محمد المولى، محمد إبراهيم، علي البجاوي، السيد شحاته
كان آزَرُ يعبد الأصنام، بل كان ممّن ينحتها ويبيعُها؛ وهو أقربُ الناس إليه وألصقُهم به، وأولاهم بالهداية، وأجدرُهم بإخلاص النصيحة؛ فمن البرّ به أن يهديَه سواء السبيل، ثمّ هو أيضاً من المسوّين خلقها والناحتين لها، والداعين إلى عبادتها، إنّه لذلك داعيةُ إثم، ومبعث فتنة، فهدايته قُربى إلى الله، واستئصالٌ لبذور الشر، واجتثاثٌ لجذور الضلال.
لم يبدأ الدعوة مع أبيه بتسفيه معبوداته، أو تحقيرآلهته، لئلا ينفر منه، أو يُصِمّ آذانه عنه أو يرميَه بالعقوق والجحود، بل رتّبَ الكلام معه على أحسن اتساق، وخاطبه بالقول اللين، والأدب الجميل، وابتدأ حديثه معه بذكر بنوّته، ليستثير عطفه ويمسَّ شِغاف قلبه، ثمّ سأله عمّا يدعوه إلى ركونه إلى الأصنام، وعكوفه على عبادتها، مع أنّها لا تسمع دعاءه وثناءه، ولا تبصر خَضوعَه وخشوعه، ولا تُستَدفعُ في بلاء فتدفعه، أو تُستَمنحُ شيئاً فتمنحه.
وخاف أن ينصرف عنه استصغاراً لشأنه، وامتهاناً لرأيه، فقال: يا أبتِ، إنّه قد جاءني من العلم ما ليس لك، وأوتيتُ حظاً من المعرفة لم تُؤتَهُ، فلا تستنكف أن تتابعني، ولا تتخلّف عن مسايرتي، وإن كنتُ لا أبلغ شأوك، أو اشارف سنّك. ثمّ توسَّل إليه أن يتبع خطواته، ويسيرَ على هَديه، فذلك هو الصراط المستقيم، والطريق القويم.
ثمّ أراد أن يُزَهِّدَ في أوثانه، ويَنأى به عن عبادة أصنامه، فأبان له أنّه بالعكوف عليها، والإنقياد لها يعبدُ الشيطان، ويلتجئ إلى ساحته، وهو الذي عصى الرحمن، وتوعَّد الناس بالإغواء، فهو عدوٌّ لا يُرشِد إلى خير، ولا يبغي إلا الهلاكَ والشر. ثمّ خوّفه سوء العاقبة وشرَّ المصير، ولكنه لم يصرح بأنّ العذاب لاحقه، والعقاب مُحِيق به، برّاً به، وتأدُّباً معه، واستعطافاً له.
فلمّا عرض هذا الرشد عليه، وأهدى هذه النصيحة إليه أبَى آزرُ متابعة رأيه، وأصرّ على بُنُوّته، وأنكرَ حَدَبَه عليه وشفقته به، وتجهّم له، وقال محتقراً شأنه، مُتعجِّباً من جرأته، منكراً عليه نصيحتَه: أراغِبٌ أنت عن آلهتي يا إبراهيم! لئن لم تَنتَهِ عن زيغِك، وترجع عن غيّك، وتَثُب إلى رشدك لأرجمنَّكَ بالحجارة، ولأرمينَّكَ بهُجر القول، فاحذر سَّورَة غضبي، وتجنّب إثارة سخطي، واهجرني مليّاً، فليس لك في داري مكان، ولن تجد في قلبي أثارة من عطف، أو بقية من إحسان.
قابل إبراهيم تهديد آزر بصدرٍ رحب، وتلقّى وعيدَه بنفس مطمئنة، ثمّ أجابه بما يُنبئ عن بِرَّه به، وإخلاصِه النصحَ له، وقال: (سلام عليكم سأستغفر لك ربِّي إنَّه كان بي حفياً. وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربِّي عسى ألاّ أكون بدعاء ربِّي شقياً) (مريم/47-48).
وودّعه وانصرف، وهو كاسِف البال، محزون الفؤاد، لأنّ دعوته لم تجد آذاناً مُصغِيَةً عند أبيه، واعتزله لئلا يكون مُظاهِراً له على الكفر، ومشايعاً في الشِّرك.
يتبع...
المصدر: كتاب قصص القرآن
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق