هل جربتَ يوماً عناء السهر بالليل ومشقة العمل بالنهار لتحصل في نهاية كلّ يوم وليلة على دراهم معدودة تقيم بها صلبك وتعفَ بها نفسك وتطعم بها ولدك؟ وهل تذوقتَ حلاوة النجاح بعد الجدّ والاجتهاد، ولذة التكريم بعد التفوق والتميز، وعظيم الحفاوة من الأهل والأصدقاء؟ وهل شعرتَ بطعم الراحة بعد العناء وثمرة العمل بعد الانتهاء؟ أوَ ما نظرت يوماً إلى الفلاّح وهو يبذر الحَبَّ ويلقي البذر ثم يصاحبه طوال العام يرعاه ويحفظه من الآفات والحشرات ويحوطه بالعناية نصباً وكدّاً، حتى يصير بستاناً نضراً مورقاً بالخضرة والحياة يلقي إليه بمختلف الثمار؟ وهل تفكرتَ وأخذت العبرة من النحلة وهي تحطُّ من غصن إلى غصن ومن زهرة إلى أخرى تمتص رحيقها فلا تقع في سعيها إلا على الطيب ولا تسير بغير هدى الله فتجني في نهاية السعي عسلاً مصفى وشراباً مختلفاً فيه الشفاء؟ وهل نظرتَ إلى النملة وهي تسير في حرارة الصيف تحمل أثقالاً من الطعام، لكن هذا الحمل يخف عناؤه ويزول أثره وتقلّ وطأته إذا ما وجدتْ ثمرته بعد ذلك مأكلاً لها مخزوناً في فصل الشتاء؟
- إن كلّ هذه الصور وإن بعد المقارنة، وهذه الأمثلة وإن كانت متواضعة، لتذكرّنا بما يحلّ بساحة الصائمين في شهر رمضان حين ينقضي صومهم ويرحل شهرهم وقد انتصروا على أعدائهم، وهم في صلاة وصيام، وقراءة وقيام، وبرّ وإحسان، قد ساروا على منهج الله وتأدبوا بأدب القرآن، وزينوا به مجالسهم، فسالت دموعهم وعلا نحيبهم وارتفعت أيديهم يدعون ربهم رغباً ورهباً يرجون رحمته ويخافون عذابه، فلا يُضيِّع الله سعيهم ولا يُحبط عملهم، وإنما يوفيهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون، ويهديهم مكأفاة نهاية الخدمة في هذا الشهر الكريم، مع شهادة التقدير والتميّز، وفي ظلمة الليل ساجدين، (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجده/ 16-17).
- هدية المغفرة:
ويا لها من هدية تُهدَى للناجحين والفائزين الذين انتصروا على هواهم وشهواتهم في هذا الشهر العظيم، قد دلنا الله تعالى على شروط الحصول عليها، وحدد لنا موعد استلامها ليستعد العبد ويجهز نفسه ليصير من أهلها. (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت/ 35)، إنها بعد انتهاء امتحان الصيام، والنجاح في معركة مجاهدة الأعداء المتربصين بالإنسان دوماً.. إبليس وذريته.. والدنيا المؤثرة.. والنفس الأمارة بالسوء.. والهوى الصاد عن طاعة الله ورسوله، وغيرهم من قُطّاع الطريق المنتشرين على طوله.
إنها في آخر ليلة من ليالي رمضان، وقد أكد النبي (ص) ذلك فقال: "ويغفر لهم في آخر ليلة". قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: "لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله".
فأعظم به من أجر، ويا لهاَ من جائزة! إنها لكل صائم عرف الحكمة من الصيام فالتزمها، فصام قلبه قبل أن تصوم بطنه، وصام لسانه قبل أن تصوم أسنانه، وصامت جوارحه من عين ويد ورجل وأذن، وعقل وفؤاد، وتزود ليوم المعاد، وخرج من شهر رمضان بروح نقية جديدة، ونفس طاهرة فريدة، وعزيمة قوية شديدة، فكان صيامه له حصناً ووقاية، وعوناً على الهداية، وسبيلاً لنيل الجائزة. كما قال النبي (ص): "الصيام جُنة، وهو حصن من حصون المؤمن".
- الغفور.. الشكور:
إنه سبحانه وتعالى يغفر الكثير من السيئات ويشكر اليسير من الحسنات، هذه نعمة تستحق منا شكراً كثيراً وسجوداً طويلاً، فمن ذا الذي يستطيع أن يغفر لمن أذنب ويكرم المذنبين التائبين ويسترهم ويغطي سيئاتهم بستره إلا الله تعالى؟ الغفار الغفور الشكور، الذي يعطي الثواب الجزيل على العمل القليل، المثني على عباده المطيعين، يغفر وهو غني، ويعطي وهو قوي، سبحانه وتعالى، وهو القائل لنا: "يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم.. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً" (رواه مسلم)، ومع ذلك فهو سبحانه يدعونا لنيل هذه المغفرة وتذوّق القرب منه.. يقول النبي (ص): "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له".
وقد كان رمضان شهر القرب وشهر المغفرة، اجتهد فيه العاملون وشمر فيه المخلصون وتنافسوا لنيل درجة القرب من الملك الغني، لذا فإنهم يوم القيامة يرون المنة العظيمة وهي تغمرهم، إنها نعمة المغفرة إذ غفر الشكور لهم، وهو سبحانه لم يغفر فحسب وإنما أثابهم نعيماً فوق الوصف لا يعادله عمل ولا يكافئه شكر، لذا فإنهم يقولون: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) (فاطر/ 34-35).
- فرحتان:
إنها فرحة الطاعة وفرحة الرجاء فيما عند الله تعالى، كما قال النبي (ص): "للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه عز وجل فرح بصومه".
ويودعنا الشهر الكريم تاركاً لنا أعظم هدية وأفضل جائزة، إذ يغفر الله تعالى للصائمين المخلصين، ويقول عمن صام منهم: "يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي"، وكأن هذه المغفرة هي جزء من ثواب الصيام الذي اختص الله تعالى به حين قال: "الصوم لي وأنا اجزي به"، ذلك لأن فيه مجمع العبادات التي مدارها على الصبر والشكر وهما حاصلان فيه.
وها هم المسلمون وقد صامت جموعهم وكان في صومهم مشاهدة الآمر به سبحانه، وتذكّر نعمته عليهم في الشبع، وتقديم رضاه على هوى النفس، وموافقة الحق بمخالفتها وترك محبوبها، ورياضة هذه النفس بترك المألوفات وقطع الشهوات وحفظ الجوارح عن المخالفات، فتحققت عند الفطر لهم فرحتان، وكان "للصائم فرحتان، فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه".
وقال العلماء: أما فرحته عند لقاء ربه فبما يراه من جزائه، وتذكر نعمة الله تعالى عليه بتوفيقه لذلك، وأما عند فطره فسببها تمام عبادته وسلامتها من المفسدات، وما يرجوه من ثوابها.. فمن أخلص لله في عباداته وأعماله ولم يكن مطلبه الرياء أو الشهرة وابتغى وجه الله فيها؛ أعطاه الله الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة.
هيا إلى المغفرة:
والله تعالى يدعو عباده جميعاً إلى مغفرته فيقول: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 133)، (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) (الحديد/ 21)، فالمغفرة هي الطريق إلى الجنة، فهل حاول كل منا أن يعرف سبيله إلى هذه المغفرة؟ لقد كان الصيام من أسبابها وطريقاً لها، فرمضان "أوسطه مغفرة"، وآخر ليلة فيه هي ليلة المغفرة، ثم ينقضي الشهر بأيامه ولياليه ويشد رحاله، فكيف نطلب من الله مغفرته بعد رمضان؟
إن الله تعالى يقول لنا في كتابه الكريم وهو يعلم أننا بشر خطاؤون وعبيد لنا زلات، إذ مهما وصلت درجة الإيمان وارتفعت حرارتها في قلوبنا فنحن نصيب ونخطئ، لذا فإنه سبحانه وتعالى يدلنا على الطريق إليه، ويقول موجهاً ومبشراً: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) (طه/ 82).
فالمغفرة من نصيب التائبين، فمن تاب ورجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق مهما كثرت ذنوبه أو كبرت، وآمن بقلبه وعمل صالحاً بجوارحه فأدى فرائض ربه التي افترضها عليه، واجتنب معاصيه "ثم اهتدى"، أي ثم لزم ذلك ولم يضيع شيئاً منه واستقام على السُّنة والجماعة ولزم الإسلام حتى يموت، وعلم أن لهذا ثواباً وعَمِل صالحاً؛ كانت المغفرة جائزته والجنة مستقره، وكان من خير الناس كما قال النبي (ص): "خير أمتي الذين إذا أساؤوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا".
- دروس ظاهرة:
إذا تفكرتَ في قول النبي (ص) عن ليلة المغفرة: "ويغفر لهم في آخر ليلة"، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: "لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله"، فستخرج من هذه الكلمات القليلة بدروس وعبر تتخذ منها منهجاً لك في حياتك.
وإن من هذه الفوائد: معرفة أهمية العمل وفضل العاملين وبيان أجرهم، ومكافأتهم على إحسانهم، وأثر ذلك عليهم في إتقانه وزيادته، ومنها إعطاء العامل أجره بمجرد انتهائه من عمله سواء كان خادماً أو معلماً أو أجيراً، طالما قبلته عاملاً عندك، والالتزام بما اتفق عليه من أجر سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو الجماعات؛ كالشركات والهيئات والمؤسسات والحكومات، فالنبي (ص) يقول: "أعطوا الأَجِيرَ أجرَهُ، قبلَ أن يَجفَّ عَرقه"، فهل فكّر كل منا أن يعطي من يستعمله في قضاء حاجاته أجره وافياً كاملاً غير منقوص دون تسويف أو مماطلة؟ وهل حاول أن يزيد عليه من عنده كرماً وتفضّلاً؟ وهل يحرص على دفعه إليه وهو ما زال جبينه ينضح بعرق عمله ذاك دون منٍّ أو أذي؟
ومن الدروس المهمة بيان فضيلة العفو منك عمن أخطأ في حقك ومسامحته لوجه الله، مع ستر سيِّئاته وتغطيتها فتغفرها له حتى يغفر الله لك ويكون جزاؤك من جنس عملك.. قال الله تعالى: (وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور/ 22)، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك يغفر الله لك، وكما تصفح يصفح عنك، وكما تحبُّون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم.
وعلى ذلك، فلا يصح منك هجر لأخيك، ولا أن تحمل له بغضاً أو حقداً، لأن ذلك ينفي عنك العفو وإن زعمته وأدّعيته، وقد قال النبي (ص): "لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام". ورمضان فرصه لإصلاح ذات البين وإذابة جليد الشحناء من النفوس.
وكما يجب عليك إتمام صيام رمضان كله لتفوز بالأجر والثواب، فلابدّ لك من إتمام عملك وإتقانه لتكون أهلاً لهذا الأجر مستحقاً له، وإلا كنت غاشاً لمن استعملك خائناً لأمانتك، ثمّ تتبع كل عمل أتممته بالاستغفار لله عزّ وجلّ، تجبر به تقصيراً منك ورد عن عمد أو عن سهو (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المزمل/ 20).
- احذر غضب الله:
وأخيراً.. احذر أن تغتر بعد رمضان، وتقول: قد غفر الله لي وتفعل بعد ذلك ما تشاء، فتقصر في عملك أو تعصي ربك أو تثقل في عبادتك، أو تفتر في واجبك، بل حافظ على أن تكون دوماً من أهل المغفرة، واحذر غضب الله تعالى فهو سبحانه القائل لنا: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة/ 98)، وهو أيضاً (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ) (غافر/ 3)، وقد قال لنبيه (ص): (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ) (الحجر/ 49-50).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق