إلهي إذا ما عشتُ في الأرض محسناً
الإحسان من أفضل منازل العبودية، بل هو حقيقتها ولبها وروحها وأساسها، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك. فهو لب الإيمان، وروح الإسلام، وكمال الشريعة، وهو يدخل في سائر الأقوال والأفعال والأحوال، وأعظم درجات الإحسان هي الإحسان مع الله جلّ وعلا، ثمّ إحسان المرء مع نفسه وأهله وسائر المخلوقين، حتى يشمل البهائم والعجماوات، يقول (ص): "إنّ الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة". وقد ورد في الحديث الصحيح: "أنّ امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يُطيف ببئرٍ، قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فغفر لها". وكل أصول وفروع المعاشرة وآدابها، وكل قوانين التعامل ترجع إلى الإحسان، فهو يشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة، وعلاقاته بالبشرية جميعاً، بل وعلاقاته بسائر المخلوقات. والمحسن محبوب من المخلوقين، ومحبوب من الخالق، ولذلك كانت منزلة المحسنين عند الله تعالى عظيمة، ومرتبتهم كبيرة، ودرجاتهم عالية، قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ)، أي ليس من جزاء لإنعامي عليكم بالإيمان والتوحيد إلا الجنة، وبيَّن تعالى أنّه مع المحسنين بتوفيقه وحفظه وتأييده، فقال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل/ 128). وأعلن جلّ وعلا محبته للمحسنين في أكثر من آية فقال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134)، وأخبر تعالى أنّ رحمته قريبة من المحسنين، فقال: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/ 56)، وطمأن المحسنين بأنّ إحسانهم محفوظ، وعملهم مشكور، وفعلهم مبرور، فقال: (فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (هود/ 115)، بل أدخل السرور عليهم، وأعلن البشارة لهم، فقال في آيات كثيرة: (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (الحج/ 37). بل لقد أعطى على الإحسان ما لم يعط على غيره فقال تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (يونس/ 26). فهو تعالى يخبر أنّ من أحسن في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح أبدله الله الحسنى في الدار الآخرة، وأسكنه الجنة وأعطاه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وزاده مقابل إحسانه زيادة عظمى أكمل مما مضى، وأجمل مما ذكر، وهي النظر إلى وجهه الكريم جلّ وعلا، وتأمل هذا الجزاء البديع والمنزلة الرفيعة التي استحقها المحسن لأنّه عاش عمره، وقضى حياته وهو يعبد الله كأنه يراه، ويراقبه في كل حركة وسكنة وكأنه ماثل أمامه يستحيي منه، ويخاف بطشه ويخشى عقابه، ويقدره حق قدره فحقق الله له الرؤية، وأنعم عليه بأن كشف له الحجاب لينظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم. قرأ (ص) هذه الآية: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (يونس/ 26)، وقال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقّل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا عن النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقرّ لأعينهم"، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة/ 22-23).
والثواب العظيم في جنة المولى
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق