نتناول في هذا المقال تأثير وعواقب اليأس والقنوط على الأفراد العاملين.
فمن حيث الأسباب نجد أنّ السبب التالي هو:
1- الغفلة عن جوانب الفشل في حياة الأعداء:
ذلك أنّ حياة الأعداء برغم ما فيها من نجاحات تتمثل في هذا التقدم العلمي الهائل في كلّ شؤون الحياة، والذي به كانت سيادة وسيطرة هؤلاء على غيرهم من الأُمم الضعيفة أو المستضعفة، إلا أنها لا تخلو من جوانب فشل وإخفاق في جانب القيم والأخلاق، فمنها ما ينكر وجود الله بالمرّة، ويقول: الكون مادة، ولا إله، والدين أفيون الشعوب، ولا آخرة، وإنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر، وتبعاً لذلك يطلق العنان لنفسه أن تناول حظها من الشهوات بكلِّ ما تيسّر لها من سبل وأساليب.
ومنها ما يشرك بالله ويتصور الجزاء في الآخرة قائماً على مبدأ المحاباة، والمحسوبية وتبعاً لذلك يُقبل على الشهوات واتباع الهوى غير ملتزم بأي ضابط خُلقي أو إنساني، ولقد انتهت الأمور بهؤلاء وأولئك إلى القلق والاضطراب النفسي، والفرقة، والقطيعة، والعلل، والأمراض البدنية المستعصية على العلاج، وشيوع الجريمة، وتمرد الظواهر الكونية ونحوها، وأخيراً اليأس والقنوط إلى حد كراهية الحياة، ومحاولة التخلص منها بطريق أو بأخرى.
وهكذا.. لا تخلو حياة الأعداء من جوانب فشل، نهايتها اليأس والقنوط وغفلة المسلم عن هذه الجوانب يوقعه فيهما لا محالة.
2- عدم معرفة الله حقّ المعرفة:
وقد يؤدي عدم معرفة أنّه سبحانه موصوف بكلِّ كمال، منزه عن كلِّ نقص، ومن كماله سبحانه: نصر المؤمنين، وإعزاز الدين، - شريطة أن يكون المؤمنون أتقياء أقوياء، فإن اختل هذان الشرطان أو أحدهما كانت السيادة والغلبة لغيرهم ليفيق المؤمنون، ويعودوا للأخذ بأسباب القوة والغلبة – قد يؤدي عدم معرفة الله على النحو المذكور إلى الوقوع في اليأس والقنوط.
3- سوء الظنّ بالله – عزّ وجلّ –:
من أنّه لا ينصر دينه ولا يؤيد أهله، وأولياءه، وأنّ دينه سيضمحل، وأنّ أهله وأولياءه سيقضى عليهم، وينتهون، كما قال سبحانه: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا) (آل عمران/ 154).
وكما قال – عزّ من قائل –: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (الفتح/ 6).
يقول ابن القيم – رحمه الله –: "فمن ظنّ بأنّه لا ينصر رسوله، ولا يُتمّ أمره، ولا يؤيّده، ويؤيِّد حزبه ويعليهم، ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنّه لا ينصر دينه، وكتابه، وأنّه يُديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحقِّ إدالةً مستقرة يضمحلُّ معها التوحيد والحقّ اضمحلالاً، لا يقوم بعده أبداً، فقد ظنّ بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله، وجلاله، وصفاته، ونعوته".
وهكذا: قد يؤدي سوء الظن بالله إلى الوقوع في اليأس والقنوط.
4- ضرب أو إجهاض كلّ محاولة نجاح أو فوز:
مرور النجاح أو الفوز بسلام واستقراره على أرض الواقع مما يبعث الأمل في النفوس، ويبث الثقة في القلوب، أمّا القضاء على كلِّ نجاح أو فوز بالضرب أو بالإجهاض فإنّه يسمح بتسرب اليأس والقنوط إلى النفوس.
