يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (آل عمران/ 61). تشير هذه الآية إلى حادثة مهمّة من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبالتحديد في الرابع والعشرين من شهر ذي الحجّة في السنة التاسعة للهجرة، والذي سمي «يوم المباهلة» نسبةً إلى تلك الحادثة. والمباهلة هي طريقة إسلامية تكون في نهاية الحوار بين الآراء المختلفة، عندما يستنفد الجميع الحوار فيما بينهم حول قضايا العقيدة، ويأبى أحد الطرفين أن يقرّ بالحقيقة من وجهة نظر الطرف الآخر، فيدعو الطرف الذي يعتبر نفسه أنّه يملك الحقيقة، الجانب المنكر إلى المباهلة، بأن يلتقي مع أحبّ الناس إليه مع الطرف الآخر فيمن يختاره، ويقفا أمام الله ليدعواه ويبتهلا إليه أن يجعل لعنته على الكاذبين، ومن المعروف في تجربة المباهلة، أنّ الله تعالى يُنزل العذاب على الكاذب منهما. نحن بحاجة إلى أن نستعيد ما جرى، لنستفيد من معاني هذه الحادثة ودلالاتها، ونأخذ من عبرها ودروسها التي بيّنها القرآن الكريم.
جاءت هذه الحادثة لتظهر أهميّة الحوار في الإسلام، وأنّه دين حوار، وأنّ لا مكان عنده للعنف والتوتر في مواجهة الآخر المختلف معه، وأنّه عند أيّ اختلاف، وبعد أن تستنفد النقاشات العلمية الهادئة ولا تصل إلى نتيجة، وحتى لا يصل الأمر إلى خلافٍ يتحوّل إلى نزاع، يدعونا الله إلى تأكيد الجامع المشترك، وترك أمر الخلاف إليه، هو يتكفّل بالكاذب والجاحد بالحقيقة. وفي هذا، قوله سبحانه: (إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة/ 48)، وحيث الحساب (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) (الغاشية/ 25-26).
ولذلك، يمكن القول إنّ المباهلة لا تقف عند هذه الحادثة، بل يمكن أن تتكرّر عند كلّ خلاف فكري أو ديني أو مذهبي أو سياسي أو أيّ خلاف. إنّنا أحوج ما نكون إلى هذا الأسلوب في إدارة كلّ الصراعات الجارية بين الأديان والمذاهب والأفكار، حتى لا يتصاعد التوتر في النفوس، وتتفجّر الصراعات والفتن، وبذلك، تعيش التنوّعات فيما بينها في أجواء السلام والأمان والتعاون. إنّنا نفهم من ذلك رحابة الإسلام وانطلاقه في مسألة الحوار مع الآخرين، ولذلك قال الله تعالى بعد هذه الآيات: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران/ 64). وهذا هو المنهج الإسلامي مع أهل الكتاب ومع كلّ الناس، المنهج المنطلق من الحجّة والبرهان والانفتاح على الآخر والاعتراف به على أساس العلم والعقل.
وهذا ما يجب علينا أن نتعلّمه في كلّ موقع للخلاف، سواء كان خلافاً بين المسلمين وأهل الكتاب، أو بين المسلمين والمشركين، أو بين المسلمين والملحدين، أو بين المسلمين أنفُسهم في ما يختلفون فيه في قضاياهم المذهبية والفكرية والاجتهادية، لأنّ الله تعالى دعا إلى العمل بالمنهج في كلّ مواقع الخلاف، وهذا ما قاله في كتابه: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل/ 125)، وقوله تعالى في الخلاف الإسلامي ـ الإسلامي: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (النِّساء/ 59)، الخلاف في الرأي لا يفرض الحقد والحرب والعداوة والضغينة، وإنّما يفرض التفاهم على أساس الحوار، حتى يكون اختلاف الفكر غنى للفكر، بدلاً من أن يكون وسيلة للحقد والعداوة والبغضاء.
وأخيراً، هذا هو الإسلام في منهجه، وهذا هو يوم المباهلة التي انطلق بها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الصفوة الطيِّبة من أهل البيت (عليهم السلام)، الذين لابدّ لنا من أن نتّبعهم، لأنّهم أخلصوا للإسلام وأهله، وأخلصوا للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي عاشوا في حضانته وتربيته، وانفتحوا على كلّ آفاقه.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق