6- الذل والانكسار: للعودة إلى الله تعالى أسرار وأصول ومنهج، فمن أحسن استخدام تلك الأصول والمناهج في العودة إلى الله يسّر الله تعالى أسباب العودة، ومن لم يحسن استخدام تلك الأصول والمناهج لا تتيسر له العودة. ومن أسرار العودة ومناهجها حالة الذل والإنكسار بين يدي الله تعالى، ولن يكن العبد أقرب إلى الله في حال، ولا أسرع في الرحلة إلى الله تعالى من حالة الذل والانكسار. فإنّ الطريق إلى الله من "خلال النفس" وليس من "خارج النفس". وداخل النفس الإنسانية طرق كثيرة للعودة إلى الله، ومن أرحب هذه الطرق وأوسعها وأسرعها (الذل والإنكسار) بين يدي الله تعالى. وأقرب الدعوات إلى الاستجابة دعوة الذليل المنكسر بين يدي الله. وأما من يريد العودة إلى الله على طريق الإعتداد بالنفس والشموخ بين يدي الله فقد يصل إلى أيّ شيء آخر، إلا أنه لن يصل إلى الله تعالى. فإنّ أبواب رحمة الله مفتوحة على الناس، ورحمة الله تفيض على الناس فيضاً من غير توقف ولا حساب، وليس في رحمة الله تعالى شحّ ولا بخل، ولكن القلوب تنغلق على رحمة الله وفضله، فإذا انغلقت القلوب فلا تنفعها هذه الرحلة النازلة التي تصب من عند الله تعالى عباده صباً. فإذا فتح الإنسان قلبه على الله نزلت عليه هذه الرحمة من دون حساب. وليس شيء يفتح مغاليق قلوب الناس على رحمة الله تعالى أفضل من حالة الذل والإنكسار. فإنّ الإنسان إذا ذلّ بين يدي الله، وانكسر لم يبق باب موصد على الله في قلبه إلا انفتح على الله. وفي منهج الأدعية المأثورة عن أهل البيت – عليهم السلام – تأكيد على هذا النحو من التذلل والإنكسار بين يدي الله، في (رحلة العودة إلى الله). ونماذج ذلك كثيرة، ونصوص الأدعية المأثورة عن أهل البيت غنية بهذه الحالة، وفيما يلي نذكر نموذجاً من الدعاء الذي علّمه الإمام الصادق (ع) لأم داود، وهو وارد في اعمال شهر رجب. وإليك هذا المشهد الرائع من مشاهد الإنكسار والتذلل بين يدي الله تعالى في رحلة العودة: (وارحم ذلي وفاقَتي، وفَقري، وانفرادي، ووحدَتي، وخضوعي بينَ يديكَ واعتمادي عليكَ، وتضرُّعي إليكَ، ادعوكَ دُعاءَ الخاضع الذَّليل، الخاشِع، الخائِف، المشفِق، البائِس، المهين، الحقيرِ، الجائع، الفقير، العائذ، المستجير، المقر بذنبه، المستغفر منهُ، المستكين لربه، دعاءَ من اسلمَتْهُ ثقتهُ، ورفضته أحبَّته، وعظُمَت فجيعتُهُ، دعاءَ حِرقٍ حزين، ضعيفٍ، مهينٍ، بائسٍ، مستكينٍ بكَ، مستجير). وهذه المفردات الواردة في هذه الفقرة من الدعاء تجسد حالة إنكسار العبد بين يدي الله، من ذل، وفاقة، وفقر، وانفراد، ووحدة، وخضوع، واعتماد على الله، والتضرع إلى الله، والذل، والخشوع، والخوف، والإشفاق، والهوان، والحقارة، والجوع، والاستعاذة، والإستجارة بالله، والإقرار والإعتراف بالذنب لله، والحزن، والفجيعة والبؤس، والإستكانة. هذه المفردات بعض عناصر هذا المشهد الفريد الذي يجسد عبودية الإنسان وذله وهوانه بين يدي الله تعالى. 7- الطمع في رحمة الله: من شروط العودة إلى الله الطمع في رحمة الله، والطمع غير الإستحقاق فإنّ الطمع فيما لا يستحقه الإنسان. وإذا كان المذنب العائد إلى الله لا يستحق العفو والرحمة، بميزان الإستحقاق والعدل، فإنّه يطمع في عفو الله ورحمته بميزان آخر وهو فضله ورحمته، ليس استحقاق العبد. وفي رحلة العودة إلى الله لا يستحق العبد العفو والرحمة من دون ريب، ولكنه يطمع وهذا الطمع يقوم على أسس صحيحة وثابتة ومؤكدة من فضله ورحمته التي وسعت كل شيء. في دعاء الإفتتاح الذي يتلوه المؤمنون في شهر رمضان. (اللهمّ إنّ عفوكَ عن ذنبي، وتجاوزكَ عن خطيئتي، وصفحك عن ظُلمي اطمعني في أن أسألك ما لا استوجبه منك). وفي هذا النص ما يتوقعه العبد من فضل الله تعالى ورحمته لا يقوم على أساس الإستحقاق والإستيجاب. (اطمعني في أن أسألك ما لا استوجبه منك) ولكنه يعتمد على فضل الله ورحمته. (ان عفوك عن ذنبي وتجاوزك عن خطيئتي أطمعني...). وهو طمع له مبراراته الصحيحة والمعقولة. 8- الخوف من الله: ومن شروط العودة (الخوف) وقد مرّ آنفاً إنّ طريق العودة إلى الله داخل النفس، وليس خارج النفس، والخوف من الله مما جنى الإنسان على نفسه من مخالفة الله في مراحل الطريق في داخل النفس، وما لم يخف العبد ربه على نفسه مما جنى على نفسه لن يعود إلى الله، فليست العودة إلى الله رغبة وأُمنية في نفس العبد، وإنما هي حقيقة قائمة في داخل النفس ومن عناصر هذه الحقيقة (الخوف). وفي نصوص الأدعية الإسلامية يتجسد هذا الخوف في مشاهد كثيرة. ففي دعاء الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) الذي علمه لأبي حمزة الثمالي: (أدعوك يا سيدي بلسان قد أخرسه ذنبه. رب أناجيك بقلب قد اوبقه جرمه. أدعوك يا رب راهباً، راغباً، راجياً، طائعاً. إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت. وإذا رأيت كرمك طمعت. فإن عفوت فخير راحم، وإن عذبت فغير ظالم). وفي هذا النص يمتزج (الخوف) بـ(الرجاء) وهو مزيج يحبّه الله. وبهذا المزيج النفسي من (الخوف) و(الرجاء) يستقيم سلوك الإنسان ومشاعره تجاه الله تعالى في رحلة العودة إلى الله. وليس معنى هذا المزيج بعضه الخوف وبعضه الرجاء، وشطراً من الخوف وشطراً من الرجاء... بل كل الخوف وكل الرجاء. وكيف يجتمع الخوف والفزع كله والرجاء والأمن كلّه في نفس الإنسان؟ وكيف يكون هذا المزيج النفسي من (الخوف والرجاء) و(الفزع والأمن في نفس الإنسان؟ الجواب في النص السابق نفسه: (إذا نظر الإنسان إلى ذنوبه غلبه الفزع والخوف وعلم انّه يستحق العقوبة. وإذا نظر إلى كرم الله تعالى طمع وأمن. وكل من هذا (الخوف والفزع) و(الرجاء والأمن) له أسبابه الحقيقة في نفس الإنسان. والعبد المؤمن في رحلة العودة إلى الله تعالى يشعر بهذا وذاك جميعاً. 