• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مسؤولية الإصلاح في المجتمع

العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله

مسؤولية الإصلاح في المجتمع

◄قال الله سبحانه وتعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات/ 9-10).

عندما نتحدّث عن عظمة رسول الله (ص)، وعن عظمة هذا الدِّين وإعجازه، فشهادتنا غالباً هي مجروحة، ومع هذا، نجد أنفُسنا ـ للأسف ـ ومنذ زمنٍ، نضطرّ إلى خطاب تبريري، ندافع فيه عن الإسلام وعن سماحته ومنظومة القيم التي أتى بها رحمةً للعالمين. وهذا لا يلغي أنّ الكثير، ومنهم رجال دين، يأخذون من الإسلام القشور ليسيئوا إليه ويشوّهوا صُورته باسمه، أو آخرون يأخذون أيضاً بالقشور والسطحيات، لينفوا عنه عظمته ويجعلوه في قبالة العلوم الوضعية أو الطبيعية بكلّ بساطة أو سذاجة.

مفهوم الإصلاح في الإسلام

ومن إعجاز هذا الدِّين، طرحه لكثيرٍ من المفاهيم بطريقة تراكمية وواقعية، تنسجم مع الفطرة الإنسانية جمعاء، وأين ما كانت. وسنأخذ كنموذجٍ مفهوماً كمفهوم الإصلاح، لنرى كيف قدّمه الإسلام، وما هي المساحة التي يتحرّك فيها، وسترون أهميّة الإسلام كدينٍ يتحرّك بفاعلية في الحياة كلّها، وليس كمن يخاطب من برجٍ عاجيّ.

ففي مفهوم الإصلاح، اعترف الإسلام بأنّ المشاكل والخلافات بين الناس هي حالة طبيعية، ما داموا كائنات اجتماعية تحتاج إلى الجماعة والتواصل فيما بينها، من هذا الباب، يبدو الإصلاح حالة طبيعية أساسها الحاجة إلى الأمن والأمان وهدوء البال والسلامة.

فالإصلاح ضروري وطبيعي بين البشر، وهو موجود، ولكنّ توسعة دائرته أو تضييقها هي الأساس. فمن السهولة أن نجد مَن يدعو إلى الإصلاح ما بين أهل البيت الواحد أو الشارع الواحد، ولكنّ الصعوبة، هي في تحقيق الإصلاح بين الدوائر الأوسع والأكبر والأشمل. وهذا ما فعله رسول الله (ص) عندما كان يؤسِّس لدعوته ولدولة الإسلام، حيث كان التناحر الأصعب الذي يحتاج إلى مجهودٍ إصلاحي أكبر بين العشائر والقبائل، حيث الضغائن والصراعات التي كانت تؤدِّي إلى قطيعة وصراع دام يستنزف قدرات الطرفين على مدى عشرات السنين (حرب داحس والغبراء بين الأوس والخزرج وغيرها).

لهذا كان همّ رسول الله (ص) أن يوسِّع دائرة الإصلاح إلى حدّها الأوسع، لا على أساس ديني أو عرقي أو جغرافي، بل على أساس إنساني. كان (ص) ينظر إلى أبعد من ذلك، لتكون المسؤولية الإصلاحية عن المجتمع أو الدولة والأُمّة، هي الأساس في النظرة إلى مفهوم الإصلاح، وكان هذا الطرح يومها جديداً بهذا البُعد الاستيعابي. ولا يزال العالم إلى اليوم يسعى إلى تحقيق هذه المسؤولية، عبر إجراء المصالحات وإطفاء النيران والحرائق، وإن كان الغرب، للأمانة، سبقنا في ذلك حالياً تحت مُسمّيات عدّة، دولاً أو مؤسّسات أو بعثات.

نظرة خاطئة عن الإصلاح

لقد قدّم رسول الله (ص) نظرةً إنسانيةً إستراتيجيةً واسعةً إلى الإصلاح، ولكنّه أعطاه بُعداً إضافياً، ولعلّ هذا البُعد هو ما يفرِّق الإسلام عن النظريات أو الأديان و الأيديولوجيات التبشيرية الأُخرى وما يجعله يتفوَّق عليها. هذا البُعد الإضافي هو ما نجده في القرآن الكريم في الآية التي تلوناها، لتقول: إنّ الإصلاح لا يعني الحيادية، بل يعني الوقوف ضدّ الباغي إن هو استمرّ في غيِّه، حتى لو كان مسلماً، فلا صُلح يؤدِّي إلى تثبيت ظلمٍ أو إضعاف حقّ.

 فتعريف الإصلاح بأنّه وقوف على الحياد هو تطبيق خاطئ، لا بل استخفاف بفكرة الإصلاح وبنظرة الدِّين إليه، وفي ذلك كلّ الخطورة، فغالباً، وتحت عنوان السعي إلى الإصلاح، تميَّع المفاهيم وتضيَّع الحقوق، فيُشمل الظالم مع المظلوم، وصاحب الحقّ مع المعتدي، والمُخطئ مع المصيب، ويصبح كلا المتخاصمين على صواب، أو كلاهما عنده وجهة نظر، بغضّ النظر من منهما المحقّ أو من منهما الذي بدأ أو الذي فجّر!.

الإصلاح لا يكون أعمى، وإلّا هو إصلاح سلبي، وليس كما هو مطلوب إصلاحاً إيجابياً.

للأسف، إنّنا نعاني قصوراً في فهم فكرة الإصلاح، بالرغم من أنّ الأمر في الآية شديد الوضوح، وهو أنّ على المُصلح ليس فقط الإشارة إلى الجانب الحقّ في القضية، بل أيضاً القتال من أجله إن احتاج الأمر ذلك، والمُصلح مأمور بقتال المسلم الباغي.

(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

وهنا يتميّز الإسلام من غيره، بأنّك إذا أصلحت، فعليك أن تكون عادلاً لإحقاق الحقّ، لا لتمييعه أو للقفز فوق الحقائق التي تكون بوضوح الشمس.

إنّ تركيز الإسلام على توسعة دائرة الإصلاح بالنسبة إلينا اليوم، يعني أن لا ندير ظهورنا لما يجري حولنا من فتنٍ، ونقول إنّه لا شأن لنا بما يجري، أو أيّاً من المقولات التي تبرّر الانكفاء والتبلّد وعدم الاهتمام.

إنّ الإصلاح في الإسلام يحتاج منّا الوعي الذي ينفصل عن الغرائز، ويحتاج منّا التفكير البعيد والإستراتيجي، وأيضاً يحتاج منّا الصدع بالحقّ والصبر عليه.

الإصلاح واجب لا خيار

لقد أعطى الإسلام موقعاً وحيِّزاً مميَّزاً للمصلحين والحكماء، هم جزء من البُنى الاجتماعية الفاعلة التي يجب أن لا يخلو منها المجتمع. هذه الفئة التي بتنا ـ للأسف ـ نفتقدها عدداً، وإن وجدت، نفتقد قسطها وعدالتها وحكمتها وبُعد نظرها.

لقد اعتبر القرآن الكريم الإصلاح واجباً وليس خياراً أو استحباباً يمكن الأخذ به أو عدم الأخذ به، بل هو من أوجب الواجبات. (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، وفي آية أُخرى: (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) (الأنفال/ 1).

ثمّ لا ننسى أنّ الإصلاح يشكّل على مستوى المجتمعات، الضمانة أو الورقة الأخيرة، قبل أن يستشري الفساد ويحلّ غضب الله حسب منطوق الآية: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود/ 117).

«الله الله في صلاح ذات بينكم»، قالها الإمام عليّ (ع). فمن أراد أن يتصدّق، فليصلح ذات البين، هي وصيّة رسول الله (ص) لأيوب الأنصاري: «يا أبا أيّوب، ألا أدلّك على صدقة يحبُّها اللهُ ورسوله؛ تصلح بين الناس إذا تباغضوا وتفاسدوا».

ومَن أراد عملاً يفوق أجر الصلاة والصيام، فعليه بالإصلاح: «فإصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام».

فهنيئاً لمن وفّقه الله لأن يصلح ولا يفسد، وأن يعمر ولا يهدم، وأن يجمع ولا يفرِّق، وأن يزيل حواجز ويؤلِّف قلوباً، وله مقابل ذلك الخير الكثير، خير الدُّنيا وخير الآخرة، (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النِّساء/ 114).

اللّهُمّ وفّقنا لأن نكون من الصالحين المصلحين، الدَّاعين إلى الإصلاح وتقريب القلوب، إنّك سميع الدُّعاء.►

ارسال التعليق

Top