• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

آل عمران عائلة عظيمة

د. عمرو خالد

آل عمران عائلة عظيمة

آل عمران عائلة الأنبياء، عائلة عظيمة، تتكون من جد اسمه: عمران، زوجته امرأة صالحة، لا نعرف اسمها رغم أنها سببُ خيرِ العائلة وصلاحِها، أخرج الله من ذريتها بنتين، الأولى تزوجت سيدنا زكريا (ع)، أما الثانية والتي وُلِدَت بعد فترة كبيرة هي السيدة مريم (ع).

الأخت الكبرى أنجبت سيدنا يحيى (ع)، والأخت الصغرى أنجبت سيدنا عيسى (ع). حقاً إنها عائلة عظيمة، عائلة الصلاح والتقوى، عائلة الأنبياء. خُلّد ذكراها في القرآن إلى يوم الدين، ولم لا؟ وهي عائلة مؤمنة، هذه هي مقاييس العائلات، صلاح، تقوى، إيمان، نقاء، طهارة. تُرى ما هي مقاييسنا اليوم في المفاضلة بين عائلة وأخرى؟ هل هي مقاييس الحسب والنسب أم مقاييس الجاه والسلطان؟ فهذا يتفاخر بعائلته، فهو ابن المحامي المشهور فلان، وعمه الطبيب المعروف فلان، وخالة التاجر الثري فلان. آل عمران عائلة العائلات، هكذا تكون النظرة الصحيحة، فاحرص أن تكون عائلتك على هذا المستوى.   - صحِّح هدفك! سورة في القرآن باسم عائلة، أي شرف وأي فضل نالته هذه العائلة المؤمنة؟ ألا تحب أيها الشاب أن تقتدي بهذه العائلة وأن تجعلها دائماً وأبداً أمام عينيك؟ فبإقدامك على مشروع الزواج تكون بذلك قد وضعت اللِّبنة الأولى في صرحٍ كبير اسمه "العائلة" فما أنت وزوجك إلا نواة لعائلة كبيرة. فإذا كان هدفك هو الوصول إلى عائلة مؤمنة نقية تقية تخرج ذرية صالحة، مثلها الأعلى آل عمران. إذا كان ذلك هو هدفك فاختر زوجك على هذا الأساس. ولا تجعل الشعر والعينين هما الأساس! ابحث أوّلاً عن الموصولة بربها المُحبّة لدينها، هكذا تكون على طريق آل عمران. وهذا لا يمنع أن تختار الجميلة التي تسرك إذا نظرت إليها، ولكن الأساس والمقياس هو الدين. كذلك البنت التي تهدف إلى بناء عائلة كآل عمران عليها باختيار المؤمن ذي الخلق والدين، وإياك أن تتمحور مواصفاتك لزوج المستقبل حول الشكل والمال والحسب والنسب فقط! فلا بأس من هذه الأشياء طالما توافرت صفات الدين والخلق وهما الأساس. أيها الأب أيتها الأُم: إنّ العائلة أمانة في أعناقكما، فالله الله في هذه الأمانة. بأيديكما تكرار تجربة آل عمران، تلك العائلة المؤمنة التي أنجبت الصالحين! يا لفرحتكما بأبنائكم وأحفادكم حين ترونهم تسعد الدنيا بأخلاقهم وإيمانهم، لقد خرّجتم إلى الدنيا نماذج ناجحة في كل شيء: إيمان، أخلاق، سلوك، علم، عمل. يا له من حلم تحقيقه على أيديكم! أيها الآباء لا خوف بعد اليوم: عائلة عمران من آخر عائلات بني إسرائيل، وكذلك فأنبياؤها من آخر أنبياء بني إسرائيل. فآخر نبي منهم هو سيدنا عيسى (ع)، أما سيدنا يحيى فهو أكبر من سيدنا عيسى (ع) بحوالي ثلاث سنوات تقريباً، إنها عائلة صالحة من ذرية داود وسليمان! نعم فعمران وزكريا جدّهما هو سيدنا داود (ع). سبحان الله، إن سلالة الأنبياء كلها موصولة ببعضها، تُرى أهذه صدفة؟ فرسول الله محمد (ص) جده سيدنا إسماعيل (ع) وسيدنا يوسف جده سيدنا إبراهيم (ع). حاشا لله! ليست صدفة بالطبع، فالله سبحانه وتعالى يعلمنا شيئاً عظيماً لابدّ أن نفهمه جيِّداً ألا وهو: رجل متدين يفهم دينه فهماً صحيحاً ويحب الله من كل قلبه فما يكون الجزاء إلا أن يرضى الله عنه ويُخرج من ذريته الصالحين، إنّها رسالة إلى كل إنسان. كن صالحاً تخرج ذرية صالحة وبحسب إيمانك ومنزلتك عند الله يُخرج من ذريتك الأتقياء العابدين. ربما كان لك رأي مخالف؟ نعم أنا معك، فلكل قاعدةٍ استثناء، ولكن الأصل هو الصلاح. لذلك إذا رأيت شاباً متديناً أو شابة متدينة تأكّد أن في العائلة رجلاً صالحاً موصولاً بالله أو امرأة صالحة موصوله بالله، (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) (آل عمران/ 34)، بشرى لكل أب وأم! لا تخافا على أولادكما رغم ما تريانه منهم في فترة المراهقة، فأنتما الضمان لهما طالما أنكما مؤمنان موصولان بالله. ليس معنى ذلك ألا تربيا وتبذلا الجهد المطلوب في التربية والتقويم، فالتربية مرحلة لا نهائية، خذا بالأسباب وحينها ومهما حدث من ابنكما فسيرجع إلى رشده وصوابه، لقد رأيت ذلك بعيني، واقرأوا قول الله تعالى في سورة "الكهف" عن سبب حفظ الله لليتيمين: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) (الكهف/ 82).   - نبيان وعائلتان: هيا لنستعرض قصة آل عمران من القرآن الكريم: يقول الله عزّ وجلّ: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 33)، لقد اصطفى الله سبحانه وتعالى هؤلاء الأربعة على العالمين: آدم، نوح، آل إبراهيم، آل عمران. تأمّل معي في هذه الأسماء، ستجد أنّ هذين النبيين وهاتين العائلتين، هؤلاء الأربعة هم محور البشرية جميعها، فآدم أبو البشرية، ولما غرقت الأرض بعد الطوفان بدأت من جديد مع سيدنا نوح، وكأنّه أبو البشرية الثاني، أمّا بالنسبة للعائلتين فسيدنا إبراهيم هو أبو الأنبياء، جاء من ذريته أنبياء كثر، وجاء من ذرية ابنه إسحاق كل أنبياء بني إسرائيل: يعقوب، يوسف، الأسباط، داود، سليمان، شعيب، يونس. وجاء من ذرية ابنه إسماعيل النبي (ص)، أمّا العائلة الثانية "آل عمران" فكان منها زكريا ويحيى ومريم وعيسى (ع). اصطفاءً من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء على العالمين. أي فخر أنتِ فيه يا أمة محمد! فنحن نؤمن بهؤلاء الرسل مصداقاً لقول الله: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة/ 285)، لك الحق يا أُمّة محمد أن تفتخري بأنك ورثة الأنبياء! بل لله: أوّل آية بدأنا بها: (إن اللهَ اصطَفَى)، ولذلك قلنا: إنك واقعٌ تحت نوعٍ من الاصطفاء، انظر إلى تعداد أهل الأرض الذي يُقدر بستة مليارات ونصف، جعلك الله من المليار وربع المسلمين، ومن المليار وربع المسلمين نجد أن نصفهم أو ربعهم لا يصلون، وقد جعلك الله من الثلاثة أرباع الذين يصلون، وهذا اصطفاء آخر، وبعد ذلك اصطفاك الله مرة أخرى من الثلاثة أرباع الذين يصلّون فجعلك من الربع الذين يصلون في المساجد، وجعلك تحضر الصلاة وجلسات العلم في المسجد، انظر إلى مدى حب الله لك! أيها القارئ الحبيب، إياك أن تظن أن ذهابك إلى المسجد خارج عن قدر الله تبارك وتعالى، وإياك أن تظن أن ذهابك إلى المسجد ليس رحمةً من الله – عزّ وجلّ – لست أنت السبب في ذهابك إلى المسجد، وإنما الله هو السبب. أقول لك شيئاً آخر، أتذكر الأسبوع الماضي، أتذكر الذنب الذي فعلته؟ لو أن والديك هما اللذان يقرران خروجك من البيت وذهابك للمسجد، أكانا سيمنعانك من الخروج أم لا؟ سيقولون: أنت لا تستحق، أليس كذلك؟ وأنت كم أخطأت في حق الله سبحانه، الأسبوع الذي مضى كم مرة لم تصلِّ الفجر؟ وعملت كذا وكذا، وعصيت كذا، وفي النهاية أكرمك وأحسن إليك، أرأيت كم يحبك؟ ثمّ اجتباك أكثر وأقعدك في درس علم موجود فيه آلاف من البشر ويمكن أن يكون آلاف من الملائكة. حديثنا عن كيفية المحافظة على الاصطفاء، نحن نسمع عن شباب يذهب إلى المسجد ويتحول بعد أسبوعين إلى إنسان آخر لم يعد يهمل في حياته أو يضيع وقته أو يتصف بالسلبية. انتبه أنّ هذه السورة نزلت بعد غزوة أُحد، وهي الغزوة التي نزل فيها الصحابة من على الجبل، وعصوا أمر النبي (ص) فالله يقول لهم: أنتم أخطأتم، لكن أنا سأصطفيكم مرّة أخرى حتى لا تقعوا في هذا الخطأ مرة ثانية، وستدركون من خلال سورة كاملة اسمها سورة "آل عمران" صفات الناس الذين اصطفاهم الله تبارك وتعالى. سبب آخر: انتبه، هناك سبب آخر لتسمية السورة بـ"آل عمران"، وإن كان الاصطفاء السبب الأصلي، لكن هناك سبب ثانٍ وهو أنّ السورة نزلت أثناء احتكاك المسلمين باليهود والنصارى، احتكاك قوي جدّاً فهي نزلت عندما أتى وفد نصارى نجران – وهم من منطقة نجران باليمن – إلى المدينة ليناظروا النبي (ص) عن سيدنا عيسى (ع)، أنا أريد أن أعرّفك رحمة الإسلام، فهؤلاء القوم بلدهم اليمن بمعنى: أنهم ليس لهم سكن في المدينة، فتخيلوا أين يسكنهم النبي (ص)؟ انظر إلى رحمة النبي (ص)، أسكنهم في المسجد حيث قام فبنى لهم بناء فيه ليقعدوا فيه طوال فترة وجودهم، انظروا إلى سماحة الإسلام وصل إلى أي حد؟ أراد الله تبارك وتعالى وأراد النبي (ص) أن تلين قلوبهم وأن يحببهم في الإسلام. نحن أصلاً أصحاب دعوة نريد لكل الناس الهداية، فقدّر الله تعالى في فترة وجودهم إنزال سورة باسم عائلة من أكبر عائلات اليهود والنصارى، كأنّه يقول لهم: تعالوا لأروي لكم عن عائلة من عائلاتكم، ومقدار ارتباطها بالله ومدى طاعتها لله.   - الحكاية من البداية: تعالوا نتعرف على هذه العائلة، التي كانت تعيش في فلسطين عند المسجد الأقصى، سنعود لقضية القدس، ونحكي أن بني إسرائيل كانوا يعيشون في فلسطين مع الرومان، وهذه الأحداث في زمن عائلة عمران، الرومان مسيطرون على فلسطين وهم كارهون لتوحيد الله تبارك وتعالى، لذا فهم يبطشون ببني إسرائيل أشدّ البطش، وكما قلنا في قصة سيدنا "موسى" أنّه كلما زاد الإيمان تتحرر فلسطين، وكلما قلّ الإيمان تسقط فلسطين في أيدي قوم جبارين. وفي ذلك الوقت، في زمن آل عمران قلَّ الإيمان كثيراً في الأرض حتى أنّه لم يعد هناك وجود للمؤمنين في فلسطين إلا لهذه العائلة، عائلة عمران، فكانت العائلة الوحيدة أو من العائلات القليلة المؤمنة، أمّا البقية من بني إسرائيل واليهود فقد كانوا معرضون عن الله عزّ وجلّ، والرومان مسيطرون على فلسطين، وسبحان الله سنجد أنّ من سيقف ويعيد فلسطين هو إخلاص زوجة عمران وهي سيدة مخلصة، فبإخلاص سيدة سيطلع من بطنها من سيحرر المسجد الأقصى. فزوجة عمران كان لديها بنت كبرى تزوّجها سيدنا زكريا وهو كبير في السن كما وصف نفسه: (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) (مريم/ 4)، يعني: عجوز جدّاً، (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) (مريم/ 4)، العظم أصبح رقيقاً جدّاً، فهو رجل كبير وعجوز، وتحرير فلسطين يحتاج إلى شباب فبدأت قضية هذه العائلة وهي إنجاب من سيحرر فلسطين.   - إلى الشباب: ظل عمران وزوجته يتضرعان لله: يا رب، ليس لنا ولد، أنجبنا بنتاً واحدة، ولم نعد قادرين على الإنجاب، وبنتنا الوحيدة زوجها كبير وغير قادرين على الإنجاب أيضاً. أتتخيّلون معي خريطة آل عمران؟ فعمران وزوجته أناس أتيقاء جدّاً لكنهم كبروا، إلا أنهما يريدان أن يقوما بعمل أي شيء لفلسطين وللمسجد الأقصى، لكنهما غير قادرين لسنهما الكبير. يا شباب، بعد ثلاثين سنة من اليوم سنكبر ونهرم ونكون في وضع آل عمران، ونقول: يا ليتني فعلت شيئاً لفلسطين وأنا في شبابي، هناك أناس كبيرة في السن لعلها تتألم وتقول: يا ليتني فعلت شيئاً لفلسطين وللإسلام. هو يصلي وربنا يتقبل منه لكن من الذي يعمل للإسلام؟ الشباب الصغير. من سيعين صاحبه ويقول له: تعال معي نحفظ القرآن؟ من الذي عنده طموح أنا يفتح شركة كبيرة يوظف فيها أناساً كثيرين يعملون للإسلام؟ من الذي عنده طموح أن يخترع ما يجعل المسلمين في المقدمة؟ من الذي عنده طموح أن يصبح رياضياً ناجحاً؟ يا شباب، ما زال أمامكم الوقت، ما زالت لديكم الفرصة فاغتنموها. وهذه كانت مشكلة العائلة، تريد شباباً رجالاً لا يخشون الرومان وينتصرون عليهم، فبدأت السيدة تدعو الله، ويبدو أن عمران ذلك الرجل العظيم الصالح مؤمن، لكن يبدو أنّ المرأة كانت همتها أعلى، بدليل ما ذّكر في القرآن أنّها بدأت تدعو: "يا ربّ، ارزقني ولداً، ارزقني ولداً يا رب، ابنتي كبيرة في السن وحتى زوجها عجوز"، فما بالكم كم كان عمر امرأة عمران؟ يعني: إذا كان زوج ابنتها بلغ من الكبر عتيّاً، ومع ذلك حلمها أن يتحرر المسجد الأقصى، انظر عندما يصبح الحلم كبيراً ونيتك تكون لله، والإخلاص يكون عالياً يصطفيك ربك ويحقق لك مرادك.   - إخلاصك يغير الدنيا: بدأت المرأة تدعو: يا رب ارزقني ولداً، يا رب ارزقني ولداً، وبدأت المفاجأة! بدأت تحسّ بجنين في أحشائها، ما هذا؟ أنا حامل؟ وهذه أعراض الحمل؟ فقالت كما تبيّن الآية التي بعدها: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (آل عمران/ 35)، الذي في بطني ليس فيه شيء، فهي أصلاً كانت تريده لله، فقالت: يا رب، نذرت لك الذي في بطني محرراً فتقبّل مني إنك أنت السميع العليم. أظنّ أنّ الإخلاص واضح جدّاً، تحس بإخلاصها أليس كذلك؟ تعلمون يا شباب لو أن إنساناً مخلص جدّاً وصادقٌ في إخلاصه لابدّ أنّ الله سيغير لأجله الأمر. والله.. سأقول كلمة، ربما تقولون إنني مبالغ فيها: سيتغير مجرى التاريخ من أجل إنسان مخلص، والله سيغير الدنيا من أجل إخلاصك! أخلصْ أنت ولتكن نيتك نابعة من القلب. انظر لزوجة عمران وإلى ما قالت، إنها تقول: يا رب، لقد نذرت لك، فهذا نذر لله، نحن عادة ننذر لأمور خاصة بالدنيا، فنحن ننذر عندما نشتري سيارة أو عندما يشفى ابني مثلاً فنقول: والله العظيم لأصومن ثلاثين يوماً، أو نقول: "نذرٌ عليّ سأعمل كذا وكذا، إذن النذور عندنا نذورٌ دنيوية، لكن في هذه الآية يعلّمنا الله أن هناك من ينذر لله. يا رب، لك ما في بطني يعيش في المسجد الأقصى بمجرد فطامه إلى أن يحرره. نعم، يبدأ تحرير المسجد الأقصى بأناسٍ مؤمنين. من يملك الحرية: الشرق أم الغرب؟ قال تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ)، انظر لكلمة: (لَكَ)، الذي في بطني، لك يا رب: (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا). ما معنى محرراً؟ محرراً أي: خالصاً لك يا رب، ليس لي فيه مطمع ولا شهوة ولا أي شيء، أريده أن يموت محرراً لك أنت وحدك فقط. انظروا يا شباب لكلمة "محرراً" هل تستطيع أن تكون أنت محرراً لله عزّ وجلّ؟ هل تستطيع أن تحرر نفسك؟ محرَّر عكسها عبد، يا إخوة، كل واحد شهوته مسيطرة عليه أصبح عبداً لها، لا أقصد عبودية السجود والركوع، أيها الشاب هل تريد أن تكون حراً؟ انظر: كلمة الحرية عكسها العبودية. انظر للغرب، الغرب الآن يقول: "الحرية"، ويقولون: مساكين يا أهل الشرق أنتم لستم أحراراً وليست لديكم حرية، حُجّبت النساء وقيّد الرجال ومُنعت الإباحية، أمّا نحن فعندنا حرية، تصدقون! والله هم في قمة العبودية، لأن من لا يكون محرراً لله سيعبد كل ما هو دنيء، فهو إما عبدٌ لامرأة تحركه يميناً وشمالاً أو عبدٌ لشهوته مثل كثير من الشباب في الصيف، ينزل كل يوم يدور في الشوارع ساعتين، يبحث عن فتاة ليعاكسها! مسكين هذا والله؛ لأنّه مقيّد فهو أسيرٌ لشهوته، وهناك من عبدَ السيجارة، يعلم أنّها تضره لكنه لا يستطيع أن يقلع عنها، فهو ضعيف جدّاً وليس حراً. إذن الحرِّية أن تكون عبداً لله وحده، ولا يوجد أي شيء آخر يتحكم فيك، لا شهوة تتحكم فيك، ولا تخضع لبشر، الحرِّية أن كل أمر به رب العباد هو الذي ينفذ، فتصبح حراً من الدنيا كلها، إذن ليس فيك قيد يقيدك في الأرض، وهذا هو معنى كلمة "محرراً"، كلمة مهمة جدّاً وخطيرة جدّاً في القرآن، وللأسف نحن غير منتبهين لها، فامرأة عمران تقول: يا رب، أريده ولداً فقط ليحرر المسجد الأقصى، والله لا أريد منه شيئاً، جميع النساء أو أكثرهنّ يردن الأولاد لأجل أن يفرحن بهم، أو لترى ابنها يكبر أما عينيها، وهناك من يريد الولد ليورثه ماله أو ليكون بجانبه في كبره، وهناك من يريده ليساعده في العمل وهناك من يريده، ومن يريده، كلها أمور دنيوية، لكن من يقول: أتمنى أن يموت ابني شهيداً في سبيل الله؟ طبعاً لو قلنا ذلك لأُم فإنها ستقول: بِعْد الشرّ إن شاء الله الذين يكرهوه هُم الذين يموتون شهداء في سبيل الله! تحرّر أيها الشاب، يا من تقرأ هذا الكلام تحرر من كل ما جعلك ذليلاً إن لم تصبح حرّاً لله ستصبح ذليلاً لغير الله، ولذلك انظروا إلى أكثر شخص عبد وذليل ومقيد في الأرض، ستجده أكثر شخص بعيد عن الله، هناك إنسان ذليل أمام كأس، وآخر ذليل أمام سيجارة، وآخر ذليل أمام امرأة فيظل عبداً ذليلاً لها، أمّا الحرّ فعلاً فهو الذي يكون منتمياً لله، ولا يربطه قيد في الأرض يسطير عليه.   - قصة حقيقية: أعرف أباً وأمّاً كانا محرومين من الإنجاب عشر سنين، أمرٌ مقارب لامرأة عمران، عشر سنين حرمان ثمّ رزقوا بولدٍ، وفي يوم ميلاده سأل الزوج زوجته: ماذا نريد من هذا الولد؟ (تذكر: عشر سنين وهما محرومان من الإنجاب!) قالت له: نريده أن يموت شهيداً في فلسطين، فقال لها: اتفقنا! (بعد عشر سنين حرمان من الإنجاب!) قال لها: إذن علينا من اليوم أن نجهّز الولد لذلك، ويجب أن يجد الولد حين يكبر أبوين يحبان بعضهما، ويجد علاقتهما سوية ويجدهما متدينين ويجدهما يصليان الفجر ويقومان الليل، ويجدهما عباداً لله ومالهما حلال، ويجب أن يربياه أحسن تربية ويعلمانه رياضة ويتعلم "إنترنت"، سنعدّه بطريقة صحيحة، يعني: نربي هذا الولد ليكون جاهزاً لنصرة دين الله ولعزّته، فيا ترى هل الآباء سيعدون أولاداً محررين؟ يا ترى الشاب الأعزب هل يريد زوجة من نوعية امرأة عمران؟ فتقبل مني: قال تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي)، ماذا يتقبل منها وهي لم تنجب بعد؟ وإنما تعني: تقبل مني نيتي: ومثلها: تقبل مني المال، تقبل مني الدعوة، تقبل مني النية، وكأنّ معنى الكلام أنك أردت من الله شيئاً لكن هذا الأمر صعب المنال، فتنوي نية صالحة، مثلاً أقول: يا رب، لو أصبح معي مليون جنيه سأعمل للإسلام كذا وكذا، ولتكن نيتك وقل: تقبل مني، هل تصدق؟ سيرزقك الله بها، وإن شاء الله ربنا يتقبلها منك، (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، لاحظوا أن كلمة السميع العليم جاءت في آيتين متتاليتين: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران/ 34)، والأخرى تقول: (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، أنت من يسمع كلامي وأنت العليم بنيتي.   - افهم حفظك الله: فلما وضعتها حدث أمر عجيب جدّاً، مفاجأة، هي تقول: يا رب، نريد رجالاً يحررون المسجد الأقصى أريده ذكراً، أريده ولداً: (فَلَمّا وَضَعَتْها) (آل عمران/ 36)، هي كانت تقول: تقَبَّل مني، فإذا بالمفاجأة، لقد كان المولود بنتاً! بعد كل النوايا والنذور، وبعد انتظار عشرين سنة وهي تتمنى أن يكون ولداً، صار عندها بنتاً، بدأت المرأة تحس بشيء من الإحباط، كانت تريده ولداً، أنا أريد أن أظهر لك كيف سيدير الله الكون، وهنا لمحات جميلة جدّاً، هل تتخيل معي أيها القارئ إذا وضعت نفسك مكان امرأة عمران؟ عشرون سنة تتمنى أمنية وبعد العشرين سنة بدأت الأمنية تتحقق والفرحة غامرة، ثمّ فجاة! الحلم تحطم؛ لأنّ المولود بنتاً. ولكن يا رب أنا دعوتك: (فَلَمّا وَضَعَتْها)، انظر ماذا تقول الآيات؟ وكأنّها تعتذر لله: يمكن لنيتي أن لا تكون خالصة أو لم أكن مخلصة لك بها: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) (آل عمران/ 36)، فتقول تباعاً لكلامها: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى) (آل عمران/ 36)، أنا كنت أريده رجلاً لكنها بنت. وهنا نستفيد شيئاً جميلاً جدّاً، أحياناً تكون نيتك حسنة جدّاً، أنا سأعمل كذا، سأقلع عن المعصية هذه وتكون متحمساً جدّاً وتدعو الله قائلاً: والله لن أفعل الذنب الفلاني مرة أخرى، ثمّ بعد فترة تجد أن دعاءك لم يُستجب، والأمنية الكبيرة لم تتحقق، فإياك أن تظن أن معنى هذا أنّ الله لم يقبلك، إنما يمكن أن يدبر الله لك أمراً آخر وتكون دعوتك بالفعل قد تقبلها الله. لكن أحياناً يكون عند الإنسان طموح، أتمنى أن أعمل للإسلام كذا وكذا، قل لي ماذا أعمل للإسلام وأنا أعمله، وفي النهاية يجد نفسه لا يستطيع أن يعمل أي شيء، فيبكي: كنت أتمنى أن أعمل كذا وكذا، لماذا يا رب لم تساعدني؟ كنت أتمنى أن أطيعك لماذا لم تحقق أمنيتي؟ إياك أن تفكر أنك دعوت الله بإخلاص وأن دعاءك لم يُستجب، الله تعالى سيستجيب لك ويحقق لك أمنيتك، مثل ما سنرى في حياة هذه السيدة المؤمنة.   - لماذا يبكي الطفل لحظة الولادة؟ ثمّ قال: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى)، لكن فجأة عادت ثقتها في الله وقالت: (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) (آل عمران/ 36)، مريم في اللغة عندهم ماذا تعني؟ هل تعلمون؟ معناها: "العابدة"، يا رب، سأسميها مريم، (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران/ 36)، فهي وإن كانت بنتاً فعلى الأقل اجعل من ذريتها رجالاً ينصرون هذا الدين: (أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، يقول النبي (ص): "ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان حين يولد"[1]، ويمسه هنا معناها: يوكزه أي: يصيبه من حقد ومن غل الشيطان، "فيستهلّ صارخاً من مسّه إياه"، فمن ذلك صرخة المولود فهذا هو سبب بكاء المولود بعد الولادة، فهو يبكي من وكزة الشيطان: "إلا مريم وابنها عيسى (ع)"، لم يستطع الشيطان أن يوكزهما وذلك بدعوة امرأة عمران: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ). انظروا للدعاء يا إخواني، ادعوا! تخيلوا دعوة خلدت إلى يوم القيامة لماذا؟ لأنّها دعت بإخلاص، يا رب، لم تحقق طلبي لكني مصرة أن يكون من ذريتي أناس تنصرك، وأن تعيذها هي وذريتها من الشيطان الرجيم. فكل البشر سيمسهم الشيطان إلا ابنتك وحفيدك لن يمسهما الشيطان، أيتها المرأة المؤمنة زوجة عمران.   - الحصن الحصين: نقطة أخرى في قوله تعالى: (أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، حديث للنبي (ص) حديث الجماع، وفيه يعلمنا النبي (ص) أنّ الرجل إذا أتى أهله وحدث حمل فإنّ الشيطان لا يستطيع أن يمس هذا الولد، تخيل ماذا علمنا النبي؟ دعاء عظيم، حين يأتي الرجل أهله ليعاشرها في فراشه يقول ماذا؟ يقول دعاء المعاشرة الزوجية، النبي (ص) لم يترك لنا أمراً إلا وقال لنا فيه دعاء، كل أمر يعلّمك ماذا تقول فيه، ماذا تقول عند دخولك الحمام، ماذا تقول عندما تخرج من الحمام، ماذا تقول عندما تأكل، ماذا تقول عندماتلبس جديداً، ماذا تقول عندما تنظر في المرآة: "اللّهمّ كما حسّنت خَلقي فحسِّنْ خُلُقي"[2]، وعلمنا دعاء جميلاً جدّاً إذا أتى الرجل أهله، يقول النبي (ص): "إذا أتى الرجل أهله فقال: بسم الله اللّهمّ جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإذا قضي بينهما بولد في هذه الليلة – أي رزقوا بولد، وولد هنا يقصد بها ولد أو بنت – لا يمسه الشيطان"[3]، يكون الولد مؤمناً طائعاً لا تخاف عليه فلن يكون عاصياً، عندك وسيلة تضمن بها أن يكون أولادك مؤمنين، فقط بدعاء تقوله لدى معاشرتك لزوجتك!   - المرأة ونصرة الإسلام: قال تعالى: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) (آل عمران/ 37)، هنا أكثر من شيء، لقد دعت: ربنا تقبل مني أن يكون ولداً، لأنّ الذي سيحرر بيت المقدس رجلاً، الله يقول إنّه تقبلها، يا رب، كيف تقبلتها وهي بنت؟ وهنا سنجد الكثير من المعاني الجميلة، منها: أنّه من قال لكِ يا امرأة عمران أنّ الذي ينصر الإسلام رجال فقط؟ انظروا لهذا المعنى الجميل: أنتِ كنتِ تظنين أن بيت المقدس لن يتحرر إلا برجال، إلا إنّه يُحرَّر بالنساء أيضاً، ولذلك سنرسّخ هذا المعنى عندكِ وعند الأُمّة كلّها، سنجعل بداية تحرير المسجد الأقصى بفتاة هي "مريم" وليس بولد، انظروا للإسلام ولتكريم المرأة، انظروا لاعتبار المرأة، تستطيع أن تنصر الإسلام مثلها مثل الرجل تماماً، فامرأة عمران كانت تحلم برجل وتقول لله: تقبله مني، فقال لها: تقبلناه، لكنها بنت، ستفعل ما لا يفعله الرجال، وسيكون في بطنها من سيعزّ هذا الدين العظيم.   - مدبر الأمر: المعنى الثاني وهو جميل جدّاً أيضاً: أنّ الله يريد أن يعلّمها ويعلمنا أن كل شيء يتم بالتدريج، تريدين أن يتحرر المسجد الأقصى أليس كذلك؟ لكن الجيل الموجود الآن لا يصلح أن يحرره، أمّا الجيل الذي يليه فسيكون منه من يحرره، فهذه المرة فسيكون المولود بنتاً ومن في بطنها سيكون عيسى (ع)، فاصبري. انظر، عليك ألا تتسرع، أرأيتم يا شباب؟ كأنّ الله يعلمنا أننا حين نطلب شيئاً فإن له سنناً في الكون، فالتغيير يتم خطوة خطوة. إذن حتى يتحقق هذا الأمر فإنّنا بحاجة لزمن، لكن السيدة دعت الله وتمنت لو أنّ الله يحقق أمنيتها في حفيدها، ومعلوم كم يكون حب الحفيد عند جديه. الله تعالى يريد أن يعلمنا أمرين: الأوّل: أنّ البنت مثل الولد في نصرة الإسلام، الأمر الثاني: الصبر. فاعلموا أنّه أحياناً تكون عدم الاستجابة هي عين الاستجابة، ويكون ما قدّرَه الله هو السعادة الكبرى التي لا يتخيلها الإنسان.   - حلاوة المناجاة: أريد أن أرجع للآيات للإشارة إلى أمر جميل جدّاً هو: حلاوة المناجاة، تعرف كيف كانت امرأة عمران تدعو الله وتناجيه؟ اقرأ كلام امرأة تكلم ربنا بشكل بسيط جدّاً دون تنميق زائد، انظر إلى كلامها وهي تقول: يا رب، أنا وهبت لك الذي في بطني، خالصاً لك يا رب، فتقبل مني، البعض متخيل أنّه إذا أراد الدعاء لله فعليه أن يقول: اللّهمّ إني أسألك كذا وكذا، يا رب أعطني كذا وكذا، يا رب ارزقني كذا وكذا، لكن أم مريم هنا تعلمنا شكلاً جديداً من الدعاء اسمه "المناجاة" أن تكلم الله ولو باللغة العامية: "يا رب أنت راضي أو لا، يا رب، سامحتني أم لا، يا رب أنا نذرت لك، لو تبت عليّ من الذنب الفلاني هذا، سأعمل كذا وكذا، هل تستطيع أن تكلم الله بهذا الشكل؟ تقول مثلاً: "يا رب، سأسمي ابني كذا وكذا حتى ينصر دينك"، تستطيع وأنت في السيارة، وأنت ذاهب لعملك أن تكلم ربنا، "يا رب سامحني، يا رب ارحمني"، هذه العبادة حلوة جدّاً يا إخواني، وللأسف لا نلتفت إليها إلا قليلاً، وهي عبادة لا تحتاج إلى وقت، وعبادة تستطيع أن تقوم بها على أي حال، وأنت في العمل وأنت في المواصلات. بمناسبة المناجاة أعرف شاباً كان يلعب معنا كرة القدم، وأثناء الضحك والمرح، تخيل في غمار اللعب، يبقى هذا الشاب مرتبطاً بربه جداً ويقول: اللّهمّ كما أضحكتني في الدنيا فأضحكني في الجنة، تخيل! في غمار لعب الكرة والضحك يفعل ذلك. تستطيع أنت أن تقوم بهذه المناجاة، وأنت مستشعر أنك محتاج له وأنك فقير إليه، وستشعر أنّ الله يحبك كثيراً، وستحسّ أنك تقربت من الله كثيراً لأنّك تكلمه من قلبك، أعرض شخصاً حكى لي أنه معتاد كل يوم وهو ذاهب للكلية أن يناجي الله ويقول: "هل سامحتني؟ هل أنت راضٍ يا رب؟ ليس لي غيرك، لو تركتني أضيع، ولن أتحمل غضبك". افعل مثله وجرب وسترى كم ستقرب من الله – عزّ وجلّ –.   - الوفاء بالنذر: لما كانت أم مريم مخلصة جدّاً ونيتها خالصة وموصولة بالله رزقت بالسيدة مريم، حين أرضعتها وفطمتها، أخذتها وذهبت بها إلى المسجد الأقصى، تنفذ النذر لأنها مخلصة، هناك أناس كثيرون ينذرون ثمّ لا يوفون بهذا النذر ويقولون: نذرته في لحظة ضعف! لكن هي نذرت نذراً ولم يتحقق ما أرادته، ومع ذلك أخذتها وذهبت إلى المسجد الأقصى، وكان إمام المسجد الأقصى زكريا وهو – زوج ابنتها الكبرى – فقالت له: "نذرت إن رزقت ولداً أن أجعله خالصاً لخدمة الأقصى، لكن الله رزقني بنتاً، ولن أغير النذر ابنتي في خدمة المسجد الأقصى!" انظر حبّ المسجد يا أخي، وانظر للمرأة المخلصة، أعرفت من الذي يصطفيه الله؟ المخلص من عاش حياته لله، الذي جعل قضية حياته الإسلام، هؤلاء الذين يحفظهم الله ويصطفيهم، ويُعلي من قدرهم ويجعل الناس كلهم يهتدون على أيديهم، فزوجة عمران ذهبت بالسيدة مريم للمسجد وطلبت من سيدنا زكريا (ع) أن يقوم على تربيتها، أتصدق! وسيبني لها محراباً خاصاً بها، لتصلي فيه وتتعبد الله فيه وتخدم المسجد الأقصى! وبدأ سيدنا زكريا (ع) بجمع كل الأئمة وكل العباد الذين يقيمون على خدمة المسجد الأقصى من بني إسرائيل، وكان ملاحظاً أن على وجه الفتاة نوراً فبدؤوا يتنازعون عليها، كل واحد منهم يريد أن يكفلها، استمع للآية ماذا تقول: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (آل عمران/ 44)، ما معنى يلقون أقلاهم أيهم يكفل مريم: اختصموا وكل واحد يقول: أنا الذي سأكفلها، إذاً ما الحل؟ كل واحد يأتي بالقلم الذي يكتب به التوراة ويرميه في الماء، فهذه الأقلام تُكتب بها التوراة فهي إذاً أقلام طاهرة، رمى الكل القلم وزكريا معهم، كل الأقلام جرت مع الماء وبقي قلم واحد مرفوعاً، انظر إلى قدرة الله تبارك وتعالى، قلم واقف في وسط الماء لا يتحرك وكأنّه نخلة أو زرع ثابت أو نبات في وسط الماء، ثابت لا يتحرك! فكان هذا القلم هو قلم سيدنا زكريا (ع)، فكفلها سيدنا زكريا وبدأت السيدة مريم تنشأ في رعاية هذا النبي الكريم.   - مهنة النبي زكريا: من هو زكريا هذا؟ هو نبي الله، جاء ذكره في القرآن سبع مرات، أهمها في سورة "آل عمران" وفي سورة "مريم"، وكان النبي (ص) في الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري يقول: "كان نبي الله زكريا نجاراً وكان يكسب من عمل يده[4]، أنا أريد أن تفكر معي، لماذا يقول لنا النبي هذا الكلام؟ يريد أن يقول لك أنّه لا يوجد نبي من الأنبياء إلا وكان صاحب مهنة أليس كذلك؟ يعني: لا يوجد نبي يقول: أنا أدعو لله.. فقط! للأسف هناك بعض الشباب يظل مهتماً بالدعوة بشكل كبير، فيبدأ بالرسوب؛ لأنّه رتّب حياته بشكل خاطىء، أو بعد أن كان متفوقاً في عمله أراد أن يحفظ قرآناً وأن يقيم الليل وأن يصلي الفجر، ومن هنا تبدأ التوازنات تختل، فيذهب إلى عمله مرهقاً ويفشل في أمور حياته حتى أنّ الناس يقولون: "أرأيت لقد فشل منذ تدينه"، مع أننا نجد أن نبي الله زكريا كان نجاراً ولم يكن عالة على المجتمع، كان يأكل من كسب يده، لم يذهب إلى أحد ليقول له: أنا نبي أطعمني، وأنفق عليّ! بل كان يأكل من عمل يده، ما رأيك إذا قلدنا سيدنا زكريا؟ أمر طبيعي أن أباك – إن شاء الله – يساعدك أن تتزوج؛ لأن ظروف الحياة صعبة وأنت لن تستطيع أن "تقف على رجليك" بمفردك، لكن أن تطلب من أبيك أن يزيد لك المصروف في الصيف عشرين جنيهاً من أجل شراء أشياء كمالية فهذا غير مستحب، أنت رجل ويجب أن تنفق على نفسك، ستقول لي: أنا لا أعرف عمل أي شيء، أقول لك، اذهب وتعلّم مهنة، قلّد سيدنا زكريا، وليس معنى قلده أن تعمل نجاراً، قلده وتعلم حرفة. الحقيقة أنّ الحديث في هذا الموضوع واسع ومهم جدّاً، نحن نناقش الإسلام، إما أن نفهمه بشكل تام، وإما لا نفهم الدين نهائياً، إما أن تكون إنساناً ناجحاً أو ليس لك فائدة.   الهامش:
[1]- أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (الحديث: 2/274). [2]- ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/73)، وذكره التبريزي في "مشكاة المصابيح" (الحديث: 5066). [3]- أخرجه مسلم في (الحديث: 705).

[4]- أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (الحديث: 2/405).

المصدر: كتاب قراءة جديد ورؤية في قصص الأنبياء

ارسال التعليق

Top