9- العزم على العودة: ومن ضروروات هذه الرحلة: العزم والإصرار على العودة فهي رحلة شاقة، وذات شوكة، يتجاوز فيها الإنسان نفسه أوّلاً وهو أشق ما في هذه الرحلة، ويثبت فيها ثانياً بفضل الله ورحمته من دون استحقاق واستيجاب فإن لم يثبت، ولم يعزم، ولم يصر على نيل مرضاة الله تعالى لا ينال ما يريد. ومرة أخرى: ليس في رحمة الله تعالى وفضله شح وبخل، وإنما لابدّ أن يوطن الإنسان نفسه لنزول رحمة الله واستقبال عفوه وفضله الذي يفيض على العباد فيضاً. ومن شروط هذا التوطين والإعداد النفسي العزم والإصرار على العودة إلى الله... وإليك النصوص التالية من أدعية أهل البيت (ع): النص الأوّل: في النص التالي من دعاء أبي حمزة الثمالي نلتقي هذا المشهد العجيب من مشاهد العزم والإصرار على العودة: (فوعزتِكَ يا سيدي لو نَهرتَني ما بَرحْتُ من بابك، ولا كففتُ عن تملّقِكَ، لما انتَهى إليّ من المعرفة بجودكَ وكرمك. وأنت الفاعلُ لما تشاءُ، تعذِّبُ من تشاء بما تشاء كيف تشاء، وترحمُ من تشاء بما تشاءُ، كيف تشاءُ). وهذا النص يتضمن أمرين: العزم والمعرفة، ولا يتم العزم من دون المعرفة. ولابدّ أن تستتبع المعرفة العزم فهما متلازمان. أما العزم: (فَوَ عِزَتِك يا سيدي لو نَهَرتني ما برحتُ من بابك، ولا كففتُ عن تملقِك). وهو عزم، وأي عزم: لو نهرتني عن بابك ما كففت عن تملقك. (لما انتهى إليّ من المعرفة بجودك وكرمك، وأنت الفاعل لما تشاء، تعذب من تشاء بما تشاء كيف تشاء، وترحم من تشاء بما تشاء وكيف تشاء). وهذه المعرفة بأمرين، لا سبيل إلى التشكيك فيهما: الإيمان بجوده وكرمه تعالى (لما انتهى إليّ من المعرفة بجودك وكرمك)، والإيمان بسلطانه المطلق الذي لا يحدّه شيء ولا يعجزه شيء (وأنت الفاعل لما تشاء... إلخ). فإذا آمن الإنسان بهذا وذاك آمن بجود الله وكرمه، وآمن بسلطانه المطلق... فلا يكاد أن يتردد في العودة إلى الله تعالى، واللجوء بكرمه، ولا يكاد أن يداخل عزمه ويقينه خلل أو شك. وهل يبخل الله عليه تعالى برحمته وهو الجواد الكريم.. أم يقصر عن ذلك سلطانه تعالى وقوتّه وهو الفاعل لما يشاء؟ النص الثاني: وفي دعاء أبي حمزة رحمه الله نلتقي بالنص التالي، وهو مشابه للنص الأوّل: 1- (فو عزتك لو انتهرتني ما برحتُ ما بابك، ولا كَفَفْتُ عن تملقك، لما انتهى إلي من المعرفة بجودك وكرمك). 2- (إلى من يذهب العبد إلا إلى مولاه وإلى من يلتجأ المخلوق إلا إلى خالقه). 3- (إلهي لو قرنتني بالأصفادِ، ومنعتني سبيلك من بين الأشهاد، ودللتَ على فضائحي عيون العباد، وأمرتَ بي إلى النار، وحلتَ بيني وبين الأبرار ما قطعتُ رجائي منك، وما صرفتُ تأميلي للعفو عنك، ولا خرج حبك من قلبي). وهذه الفقرات الثلاثة المتعاقبة في هذا الدعاء الشريف الذي هو من روائع أدعية الإمام علي بن الحسين (ع) تتضمن العزم والإصرار أولاً والإنقطاع إلى الله ثانياً والرجاء الحب ثالثاً. أما العزم: (فوعزتك لو انتهرتني ما برحت من بابك...). وأما الانقطاع إلى الله: إلى من يذهب العبد إلا إلى مولاه. وأما الرجاء والحب: (لو قرنتني بالأصفاد ومنعتني سبيلك من بين الأشهاد... ما قطعت رجائي منك، ولا خرج حبّك من قلبي). 