• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

عالجوا مر الحياة بحلاوة الإيمان

أ. د. محمود عباس

عالجوا مر الحياة بحلاوة الإيمان
◄إن الإنسان العاقل لاينبغي له أن يواجه مرارة الحياة بمسليات وملهيات يعود من رحلتها بالحسرة والندامة وليس مذهب العقلاء ولا من خلق الإسلام، فالمؤمن العاقل الذاكر إذا اشتدت عليه مرارة الحياة عالجها بحلاوة الإيمان فللإيمان حلاوة يستمتع بطعمها السعيد من عباد الله المخلصين، ويحرم لذتها الكسالى والمقصرون. فمن ذاق حلاوة الإيمان هانت عليه مرارة الدنيا وشدتها وقد علمنا رسول الله (ص) كيف نظفر بتلك الحلاوة الإيمانية إذ يقول (ص): "ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيه وَجد حلاوة الإيمان: أنْ يَكُونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهُما، وأن يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّهُ إلا لله، وأن يَكرَهَ أن يَعودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أن يُقذَفَ في النَّار" فمجال الحياة في هذا الحب الغالي وليس في الحب الرخيص فإذا امتلأ القلب بحب الله ورسوله كنت حريصاً دائماً على أن يكون الحبيب راضياً عنك لا غاضباً عليك فليس من الحب أن يفعل الإنسان شيئاً يغضب حبيبه وليس من الحب أن ينفر الإنسان من شيء قدره له حبيبه، فإذا رضيت عن الله في كل ما قسم لك وقدره فقد رضي الله عنك، فمن أين يأتيك الهم أو يصيبك الحزن أو تشعر حتى بمرارة الحياة؟ إننا نكتئب أحياناً ونشعر بالمرارة كثيراً إذا تعلقت قلوبنا في الحب بغير الله أو إذا كان حبنا لحياتنا أشد من حبنا لله (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة/ 24).

فكل حب يشغلك عن الله هو حب يدمر ولا يعمر ويهدم ولا يبني، هو الحب الذي يستعبدك فيسحب عمرك وأنت لا تدري، ويغتال ملكاتك وأنت غافل ويحرك عينيك إلى ما عند الآخرين فتصيبك الحسرة وتشعر بالمرارة، وقد تكره إنساناً لم يأخذ منك شيئاً لمجرد أنك نظرت إلى ما عنده فحسدته فأبغضته. ولكي تعالج نفسك من هذه المشاعر الخاوية الآثمة، فتعلم الحب في مدرسة الحبيب المعلم (ص) وهي مدرسة يرشدك إليها كتاب الله في قوله سبحانه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران/ 31-32)، ومشكلتنا اليوم أنّ الأمور اختلطت علينا فلا نعرف كيف نتبع الرسول (ص) فنفوز بحب الله؟ ولا كيف نبتدع في شئون حياتنا فنحفظ كياننا الذاتي في خضم الحياة؟ اختلط علينا معنى الاتباع والابتداع فأهملنا ملكاتنا وطاقاتنا البشرية في الإبداع. وابتدعنا في سنة رسول الله (ص) أموراً يجب فيها الاتباع، فالإنسان الذي لا يعرف متى يبدع ومتى يتبع هو إنسان يعيش بغير هدى من الله لأنّه فقد المنارة التي يهتدي بها إلى حب الله، فكيف يجد حلاوة الإيمان؟

 معروف أنّ الحياة حلوة خضرة ولكنها غرارة خداعة، كلما حلت أوحلت وكلما كست أوكست، إذا ابتسمت لك يوماً فقد تبكيك أياماً. فشأن الحياة في تجارب البشر أنها لعوب فتانة إذا استرحت إلفى أحضانها الدافئة فسرعان ما تنتقل عنك إلى حضن غيرك وإن تعلقت بها وارتميت تحت أقدامها لتظل في جوارك علمتك الصغار والمذلة والطمع والجشع وربما صيرتك جباناً في مواقف المروءة والدفاع عن الحرمات. ولأنّها لا تساوي عند الله جناح بعوضة فأنت تراها اليوم مقبلة على أناس يبغضهم الله، أو شعوب قطعت صلتها بالله. لأنّه سبحانه يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ولكنه لا يمنح حلاوة الإيمان إلا لمن يحب. فاحذر أن تكون حلاوة الدنيا أكبر همك ومبلغ علمك (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود/ 15-16)، ولا أتصور مؤمناً عاقلاً يسمع أنّ الدنيا رخيصة عند الله إلى هذا الحد ثمّ يخدع نفسه بحلاوتها. وإنّما يستطيع العاقل الواعي بعواقب الأمور أن يظفر بحلاوة الإيمان في طاعة الله ورسوله، فذلك هو الفوز العظيم الذي بشرك به مولاك في قوله سبحانه: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب/ 71)، ففي هذه الطاعة يجد المؤمن زورق النجاة من ويلات الحياة وعذاب الآخرة. فإذا غرتك حلاوة الدنيا فاعلم أنّ الأصفياء والنبلاء من عباد الله لا يحبون حلاوة تكالب عليها الذباب. وإنما يحبون الحلاوة التي يمنحها الخالق للخاصة من أولي الألباب. وإذا رأيت حلاوة الدنيا تشغلك عن حلاوة الإيمان فتذكر أنّ الله إذا أبغض عبداً رزقه من حرام، وإذا اشتد غضبه عليه بارك له في الحرام. فهل تحب أن يبارك الله لك في الحرام فتقبل عليه يوم القيام بحمل ثقيل فتصبح من شدة الندم مع الصائحين النادمين (يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا) (الأحزاب/ 66).►

 المصدر: كتاب القرآن وقضايا العصر

ارسال التعليق

Top