وأمثلة ذلك من الواقع المعيش اليوم كثيرة لا تخفى على كلِّ ذي لُبّ، وبصيرة على المستوى الفردي، والجماعي، والحكومي، والشعبي، والدولي، والعالمي.
5- عرض تاريخ الأُمّة: أفراداً وجماعات، حكاماً ومحكومين، عرضاً مشوّهاً مبتوراً:
ذلك أنّ قيمة كلّ أمّة في صفاء تاريخها، ونقاء سيرتها أفراداً وجماعات، حكاماً ومحكومين، فإذا ما شوّه هذا التاريخ، وعُرض عرضاً مبتوراً ناقصاً فقد قضى على ما تُفاخر به الأُمّة وتباهي به بين الأمم والشعوب، وفتح الباب لتسرب اليأس والقنوط إلى النفوس على النحو الذي صنعه الأعداء والمغرضون بتاريخنا، وحسبنا من ذلك ما عرضه جورجي زيدان في كتابه: "تاريخ التمدن الإسلامي"، وما عرضته إسرائيل وهي تحتفي بمرور خمسين عاماً على إنشائها من تزييف النجاح الذي حققته الأُمّة في حرب رمضان عام 1973م، وتشويه المستشرقين والمستغربين لجهاد المجاهدين من أبناء هذه الأُمّة، بدءاً بالشيخ محمّد بن عبدالوهاب، وانتهاءً بالشيخ حسن البنا عليهما من الله الرحمة والرضوان.
6- القطيعة والفرقة:
فالمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، والدين لا يمكن له التمكين الصحيح إلا بجماعة تتمتع بكلِّ مواصفات الجماعة، كما قال عمر: "لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا ببيعة، ولا بيعة إلا بطاعة".
وإذا دبت القطيعة بين أبناء الأُمة الواحدة، وعلتها الفرقة والتمزق زال وانمحى مبعث الأمل والرجاء من نفس المسلم، وحلّ محله اليأس والقنوط.
7- الغفلة عن سنن الله في مواجهة الإخفاق والفشل:
إنّ لله سنناً في مواجهة الإخفاق والفشل، وتتمثل هذه السنن في العمل بحكمة، واستمرار، مع استعانة بالله – عزّ وجلّ – وحُسن توكل عليه حتى يقضي على هذا الإخفاق، ويزول الفشل والغفلة عن هذه السنن، والأخذ بها يوقع لا محالة في اليأس والقنوط.
8- العيش في وسط يسيطر عليه اليأس والقنوط:
سواء أكان هذا الوسط قريباً كالبيت، أم بعيداً كالمجتمع، مما يبعث على اليأس والقنوط، لاسيّما إذا لم يكتمل نضج المرء، ولم يكن يتمتع بالحصانة اللازمة للحماية من الوقوع في براثن هذه الآفة.
9- ضعف الهمم، وفتور العزائم، ونزول الإرادات:
ذلك أنّ الهمة القوية، والعزيمة الصادقة، والإرادة العالية مما يبعث على الأمل. ويزرع الثقة والرجاء في النفوس أن تتخطى العوائق والحواجز مهما يكن شأنها وقوتها، بخلاف ضعف الهمة، وفتور العزيمة، ونزول الإرادة فإنّها تفتح الباب أمام اليأس والقنوط أن يشقا طريقهما إلى القلوب، وأن يسيطرا على النفوس.
10- الغفلة عن عواقب وآثار اليأس والقنوط:
قد تكون هذه الغفلة على كلِّ المستويات الفردية والجماعية، الحكومية والشعبية، على النحو الذي سيظهر من خلال العرض بعد قليل – من بين البواعث الحاملة على اليأس والقنوط، من باب أنّ الجهل بالعواقب الضارة، والآثار المهلكة لأمر ما قد توقع المرء في هذا الأمر، ثمّ يكون الندم حين لا ينفع الندم.
إلى غير ذلك من الأسباب.