10- الحزن والبكاء: وبقدر ما يكون الإنسان في رحلة العودة إلى الله خائفاً مما يستقبله من العذاب والعقاب يكون حزيناً على ما فرط فيما تقدم من عمره، حزن على ما سلف منه، وخوف على مستقبله. ولا ينفك الحزن عن الخوف، وهو يبكي على هذا وذاك. تأملوا في هذه الفقرات من دعاء الأسحار للإمام علي بن الحسين زين العابدين: (وأعِنّي بالبكاء على نفسي. فقد أفنيت بالتسويف والآمال عمري وقد نزلتُ منزلة الآيسين من خيري. فمن يكونُ أسوأ حالاً مني، أن أنا نُقِلتُ على مثل حالي إلى قبر لم امهّدهُ لرقدتي ولم أفرشه بالعمل الصالح لضجعتي. ومالي لا أبكي ولا أدري إلى ما يكون مصيري، وأرى نفسي تخادعني، وأيامي تخاتلُني. وقد خفقت عند رأسي أجنحةُ الموتِ. فمالي لا أبكي؟ أبكي لخروج نفسي أبكي لظلمة قبري. أبكي لضيق لحدي. أبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أبكي لخروجي من قبري عُرياناً، ذليلاً، حامِلاً ثقلي على ظهري أنظرُ مرةً عن يميني، وأخرى عن شمالي إذا الخلائق في شأنٍ غير شأني، لكل امرىءٍ منهم يومئذ شأنٌ يغنيه. وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة، ووجوهٌ يومئذٍ عليها غبرةٌ، ترهقها قترةٌ وذلةٌ). وفي هذا النص نقاط تحتاج إلى وقفات قصيرة: يقول الإمام (ع): (وأعنّي على البكاء على نفسي) إنّ مواصلة الذنب والمعصية تقسي القلب، فإذا قسا القلب وتحجر انغلق على رحمة الله تعالى. والحزن والبكاء، بعكس ذلك يرققان القلب. وإذا رق القلب انفتح على رحمة الله. وفي رحلة التوبة يجب على الإنسان أن يتخلص قبل كل شيء من قسوة القلب، ويرقق قلبه بالحزن والبكاء. ثمّ يقول الإمام: (فقد أفنيت بالتسويفِ والآمالِ عمري). وأخطر شيء على الإنسان (طول الأمل) فإنّه يمد أمام الإنسان فسحة العمر، ويشغله بالآمال ويغيّب عنه الموت ويبعّده عن عينه، وكل ذلك يتم في دائرة الوهم والأماني والآمال. فإذا استقر هذا الوهم في نفس الإنسان بدأ الإنسان يسوّف في كل ما يتعلق بالآخرة ويعجل في كل ما يتعلق بالدنيا، فيفني حياته بالتسويف والآمال... وهكذا تخادعنا أنفسنا، وتخاتلنا أيامنا. (وأرى نفسي تخادعني وأيامي تخاتلني). انّ نفس الإنسان تخدع صاحبها بهذا الوهم الكاذب، فتقرب له البعيد، وتبّعد له القريب، وتسلب صاحبها الرؤية الصحيحة. وأيامه تخاتله وتنقص من عمره ختلة، دون أن يشعر بهذا النقص، فتوهمه نفسه بالبقاء والدوام وتسلبه أجزاء من عمره حتى تأتي عليها غيلة وخفية، دون أن يشعر بذلك. ويقع الإنسان فريسة وضحية لهذا الوهم من جانب وللمخاتلة والإغتيال من جانب آخر. ومن عجب أنّه مع ذلك يشعر بأجنحة الموت تخفق عند رأسه، كما يشعر الصيد الذي يلاحقه الصقر يخفق على رأسه بأجنحته بدنوا اجله، ومع ذلك لا يرتد أن يفارق هذا الوهم. (وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت). 11- الاسترحام: وليس في رحمة الله تعالى شح وبخل وإنما هي تفيض من لدن الله تعالى فيضاً متصلاً، لا ينقطع غير انّ لرحمة الله تعالى منازل، فإذا وضع الإنسان نفسه في منازل رحمته تعالى أصابته الرحمة، وإذا ابتعد الإنسان عن منازل الرحمة لم تصبه الرحمة فالشأن كله ليس في نزول الرحمة، فإنّ الرحمة نازلة من عند الله بصورة متصلة لا تنقطع من غير شح ولا بخل، وإنما الشّأن في منازل رحمة الله. فإذا عرف الإنسان منازل رحمة الله، ووضع نفسه في منازل رحمته تعالى، فلا تخطؤه الرحمة. ومن أهم منازل رحمة الله يعي العبد فقره إلى الله، وبؤسه وشقاءه وعجزه وضعفه، وغربته، وكربه، ووحشته. فإذا وعى الإنسان هذه الحقيقة وعياً بيّنا وضع نفسه في منازل رحمة الله. وبقدر ما يزداد وعيه ببؤسه وشقائه وفقره وضعفه وكربته يزيد حظه من رحمة الله تعالى. وكل الناس إلى الله تعالى فقراء، والله تعالى وحده هو الغني الحميد، إلّا انّهم يختلفون عن بعض في مراتب وعيهم لفقرهم وبؤسهم وحاجتهم. فمن كان وعيه لفقره وحاجته إلى الله تعلى أبلغ كان حظه من رحمة الله تعالى أعظم. وهذه معادلة ثابتة في علاقة الإنسان بالله تعالى، وهي من أسرار هذا الدين، ومن يدرك هذه الحقيقة يدرك خيراً كثيراً في علاقته بالله تعالى. ولذلك نجد أن نصوص الأدعية المأثورة عن أهل البيت تؤكد لدى العبد حالة الإحساس والوعي بفقره وحاجته إلى الله في الدنيا، وبؤسه وكربته ووحشته ووحدته ساعة الموت وبعد الموت. ووعي هذه الحاجة والبؤس من أعظم منازل رحمة الله تعالى. تأملوا في هذه الفقرة من دعاء الأسحار للإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع): (ارحمْ في هذه الدنيا غُربتي، وعندَ الموتِ كُربَتي، وفي القبرِ وحدَتي، وفي الّلحد وحشتي، وإذا نشرتُ للحساب بين يديكَ ذُلَّ موقفي. واغفر لي ما خفي على الآدميّين من عملي، وأدِم لي ما به ستَرتَني، وارحمني صريعاً على الفراش تُقلبُني أيدي أحَّبتي، وتفضَّل عليّ ممدوداً على المغتسلِ يقلبُني صالحُ جيرَتي، وتحنَّن عليّ محمولاً قد تناول الأقرباء أطرافَ جنازَتي، وجُدْ علي منقولاً قد نزلت بك وحيداً في حُفرَتي، وارحَم في ذلك البيتِ الجديد غُربتي). وأي بؤس للإنسان أكثر من أن ينزل به الموت، ويودع في قبره وينشر للحساب بين يدي الله تعالى وليس له عمل صالح يقدمه إلى الله؟ وأي بؤس للإنسان أكثر من أن ينزل به الموت وهو لم يعد نفسه لهذه الرحلة الرهيبة، ولم يتزود بالتقوى والعمل الصالح؟ وأي بؤس للإنسان أبلغ من بؤسه إذا صرعه الموت، وهو في هذه الحالة من قلة الزاد وتراكم السيئات. ثمّ حمل أصدقاؤه وأقرباؤه جنازته ليودعوه وحده في حفرته، لا يرافقه فيها أحد إلا عمله الذي قدّمه بين يديه؟! 12- الفرار إلى الله والإستعاذة بالله: وفي هذه الرحلة لابدّ من أن يفر الإنسان إلى الله (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين). لابدّ أن تكون العودة فراراً إلى الله وحالة الفرار حالة الرعب والخوف وحالة اللجوء. الرعب والخوف من ركام الذنوب والمعاصي ومن الأهواء والفتن، واللجوء إلى الله من سخط الله وغضبه واللجوء إلى رحمته وفضله. ففي أدعية أيام شهر رمضان: ( اللّهمّ إليك فررنا من ذنوبنا، فآونا تائبين وتب علينا مستغفرين، وإغفر لنا متعوذين، واعذنا مستجيرين، وأجرنا مستسلمين ولا تخذلنا راجين، وشفعنا سائلين). والفرار استعاذة: إذا إستعاذ العبد بالله تعالى اعاذه الله تعالى، لا محالة. ولا يمكن أن يفر العبد إلى الله، عائداً إليه، عائذاً به، ثمّ لا يعيذه الله تعالى من ذنوبه وآثامه، ومن الأهواء والفتن، ومن غضبه وسخطه تعالى، إلا أن يكون الإنسان كاذباً في فراره واستعاذته بالله. والإستعاذة ليست من مقولة اللفظ، وإنما هي حالة حقيقية قائمة في نفس الإنسان، مزيج من الرعب والخوف ومن طلب اللجوء والحماية. فإذا إستشعر الإنسان في رحلة العودة إلى الله هذه الحالة من الرعب والخوف وطلب اللجوء من الله اعاذه الله تعالى لا محالة. فأنّ الله قوي عزيز، وإذا حمى الله عبداً أعاذه، لا ينال منه الشيطان ولا تنل منه الأهواء والفتن، وكان في حصن منيع من كل مكر وسوء. 13- الإستغفار: وإذا كان معنى الفرار إلى الله، والإستعاذة بالله أن يحميه الله من سلطان الفتن والأهواء ومن غضبه في المستقبل فأنّ الإستغفار أن يتجاوز ويعفو عما سلف منه من التفريط في الماضي. ولابدّ للإنسان في رحلة العودة إلى الله من هذا وذاك معاً: لابدّ له من أن يعفو الله عما سلف من ذنوبه وآثامه في الماضي ويعيذه ويعصمه من سلطان الأهواء والفتن في المستقبل. ومن الذنوب ما يهتك الستر والعصمة عن الإنسان. ومن الذنوب ما ينزل النقم والبلاء ومن الذنوب ما يغير النعم ويسلبها. ومن الذنوب ما يحبس الدعاء. فلابدّ للإنسان في رحلة العودة إلى الله أن يستغفر الله تعالى في المراحل الأولى من هذه الرحلة من كل ذنوبه وآثامه لينفتح له طريق العودة إلى الله تعالى. في دعاء كميل: (اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تهتِكُ العِصمَ. اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تُنزلُ النِّقمَ. اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تغيّرُ النِعمَ. اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تَحبِسُ الدعاءَ. اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تنزِلُ البلاء. اللّهمّ اغفر لي كلَّ ذنبٍ أذنبتهُ، وكلّ خطيئةٍ أخطأتُها). 14- الاضطرار إلى الله: ولا يتم للإنسان الاستغفار من ذنوبه إلا إذا أحس بالإضطرار إلى الله، ولم يجد لذنوبه غافراً إلا الله. فإذا عرف ذنوبه وأقرّ بها، وشعر بالإثم والجريمة واعترف بها وعرف أن ليس لذنوبه غافر إلا الله، ولا لكسره جابر إلا الله، وانّه مضطر إلى رحمة الله تعالى وعفوه اضطراراً صح عزمه – عندئذ – على الإستغفار. في المناجاة الأولى من المناجاة الخمسة عشر. (فو عزتكَ ما أجدُ لذنوبي سواكَ غافراً، ولا أرى لكسري غيركَ جابِراً وقد خضعتُ بالأنابة إليكَ وعَنوتُ بالاستكانة لديك. فإن طردتني من بابكَ فبمنْ ألوذُ وإن رددتني عن جنابكَ فبمنْ أعوذُ). 15- الندم: ولابدّ في هذه الرحلة من الندم ولا يصح عزم الإنسان، ولا تصدق نيته في العودة إلى الله إلا إذا أحسّ بالندم على ما فرّط في جنب الله. في المناجاة الأولى: (إلهي هل يرجعُ العبدُ الآبقُ إلا إلى مولاهُ) أم هل يجيرهُ من سخطه أحدٌ سواه؟ إلهي ان كان الندمُ على الذنب توبة فإني وعزتكَ من النادمينَ، وإن كان الإستغفارُ، من الخطيئةِ حِطّة فإنّي لكَ من المستغفرينَ).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق