• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ميزة الإبداع الفني

مركز الدراسات والترجمة

ميزة الإبداع الفني

◄عندما نتكلّم عن خصوصية الإبداع الفني فإننا نفكر بالممارسة الفنية كما تعرّف عن نفسها في تعانق العلاقات الإنسانية الغنية والغامضة. في تقابل الجماعات وفي ذوبانهم المتبادل على مستوى "الدراسات" المتعددة للتجربة اليومية حيث يُلعب في النهاية هذا الرهان الذي هو عمل فني حقيقي. فإذا سُئلنا إلى ما تستجيب هذه المقولة الأصولية فإننا نجيب بأنها تقابل في الإطار الذي نرسمه هماً مزدوجاً: همّ قياس مدى قوة الاقتناع بالعمل (مع الأخذ في الحساب ما يهدف إليه بالتحديد) وهمّ ابتعادها عن الانهماكات السياسية أو الإيديولوجية المباشرة أي بالنتيجة أنها لا تستطيع تقديم المبرّر لنشاط غير نشاطها هي.

إننا نرى أنّ على هذا التعريف أن يسمح بحذف مختلف أنواع "فلسفات الفن" وحتى "الجماليات" من ميدان سوسيولوجيا الفن بقدر ما أنّ جوهر هذه "الفلسفات والجماليات" هو إلى جانب كلّ تجربة إلا تجربة البحث عن استقلالية مطلقة للإبداع.

أما في تناول هذه النظرية لسيوسيولوجيا الفن فإنها تبدو أكثر قابلية للنقاش ونستطيع صياغة الاعتراضات التي يفرضها دياليكتيك حي وتجربة ملموسة في الإبداع:

1-    إنّ التماسك الداخلي لعمل فني، الذي يبدو ضرورياً لإقامة الصلة بين الأشكال الخيالية والنماذج العامة وإقامة الربط بين أسلوب عمل وبين "رؤية العالم" هو إشكالية أكثر مما هو تحصيل حاصل. إنّ تماسك عمل ما أو أسلوب ما ليس سوى الميزة الخاصة لمزاج أو لسياق. إنّه سيبدو من العبث أن نفتش عن اهتمام مماثل لدى هولدرلين أو لدى رامبو هذا دون أن نتكلم عن الموسيقيين أو الرسّامين. وعلى كلِّ حال إنّ التفوق الظاهر الذي ينسبه كلٌّ من لوكاش وغولدمان للأدب من بين الفنون يشكل خطراً حقيقياً في المعالجة العامة. إنّ إعطاء القيمة للقول المكتوب هو إسقاط فكري. ومن ثمّ فإنّ التماسك الداخلي الذي جرى الكلام عنه لا يظهر إلا في الكلام المكتوب.

2-    وإشكالية أيضاً أن يشهد فرد لمرحلة بكاملها: فأن يكون الفنان الكبير هو المبلور للمسائل المتفرقة في زمنه وأن يجسد هذا الفنان حضارة ما. فإنّ هذا القول يتفق مع صورة رومنطيقية لا تأخذ أبداً بعين الاعتبار حقيقة الوقائع ألا ينبغي لكي نُقرّ هذا القول أن نتصوّر أنّ الفنان وأنّ المعرفة الفنية يتجاوزان الأُطر الاجتماعية والبيئات وصراع الجماعات أو الفرق التي تحتوي دائماً  كاتباً ما أو مبدعاً ما؟

ثمّ إنّ هذه المعالجة تجهل أو تتجاهل المظاهر المتعددة للتجربة الواقعية التي لا تشكل دائماً مرجعاً لفرد ما مهما يكن مستوى رفعته في التراتب الاجتماعي. على كلِّ حال إنّ تعلق الأمر بنموذج صالح بالنسبة لعدة أفراد يتميزون بمواهب يؤدي إلى أنّ هذا النموذج يتفق أو يجب أن يتفق مع عادية يعني مع سلوك إنساني ممكن تعميمه. بينما في الفن من الجائز التساؤل إذا ما كانت هذه النماذج العامة موضوعياً هي التي تضفي الأهمية على نتاج ما.

هكذا عندما درس لوكاش غوته فقد جعل من هذا الكاتب الألماني الممثل لكلِّ ما كان يحتويه زمنه. لكلِّ إمكانات التجربة التي احتوتها المرحلة التي عاش فيها. أليس في ذلك إخفاء لما يمكن أن يفرضه وضع المثقّف الملتقي مع أوضاع بقية المثقفين من أبناء زمنه ولكنه أسير مركزه كوزير ويمر Weimar، إخفاء لما يفرضه هذا الوضع على غوته؟ أليس في هذا تناسٍ بأنّ أعمال لانز Lenz وبشنر Buchner وكسلت وهولدرلين (الذي أبعده غوته واحتقره) يمكنها أن تفتح أبعاداً ليست غوتيه؟ ألأن هؤلاء الفنانين لم يجدوا كغوته طريق النجاح الاجتماعي (والجمالي ظاهرياً) ينبغي أن ندفعهم إلى العدم؟ أو أن نلحقهم في فكر غوته الذي لا يعترفون به؟ أنّ اعتبار غوته نموذجاً للإنسانية الممكنة و"الطبيعية" هو بمثابة خلط بين الحقّ المتكسب بمرور الزمن وبين التقييم وزجّ لتفضيل ذاتيّ في التحليل الموضوعي ظاهرياً وذلك (بافتراض تفوق نموذج من التعبير).

ألا نجد هنا تأثير نظرية هيجل في آخر أيامه الذي يساوي بين النجاح وبين الموضوعية والعقل والنصر الاجتماعي؟ لقد عبر لوكاش في كتابه الرواية التاريخية النقطة التي تفصله عن هذا العبث فنراه يعارض شكسبير بمسرحيين آخرين من العصر الإليزابيثي بحجة أنّ شكسبير في روميو وجوليات يقدّم عرضاً "لحب عادي" بينما الآخرون جعلوا من الانحراف محرّكاً لمسرحياتهم! وكأن هملت أو ريتشارد الثالث كانا نموذجين "للعادية" ويعبران عن ميل خافت للتجربة المكتسبة أو الممكنة لمعاصري هذه المسرحيات.

3-    أخيراً إنّ لوكاش وتلاميذه يجعلون من العمل الفني معرفة بما هي كذلك معرفة بالعالم ومعرفة "بالإنسان" (بمعنى إنسانية القرن الماضي الزائلة). ولكن الأمر لا يكون كذلك إلا بالنسبة لنظرية تتطلع للفنان على أنّه المتلّقي الوقتي لمسائل سابقة عليه. سبق وأن فُكِّرت في عالمه، أو في عمل الناس أو من قبل ناقد لحقبة لاحقة. كلّ شيء يتمّ إذاً وكأنّ النتاج يترجم ويعيد تركيب الموضوعات السابقة عليه في كلِّ متصوّر. ►

 

المصدر: كتاب إنتبه! أنت مبدع

ارسال التعليق

Top