آثار وعواقب اليأس والقنوط:
إنّها آثار ضارة، وعواقب مهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي، ودونك طرفاً من هذه الآثار وتلك العواقب:
أ) على العاملين:
1- القعود عن أداء الواجبات:
بأن يتخلى المرء عن الالتزام بمنهج الله، بل عن الدعوة إلى دينه سبحانه وتعالى متذرعاً بأنّ ذلك ألّب الكارهين للإسلام الحاقدين عليه ضدّه، وجرّ عليه ويلات وويلات في نفسه، وأهله، وذويه، وأمواله، ومركزه، وما كان أغناه عن ذلك، خصوصاً أنّ قضية الالتزام بدين الله، والعمل لهذا الدين ما جنتْ شيئاً يذكر في مواجهة تحديات الأعداء!
2- دعوة الآخرين إلى القعود عن أداء واجبهم:
فاليائس القانط الذي قعد عن أداء دوره وواجبه يريد أن يجد لنفسه سلوة أو أسوة، ولا يرى ذلك إلا في دعوة الآخرين إلى القعود عن أداء دورهم وواجبهم مثله، وفي عصرنا الحاضر قعد واحد من أبناء الحركة الإسلامية عن أداء دوره وواجبه ضعفاً من ناحية، ويأساً وقنوطاً من ناحية أخرى، فإذا هو يضع كتاباً بعنوان: "خمسة وعشرون عاماً في جماعة" يدعو فيه الناشئة إلى الابتعاد عن الحركة الإسلامية لأنّه لاقى الأمرين من وراء الالتحاق بها، وما جنى شيئاً يذكر، وهو يضنُّ بهؤلاء الناشئة أن يصيبهم مثل الذي أصابه، أو يحل بهم مثل الذي حلّ به.
3- الخضوع والاستسلام لمن يُحادّون الله ورسوله:
إذا سيطر اليأس والقنوط على المرء لم يجدْ بُدّاً من الخضوع والاستسلام لمن يحادّون الله ورسوله، ظانّاً أنّه يجد عندهم النجاة والخلاص، وأولئك يعرفون نقطة الضعف هذه، فيستغلونها في تحقيق مآربهم، ومصالحهم بأن يجعلوا من هذا الصنف من الناس عيناً لهم، بعد أن يلقوا به في حمأة الإثم والرذيلة، وحينئذ يكون ممّن خسر الدنيا والآخرة جميعاً، وذلك هو الخسران المبين.
وفي تاريخ الحركة الإسلامية نماذج عدّة من هذا النفر، منهم مَن قضى نحبه، ومنهم مَن ينتظر، وقد حاد عن الطريق المستقيم، فارتمى في أحضان مَن يُحادون الله ورسوله مستسلماً منقاداً لهم بسبب اليأس والقنوط.
4- الشك في كلّ ما ينتمي إلى الإسلام والمسلمين إلى حدِّ الطعن والتشويه:
ذلك أنّ اليأس والقنوط إذا سيطرا على المرء دخله الشك والارتياب في كلِّ ما ينتمي إلى الإسلام والمسلمين: سياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وفكرياً، وعلمياً، وأدبياً، وإعلامياً، إلى حد السخرية، والاستهزاء، والاحتقار، والازدراء، بل الطعن والتشويه، وفي الواقع المعاصر نماذج عدّة ناطقة بصحة هذا الأثر يمكن اكتشافها بقليل من البحث والتنقيب.
5- حمله وزر نفسه وأوزار المقتدين به:
فالمرء بيأسه وقنوطه قد تحمل وزراً عظيماً عن نفسه، وعن مَن اقتدى به لاسيّما من الناشئة والشباب وضعاف الهمم والعزائم، لأنّه حينئذ من دعاة الضلالة، وقد قال النبي (ص): "ومَن دعا إلى ظلالة كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً".
* أستاذ الحديث وعلومه بكلية الشريعة – جامعة الكويت
المصدر: مجلة المجتمع/ العدد1366 لسنة 1999م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق