن بالخير، ثمّ يثيب عليه الجزيل، لقد أُمرتم بقيام الليل فقمتهم وأمرتم بصيام النهار فصمتم، فاقبضوا اليوم جوائزكم". يقول: "قد بدأ الحديث بقيام الليل وفضله قبل صيام النهار، وهذا ما نحفظه من حديث البخاري ومسلم: "مَن قام رمضان" وهو يختلف عن حديث: "مَن صام رمضان إيماناً وإحتساباً غُفر له ما تَقدّم من ذنبه"، وليس القيام مجرد الصلاة، إنما صيام القلب والجوارح".   -        مع الشيطان: أما المتخصص في الشؤون الأسرية أحمد عامر، فينظر إلى الذين يفصلون بين نهار رمضان وليله، على أنهم "يعيشون نهارهم مع الرحمن وليلهم مع الشيطان، فهم يسهرون ويلعبون وكأن رمضان بالنسبة إليهم هو النهار فقط، وعندما تأتي ساعة الإفطار يتصرفون وكأنهم في غير رمضان". يضيف: "أنا لا أعتقد أن مَن يُدرك معنى الصيام وأحكامه يسهر ليلاً ويقضي وقته متنقلاً بين المقاهي، أو يتوقف عن إغتياب الناس نهاراً ويغض البصر، وعندما يأتي الليل يتصرف كما لو كان في شهر آخر غير رمضان". يقول: "للأسف، فهي جميعها سلوكيات وعادات دخيلة علينا، أسهم الإعلام في الترويج لها، لدرجة أن بعض الناس لهم طقوسهم الخاصة في رمضان، يتناولون الفطور في مكان والسحور في مكان آخر، وما بين الفطور والسحور لهم حياة أخرى، حيث السهرات وشرب الشيشة ومتابعة المسابقات الرمضانية". وينتقد أحمد عامر مَن يقضون نهارهم وليلهم بين المسابقات والفوازير والسهرات، قائلاً: "قبل مَجيء رمضان بأربعة أشهر، تجد الفضائيات تُروّج للأعمال التلفزيونية والمسابقات في رمضان، ويبدأ الناس في الإستعداد لهذه الأعمال من وقت مبكر، ولا ينشغلون بأمور العبادات وما يتمتع به رمضان من أجواء روحانية".►

ارسال التعليق

Top