• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

للصوم أكثر من معنى

عمار كاظم

للصوم أكثر من معنى

إنّ للصوم عدة عناوين، فهناك مثلاً الصوم المادّي في دائرة الجسد: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (البقرة/ 187). هذا هو الصوم الجسدي أو قل هو جسد الصوم وذلك بأن تكفّ نفسك عن طعامك وشرابك ولذتك ممّا أراد الله أن تتركه. وهذا اللون من الصوم يصومه التقي ويصومه غير التقي ولكنّ النيّة هي التي تُعطي صوم الجسد معنى روحياً وذلك بأن تترك طعامك وشرابك قربة إلى الله تعالى، وقد ترى بعض الناس يصومون عن الطعام والشراب احتجاجاً على موقف أو من أجل إيجاد حالة جسدية صحّية وما إلى ذلك، ولكنّك عندما تقول: «أصوم قُربة إلى الله» تعالى فإنّك تجعل الصوم يصعد إلى الله لتصعد معه ولتجعله قربة له من خلال نيّة القرب إلى الله عزّوجلّ، ولذلك أعطى الله الإنسان معنى الصوم الذي يرتبط به في روحه لا في ذاتياته: «الصوم لي وأنا أجزي به» لأنّ الصوم ليس حركة مادّية، بل هو يختصر معنى الإخلاص لله سبحانه وتعالى في كلّ هذا الجوع والعطش والامتناع عن المفطرات ممّا أحلّه الله في غير أيّام الصيام. فالنيّة هي التي تمنح هذا الصوم المادّي نبض الروح، وبدونها لا يكون في الصوم نبضة روح.

أمّا الصوم الروحي، فهو أن تعيش في صومك حالة تطهير روحك من الأقذار التي تنفذ إليها فتبتعد بها عن الله، فأن تصوم روحياً يعني أن تخرج نفسك من الغفلة ومن نسيان الله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر/ 19). وأن تصوم روحياً يعني أن تذكر الله في قلبك.. وفي الدعاء: «واشغل قلوبنا بذكرك عن كلّ ذكر». وأن تصوم روحياً يعني أن تعيش مع الله في السراء والضرّاء وفي كلّ خطوة تخطوها.

أمّا الصوم الأخلاقي، ويعني بالإضافة إلى صوم البطن أن تصوم الجوارح، العين والأذن، وكذلك فهو صوم عن المحرّمات وصوم عن المكروهات وصوم عن الشبهات.

ورد في بعض الروايات أنّ مَن يكذّب في شهر رمضان المبارك أو يغتب أحداً، أو يتهم أحداً، أو يجرح بلسانه أحدا فإنّ صومه باطل.

إنّ للصائم الحقيقي دعوة مستجابة عند الإفطار، وإذا صامت جوارحه وأعضاؤه كما صامت بطنه فبإمكانه الوصول بتكامله السلوكي إلى درجة عالية ورفيعة وخصوصاً في الأيّام الأخيرة من الشهر المبارك.

سَمِع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) امرأة تسب جارية لها وهي صائمة فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بطعام، فقال لها: «كلي» فقالت: إنّي صائمة، فقال: «كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك، إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب».

إنّ‌ قضية الصيام، هي ‌أن‌ تكون إنسان الله، أن‌ تشفي روحك حتى تطير إلى الله، ‌و‌‌أن‌ يخفّ جسدك حتى يحلّق ‌في‌ آفاق المعنى الكبير الذي يتحمّل مسؤولية الحياة كلّها، ‌و‌لعلّ هذا ‌هو‌ الذي يفسّر الحديث القدسي: «الصوم لي ‌و‌أنا أُجزي به».

وهكذا يكون الشهر المبارك مدخلاً للنفاذ إلى داخل الإنسان ليقتلع جذور الفساد فيه، ليحصل على خلاصِه الروحي ‌من‌ كلّ ذلك، ‌أو‌ يكون حركةٌ ‌في‌ الفكر ‌و‌المراقبة ‌و‌المحاسبة، ‌في‌ ‌ما‌ يحرّكه الإنسان ‌من‌ كلِّ النوازع الذاتية التي قد تطوف ‌به‌ ‌في‌ أجواء متنوعةٍ ممّا يُرهِق روحه ‌أو‌ يُثقل قلبه ‌أو‌ ينحرف ‌به‌ ‌في‌ سُبُل الضلال، ليعود الإنسان خفيفاً ‌من‌ تلك الأثقال، متحرّراً ‌من‌ كلِّ الأغلال، متوازناً ‌في‌ الخطّ المستقيم. ‌و‌ذلك ‌في‌ تلاوة كتاب الله الذي يجد فيه كلِّ مفردات الحقّ ‌و‌الخير، ‌و‌‌في‌ الانفتاح على الدُّعاء الذي يَصِلُه بالله ‌من‌ أقرب الطُّرق، ‌و‌‌في‌ صلاته التي تعرج فيها روحُه إلى الله ‌في‌ رحلة الإيمان.

ارسال التعليق

Top