• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ملك العجائب سليمان «ع»

محمّد كريم الكوّاز

ملك العجائب سليمان «ع»

تهدف الحركة العمودية إلى الكشف عن سمات الشخصية السردية، وذلك من خلال تتبّع ظهورها في السرد، وملاحقتها وهي تنمو أو تتغيّر وتتنقّل بين المراحل، وهذا ما يوجب إفرادها بالبحث، وقد صُنفت شخصيات الملوك الأربعة ضمن الشخصيات المتغيّرة (أو المعقّدة والمدوّرة)، بالنسبة إلى الشخصيات الجمعية مثلاً، فهي ليست نُسخاً لقالب واحد محدّد، وهذا يعني أنّها تختلف بالنظر إلى الشخصيات الجمعية، وتختلف في الوقت نفسه بالنظر إلى كلٍّ منها، وفي إطار عام كان لسليمان قصّة مفردة حملت اسمه، ضمن قصص الأنبياء، وكذلك كان لذي القرنين، أمّا نمرود وبختنصر، فكانت قصّتهما في أثناء قصّة أخرى، قصّة إبراهيم في حالة نمرود، وقصّة دانيال في حالة بختنصر، كان كلّ ملك من الأربعة مفرداً بشخصية، ذات مواصفات بنائية خاصّة، تقوم بأفعال معيّنة، عاشت في فضاء محدّد، ومن ثَمَّ ذات دلالة مُميّزة.

نشأ سليمان ابناً للملك داود، كان داود قد خصّه الله تعالى بخصائص، منها قوّة مملكته، فلم تجتمع بنو إسرائيل إلّا على يوشع بن نون وعلى داود، ومنها الصوت الطيّب، والنغمة الطيّبة اللذيذة، والترجيع والألحان، فلم يُعطِ أحد مثل صوته، وكان يقرأ الزبور بسبعين لحناً، ومنها تسخير الجبال والطير، والحكمة وفصل الخطاب، والقوّة في العبادة وشدّة الاجتهاد، وشدّة البطش، وإلانة الحديد.

وقد ورث منها سليمان ما جعله استمراراً لمُلْك أبيه، حيث تمتّع بدرجة أعلى من درجة أبيه في الحكمة، من خلال قصّة الحرث الذي عبثت به غنم القوم، وحيث كان "أعظم ملكاً من أبيه، وأقضى منه"، و"قيل: إنّه ملك الأرض كلّها"، ولم يكن هذا لأبيه، بل إنّ الله تعالى أعطاه مُلكاً لم يعطه أحداً من بعده، من هنا سوف تتأطر شخصية سليمان بالملوكية، مُلْكه يختلف عن مُلْك أبيه، على الرغم من وجود مشتركات.

لقد خُصّ بخصائص كثيرة، منها بساط الريح، فكان سليمان، "إذا أراد أن يركب، يدعو الرياح الثماني: الشمال والجنوب والصبا والدبور والصرصر والعقيم والكرش والزاكي، فيبسط بعضها على بعض، ثمّ يبسط بساطة على هذه الرياح، وكان بساطه من السندس، أخضر البطن، أحمر الظهر، أهداه الله تعالى له من الجنّة، لا يعرف طوله وعرضه إلّا الله تعالى... وكان، إذا ركب، يجعل اللون الأخضر مما يلي الأرض، فإذا رفع الناس رؤوسهم يرونه أخضر على لون السماء، وهو جالس على كرسيه الأعظم في وسط البساط... وزمام الريح بيده، كالرجل، إذا ركب الفرس، وأمسك اللجام بيده، يتغدّى على مسيرة شهر، ويتعشى على مسيرة شهر".

ومنها تعليمه كلام الطير حتى النمل، وقد جُمعت له أنواع الطيور، كان جبريل "يحشر طيور الشرق والغرب، وأمّا ميكائيل، فكان يحشر طيور الهواء والجبال، فنظر سليمان إلى عجائب خلقها، وكان يسأل كلّ واحد منها، فيخبره بمسكنه ومعاشه ووكره وأعشاشه، وكيف يبيض، وكيف يحضن، وكيف يطير"، ومنها تخصيصه بالخيل الجياد العراب، وبإذابة عين النحاس، وبتسخير الجن والإنس والطير والوحش والشياطين له.

لم يكن سليمان في أوّل السرد ملكاً، كان ابن ملك، ثمّ تحوّل إلى الملوكية التي ورثها عن أبيه، ثمّ تحوّل إلى ملوكية أخرى، اختُصّ بها، فأبعد عن شخصية أبيه الملك، ورسم صورة أخرى بالخصائص التي كانت له وحده، فضلاً عن الملامح الخارجية المختلفة، وهذا شيء طبيعي يحصل بين الولد وأبيه، "فكان أبيض جسيماً، وضيئاً جميلاً، كثير الشعر، يلبس من الثياب البيض، وكان خاشعاً متواضعاً"، وكان أبوه "أزرق العينين، أحمر الوجه، دقيق الساقين، سبط الشعر، أبيض الجسم، طويل اللحية".

بعد أن استقر سليمان ملكاً مختلفاً عن أبيه، تحوّل إلى أن يكون ملكاً للعجائب، من خلال الامتيازات (الخصائص) التي تمتّع بها، كان يعيش في عالم آخر، غير العالم الطبيعي، لا ضير من تسميته "مملكة العجائب"، تبدأ هذه المملكة بكرسي سليمان، والكرسي علامة فارقة للملك، وهو من عمل الشياطين المسخّرين له، عملوه من "أنياب الفيلة مفصصة بالدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ، وقد جُعلت درجة منها مفصصة بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ، ثم أمر بالكرسي فحُفّف من جانبيه بالنخل، نخل من ذهب، شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ، وجعل على رؤوس النخل على يمين الكرسي، طواويس من ذهب، ثمّ جعل على رؤوس النخل التي على يسار الكرسي، نسوراً من ذهب، مقابلها طواويس، وجعل على يمين الدرجة الأولى شجرتي صنوبر من ذهب، وعلى يسارها أسدين من ذهب، وعلى رؤوس الأسدين عمودين من زبرجد، وجعل من جانبي الكرسي شجرتي كرم من ذهب، قد أظلتا الكرسي وجعل على عناقيدها دراً وياقوتاً أحمر...".

ويمضي السرد يكاد يقضي على كلّ الأحجار الكريمة في الأرض لبناء الكرسي، ولا نريد أن نصاب بالعجب، فيحجب عنا الدلالة العميقة لذكر الذهب والفضة والياقوت والزبرجد واللؤلؤ في إثارة لهفة المتلقّي إلى حيازتها، أو تخيّل نفسه مالكها، ومن هنا امتلأت القصص بالذهب والفضة وكلّ ما غلا ثمنه وخفّ حمله، لإيقاع المتلقّي في شراك السرد، إنّما نريد أن نتبيّن سليمان ملك العجائب.

الخاتم علامة فارقة للملِك عن غيره، ولكن سليمان "كان ملكه في خاتمه"، وذلك أنّه خاتم العزّ والخلافة، لبسه آدم، حين سكن الجنّة، قبل أن يأكل من الشجرة، ثمّ بعدها استجار الخاتم بركن من العرش، كان الخاتم يضيء كأنّه الكوكب، وله لمعان كالبرق، وله رائحة كالمسك، ونور يكاد يغشي البصر، وفيه كتابة، تُخضع المردة والشياطين، والسباع والوحوش والطير، وملوك النواحي، شرقاً وغرباً، والنبات والأشجار، وسكّان البحار والجبال، "فكان سليمان لا يقرأها على شيء، إلّا خضع".

قصّة بلقيس تبيّن شدة ملك سليمان على الأرض، إذ لا يجوز ملِك غيره، وهي تُبنى على العجب كذلك، يخبر الهدهدُ سليمان بوجود ملكة في اليمن، يرجعه ويرسل معه صحيفة من فضة، فيها تهديد، تستسلم الملكة، وتأتي إليه، فيأمر الجن والشياطين "أن يفرشوا ميدانه بلبن من الذهب والفضة، وأمر أن يبنوا، حول ميدانه، حائطاً من فضة، له شرفات من ذهب، وأن يضعوا على كلّ شرفة تاجاً من ذهب، مرصعاً بالجواهر، مثل التاج الذي ترسله بلقيس. وكانت بلقيس قد عملت مائة لبنة من ذهب وفضة، ومائة فرس من جياد خيل اليمن، بأجلّة الديباج، وبراقع الحرب، واتخذت حُقّة من الذهب، فيها درّة غير مثقوبة، وجزعة يمانية، ثقبها معوج"، وبنى بركة ماء من زجاج، فشلت في معرفة حقيقتها، وأحضر عفريتاً من الجن عرشها بأقل من إغماضة العين، في النهاية يتزوّج بها سليمان عند الكسائي[1]، ويُزوّجها سليمان لغيره عند الثعلبي[2].

يشترك سليمان مع ملوك آخرين في حبّ النساء، هو رجل في النهاية، ولكنّه في مملكة العجائب، يُعطى من القوّة ما لم يُعطِ غيره، فمع أنّه كان يأتي على خمسمائة حرّة، وسبعمائة سرية، قال يوماً: لأطوفن على ألف من النساء وأجامعهنّ كلهنّ، ومن هنا ستكون نهايته. يتزوج امرأة "لم يُرَ مثلها حسناً وجمالاً، اصطفاها لنفسه" لكنّها تعبد صنماً في بيته، وكان "لا يدع امرأة في دمها، ولا يغتسل من جنابة"، فيضيع منه خاتمه، ثمّ يعثر عليه، ويتوب، إلى ربّه، وتنتهي القصّة بوفاته.

كما اختلفت شخصية سليمان عن شخصية أبيه داود، وتختلف عن شخصية الملوك الثلاثة، لا سيما في طولها، حيث بلغت اثنتين وخمسين صفحة، رُسمت عليها شخصية الملك كما هي في المخزون الثقافي الذي تمتد جذوره إلى تراث بني إسرائيل، وسليمان من أنبيائهم، وكما هي في متخيَّل القاص، وهو يقصّ على متلقين من الناس، هم رعية لملك من الملوك.

 

المصدر: كتاب مملكة الباري (السرد في قصص الأنبياء) 


[1] - قصص الأنبياء، للكسائي.

[2] - قصص الأنبياء، للثعلبي.

ارسال التعليق

Top