• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«رمضان» شهر الرحمة والغفران

العلامة الدكتور محمّد بحر العلوم

«رمضان» شهر الرحمة والغفران

قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185).

لشهر رمضان المبارك قدسية خاصة بين شهور السنة الهجرية لدى المسلمين لأنّه (شهر الله)، فقد كرّم الله سبحانه هذا الشهر، فاعتبره شهر الرحمة والغفران ينقطع العبد فيه إلى خالقه في صباحه ومسائه وقد فتحت له أبواب المناجاة والابتهال، لطفاً منه عزّ وجلّ ليعيد صياغة نفسه في ضوء رحمة الله التي لا حد لها إذ هو القائل: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر/ 60)، وهو الغفور الرحيم.

كما يمكن أن نطلق على هذا الشهر "شهر الإنسان" لعلاقته بالإنسان مباشرة، فهو:

أوّلاً: في عبادته ضمن هذا الشهر الفضيل وأهمية أيامه ولياليه، وانقطاعه إلى الله سبحانه يمكن أن يبني وجوده وشخصيته كما يريده خالقه كمسلم يمتثل أوامر خالقه، وينتهي عن نواهيه وبذلك يكون قد كسب موقفاً سليماً يقرّبه إلى الله تعالى.

ثانياً: إنّ الإنسان في حالة توفيقه لصيام هذا الشهر الفضيل يكون قد عالج جسده من تراكمات الأكل طيلة الأشهر الماضية، وأراح معدته من مضار الشحوم والمواد البطيئة الهضم والمسببة للأمراض الخطيرة التي تتكون نتيجة الإسراف الخارق بالمأكولات والمشروبات مما يخل بجسم الإنسان.

ثالثاً: إنّ الالتزام بمستحبات هذا الشهر تؤكد على التواصل بين الأقرباء والأصدقاء والأحبة وبما يشد أواصر الاخوة بين المسلمين، وتؤدي إلى توادهم وتحابهم، وهذا في حد ذاته مكسب اجتماعي مهم، يدعو له الإسلام كما جاء في حديث الإمام الصادق (ع) لأصحابه: "اتقوا الله، وكونوا اخوة بررة متحابين في الله متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا، وتذاكروا أمرنا وأحيوه".

إذاً شهر رمضان هو المورد لتحقيق كلّ هذه المتطلبات الدينية والإنسانية والأخلاقية وهي قيم إسلامية تحمل في طياتها الجوانب التربوية من أجل الكمال الإنساني، فالإنسان بحاجة إلى الاستفادة من المعايير الإسلامية التي ترمي إلى ابراز أفراد المجتمع الإسلامي بما يسعده في إطار إنسانيته وتنميتها.

إنّ الله سبحانه حين فرض أمراً على عباده فهو لصالحه قبل كلّ شيء، وحاشا له أن يفرض على عباده أمراً ما لا طاقة لهم على تنفيذه، وليس من الضروري أن تعرف تلك المصلحة فهي من اختصاصات الخالق، ولكن الذي نهتدي إليه هو العامل التربوي فالملكات الحميدة لدى الإنسان والتي أودعها الله سبحانه في النفس البشرية تتنازعها عوامل الخير والشر، والحقّ والباطل، ومن أجل تنمية جانب الحقّ والخير لابدّ للإنسان من القيام بأعمال وتوجيهات توفر له الاستعدادت للتأهيل النفسي للحصول على تلكم الملكات المانعة من تسرب الشر إلى ذهن الفرد الذي يعيش مغريات هذه الحياة المرهقة المفعمة بالإغراء، والتي تدفعه للانزلاق في مهاوي الجهل والانحراف، وقد قال الله سبحانه: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8)، إذاً فالملكة موجودة لدى الإنسان ويتمكن من تنميتها وتفعليها وتطويرها إلى أي جانب يشأ إلى الحقِّ أو الباطل، أو الخير أو الشر.

والله سبحانه فرض شهر رمضان على المسلمين وعلى غير المسلمين قبلا من أجل انقاذ البشر من مهاوي الضلال، ولتعميق ارتباط الإنسان بخالقه يقتضي السير على ما خطط له ربه، وتحقيق ذلك مرهون بعمله في الدنيا، والوقائع الخارجية هي التي تحدد مساره الدنيوي بعد أن وضحها له بكلِّ جزئياتها من باب اللطف مع العباد، فالعقاب قبيح على الفرد أو الأُمّة إذا لم توضح لهما تلك المهام (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3).

وبالحقيقة انّ شهر رمضان يوفر الأجواء للمسلم لتحلى خلاله بجهاد النفس، فليس الصيام عن الأكل والشرب هو كلّ شيء، بل لابدّ أن تصوم كلّ جوارحه عما لا يرضي الله، وهو ما يطلق عليه النبي العظيم (ص) بـ"الجهاد الأكبر".

ومن هنا فإننا نستطيع أن نطلق على هذا الشهر الفضيل بـ"شهر الإنسان" بمعنى أن يطهر الفرد نفسه من أدران الدنيا الفانية، ويبعدها من أوضارها، ويطبعها على ما يرضي الله سبحانه، ويرفض عما يدنسها من الأخطار فالنفس أمارة بالسوء، والله من وراء القصد.

ارسال التعليق

Top