يُمكن الإشارة الى أنّ (الوعي الحسيني) الذي يُراد للأُمّة أن تتسلّح به، هو أن تعي حقيقة دينها، وإسلامها، وقرآنها، ونبيّها، وأئمّتها. وإلّا فليس للحسين (عليه السلام) شيء خارج الإسلام أو القرآن أو السنّة.. هو مُمثِّلها الشرعي، والناطق الرسمي باسمها، ومن ثمّ فإنّ ثمة مرتكزات ومقومات خمسة رئيسة يمكن استيحاؤها من مدرسة الإمام (عليه السلام)، وهي كما نؤكد باستمرار مدرسة الإسلام بعينه.
1- العرفان (المعرفة):
لا يتحقق الوعي بالرسالة الإسلامية ما لم يستند إلى عرفان الله ومعرفته، لأنّ التناسب بين هذه المعرفة وهذا الوعي طردي، يزدادُ الوعي كلّما ازداد العرفان وهذا ما نلتقطهُ من معرفة الإمام الحسين (عليه السلام) بالله تبارك وتعالى فيما نقرأه من عرفانه به في (دعاء عرفة) الشهير:
«كيف يستدلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقرٌ إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليسَ لك حتى يكون هو المُظهِرُ لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلُّ عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عينٌ لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفةُ عبدٍ لم تجعل له من حبّك نصيباً» .. إنّه (عرفان بالله) و(معرفة) بالأمانة التي كَلَّف الله بها أنبياءه وعباده.
2- المسؤولية:
إنّ حمل الأمانة من قِبَل الإنسان، سواء أُريد بها التوحيد، أو الخلافة في الأرض، أو القيام بأعباء الرسالة الإسلامية، هو من مسؤولية كلّ مَن تَشرَّف بحملها! نبيّاً كان أم وصيّاً، أم إنساناً يتبع الحقّ وأهله، وهو مراد الحديث: «كلّكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيته».
والحمل ليس (الحفظ) بالنقل والتواتر فقط، وإنّما (الحفاظ) عليها وصيانتها من التلف أيضاً، وهذا ما دعا الإمام الحسين (عليه السلام) أن يخرج طالباً الإصلاح في أُمّة جدّه، فهو لم يكتف بكونه وريث النبوّة وامتداداً للرسالة في الموقع التشريفي لذلك، وإنّما جاهد، بل وبذل قُصارى جهده من أجل أن يعيد للرسالة نصاعتها، ونقاءها، وسلامة تطبيقها بعدما عاثت فيها الدولة الأُمويّة المنحرفةُ فساداً، ولم يعمد لغير وسيلتي (الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر).. ولهاتين الفريضتين اللتين إذا غابتا عن الساحة الإسلامية، انطمست معالم هُويّة الأُمّة الإسلامية، حيث يبدو المسلمون حينها مجموعة من البشر أو الناس يقطنون مساحة من الأرض لا شأن ولا ميزة ولا هُويّة لهم، وإنما جاء التمييز لخيريّة الأُمّة المسلمة من قول الله تعالى في حقّها: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران/ 110).
وهذا هو الذي صرّح به الإمام الحسين (عليه السلام) في مستهل نهضته: «إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي أُريدُ أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي». وقد استدلّ عليه بقول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَن رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحُرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بقول ولا بفعل كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله».
وتلك لعمري مسؤولية لم تمت بموت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم تُقتل بمقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، ولم تنتهِ بانتهاء حياة الشهداء والمصلحين من الدنيا، وإنما هي باقية ما بقيت الأمانة والرسالة والتكليف الشرعيّ الحاكمُ على تصرُّفات الإنسان المسلم.
3- الرسالة أغلى من النفس:
جاءت الرسالات السماويّة كلّها بلا استثناء لخدمة الإنسان، والحفاظ عليه، وصيانته من ذاته داخلياً، ومن الاعتداء عليه خارجياً، فإذا تعرَّضت الرسالة الحامية والحارسة والمدافعة عن الإنسان إلى الخطر، كان حقّاً على الرساليين (أصحاب الرسالة) أن ينهضوا للدفاع عنها كما يدافع الجُند عن حدود الوطن، دفاعاً عن قِيَمهم وأنفسهم وأموالهم وأهليهم وعزّتهم وكرامتهم، لأنّه ليس للإنسان شيء من ذلك بدون مظلة العقيدة، وسياج الدين.
وقد وعى الإمام الحسين (عليه السلام) وأنصاره هذه الحقيقة حقّ وعيها حينما صمّموا على مواجهة الموت على الرغم من قلّة العدد وخذلان الناصر، عارفين أنّ التضحية من أجل الدين هي تضحيةٌ بالغالي (النفس) من أجل النفيس (الدين)! ولقد ورد على لسان الإمام الحسين (عليه السلام) مستشهداً منشداً لبعض الأبيات المعبِّرة عن هذا المعنى:
لئن كانت الدُّنيا تُعدُّ نفيسةً*****فدارُ ثوابِ الله أعلى وأنبلُ
وإن كانت الأبدان للموت أُنشئت*****فقتلُ امرئ بالسيفِ في الله أفضلُ
إنّ التضحية من أجل الدين أو الرسالة هي تضحيةٌ ليست موتاً من أجل الموت أو الحصول على درجة الشهادة، وهي عظيمة، وإنما هي تضحية لما يستحق التضحية لأنّ الإنسان إذا انتهكت حرماتُ دينه، لم يبقَ من إنسانيته ما يستحقّ العيش، ولذلك كان المضحون غالباً إيثاريين يؤثرون حياة الناس بكرامة على موتهم بشهامة. يقول الإمام الحسين (عليه السلام) فيما ورد عنه: «لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برماً».
إنّ تضحية بسيطة اليوم بالمال، وبالوقت، وبالجهد ستُنمِّي في النفس الاستعداد للتضحية الكبيرة غداً، وإنّ تضحية الأُمّة الاختيارية ببعض أبنائها اليوم، في مواجهة الظلم ومقاومة الطغيان، يقيها غداً التضحية الإجبارية بعشرات بل بمئات من أبنائها.. وهذا أحد أهم مرتكزات الوعي الحسيني.
4- الأخلاق العالية:
السمو الأخلاقي الذي تمتّع به الإمام الحسين (عليه السلام) وأنصاره جميعاً، نابعٌ من وعيهم لمفاهيم الدين وأخلاق الرسالة، إذ لم يكونوا (طُلّاب سلطة) ولا (دُعاةَ حرب)، وإنما كانوا مسلمين غيارى هزّتهم الحالة المأساوية التي تعيشها الأُمّة فلم يهدأ ولم يهنأ لهم بال، ولم يغمض لهم جفن، وإنما خرجوا لنداء الإنسانية في أعماق ضمائرهم: «مَن سمع منادياً ينادي يا للمسلمين فلم يُجبه فليس بمسلم». ولأنّهم رأوا أنّ القيم الحيّة التي تحقق للإنسان إنسانيته، والأخلاق التي تهب المرءِ مروءتَه، تُداس وتُنتهك، وتُفترس، وتمرّغ بالوحل، فهبّوا تلبية لنداء الإنسان المقهور والمظلوم والمستضعف المضطر الذي كَبَّله جبروت الطغاة، وحرمه من أبسط مقومات الحياة..
نهضوا لأنّ المسلم - حقّ المسلم - لا يستكين لظلم ولا يركع لجور، لأنّ الساكت عن الظلم شيطانٌ أخرس. خرجوا ليكسروا حواجز الخوف التي تطوّقُ بها، الأسواق والطُّرقات والمساجد والمعاهد، بل حتى الدور والساحات العامّة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق