• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأخلاق الفاضلة ميراث الإنسانية

رفيق شاكرالنتشه

الأخلاق الفاضلة ميراث الإنسانية

إنّه الأخلاق والقيم والمثل العليا التي كان يؤمن بها الاقدمون في فترات تاريخية مختلفة، منذ عدة الآف من السنين، ومطابقتها أو مشابهتها لكثير مما نؤمن به اليوم من قيم ومثل وأخلاق يدل دلالة قاطعة على أنّ مسيرة الإيمان في التاريخ مسيرة واحدة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالديانات التي كانت منذ فجر التاريخ الأساس الذي انطلقت منه تلك المُثل العليا والأخلاق الفاضلة، بالإضافة إلى ما توصل إليه العقل البشري الواعي والمبدع.

وقد خلف لنا سكان وادي الرافدين (العراق القديم) ثروة هائلة من تلك الأخلاق الفاضلة التي ضمنوها آثارهم ملاحمهم، وقوانينهم كما وردت في: قانون اورنا ممو (2060-2042ق.م) قانون لبت عشتار (1934-1924ق.م) قانون اشنونه (1900-1850ق.م) قانون حمورابي (1728-1687ق.م) وكذلك في: ملحمة (اسطورة) ايتانا (2244-2207ق.م) ملحمة (اسطورة) جلجامش (القرن الثالث ق.م 2700-2550ق.م) كما خلف لنا المصريون القدماء في وادي النيل ثروة إنسانية تعتبر قمة السمو والرقي، اعطت الإنسانية تراثاً هائلاً من الأخلاق والقيم التي اعتبرها عالم معروف بوزنه في هذا المجال وهو (بريستيد) أساس نشوء الضمير الإنساني الذي نشأ وترعرع في مصر. ولقد خلف المصريون القدماء آثارهم على جدران المقابر وفي متون الأهرامات وعلى المسلات، ولفائف ورق البردي وغيرها. وجاء في تلك الآثار عدة أناشيد وحكم وأمثال وكتب تضمنت من القيم والاخلاق المثلى ما ظل قائماً حتى اليوم عند الشعوب المتحضرة التي لا زالت تؤمن بكثير من تلك القيم والأخلاق الفاضلة. ومن مخلفات المصريين الآثرية في هذا الشأن: المسرحية المنفية (3500ق.م) حكم بتاح حُتِبْ (2700ق.م) رسالة ملك اهناسية (2500ق.م) قصة الفلاح الفصيح (2000ق.م) كتاب الموتى (1500ق.م) أناشيد آتون (1370ق.م) وقد خلف لنا كذلك سكان فلسطين الأقدمون ميراثاً اخلاقياً رائعاً تمثل في الآثار التي خلفتها الحضارة النطوفية قبل اثنى عشر ألف سنة في فلسطين، وكذلك ما خلفه الكنعانيون الذين سكنوا فلسطين وما حولها من بلاد الشام منذ الآلف الثالث قبل الميلاد. ومن أشهر آثارهم: التوراة الكنعانية[1] ومكتشفات اوغاريت 1400ق.م، وهي المكتشفات التي وجدت في رأس شمر، حيث توجد مدينة اوغاريت التاريخية على بعد 12 كيلو متراً شمالي اللاذقية. وكذلك آثار مملكة عبلا (ايبلا- الصخرة البيضاء) في سوريا قرب حلب والتي كشفت التنقيبات التي تمت عام 1975م عن وجود مدين كانت عامرة ما بين (3100-2900) قبل الميلاد[2]. ونستطيع – على ضوء تلك الآثار – وما تضمنته من أخلاق وقيم ومباديء ومثل أن نقول أنها كانت نتاجاً لما قام به الأنبياء الذين قاموا بهداية الناس إلى الطريق الصحيح الذي فيه خيرهم وسعادتهم، وكذلك كانت تاجاً للفكر الإنساني المتفتح والمتألق الذي انتج للإنسانية روائع في المجالات الخلقية والمادية. فمسيرة الحضارة البشرية في توافقها وتعاونها بين ما قدمه الوحي وما انتجه العقل اعطت هذه النماذج الأخلاقية التي تعتبر اثمن ما كسبه الإنسان في تاريخه الطويل. وعلى ضوء هذا فلا يجوز أن نفاجأ عندما نقرأ في (نصوص ابلا) أو عبلا العربية التي سبق ذكرها اسماء من العهد القديم سواء اكانت تلك الأسماء لأشخاص أو لمدن مثل (آدم، حواء، يونس، داود، سودوم، عومورا، زوار) واسماء أخرى ذكرها القرآن الكريم امثال[3]، (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ) (الفجر/ 7-8). وان هذه الأسماء قد وردت قبل مجيء موسى (ع)، بخمسة عشر قرناً وقبل مجيء عيسى (ع) بأكثر من ثلاثين قرناً وقبل مجيء محمد (ص) بأكثر من خمسة وثلاثين قرناً. كما وان المخطوطات التي وجدت في كهوف (قمران) في التلال الغربية للبحر الميت – في فلسطين – قد كشفت عن وثائق هامة لأسفار التوراة وفيها خلافات عن الأسفار الموجودة، وعثر في أحد الجرار الفخارية في أحد الكهوف على (سفر لامك) وهو حفيد (اخنوخ) – النبي أدريس (ع) – الذي يعتبر أول من نظم شعراً حسب قول التوراة وصار اباً لكل ضارب بالعود والمزمار بانغام تحذر الناس من الأشرار الاثمين الذين سيهدم الله قواهم ويهلك نسلهم ثم يأتي بعالم جديد. وبعد وفاته حمل رسالته ولده (نوح) (ع)، الذي قضى حياته الطويلة وهو ينذر قومه.[4]. (..فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا ...) (العنكبوت/ 14). ثم جاء إبراهيم (ع) الذي هاجر من العراق بعد أن دعا قومه إلى عبادة الله الواحد مدة طويلة حتى كادوا يحرقونه بالنار، ثم هاجر من العراق يدعو إلى الله في سوريا وأرض كنعان، ثم مصر وعاد إلى فلسطين (أرض كنعان) وذهب إلى الجزيرة العربية في الحجاز فبنى هو وابنه اسماعيل الكعبة، ثم عاد إلى فلسطين ومات ودفن في مدينة الخليل جنوب فلسطين. وقد جاء إبراهيم (ع) بدعوة التوحيد الخالصة بعد أن هجر قومه في العراق الذين كانوا يعبدون الله من خلال عدد من الآلهة والأصنام. ولا شك أنّ سكان العراق وسوريا وأرض كنعان ومصر وجزيرة العرب قد تأثروا بدعوة إبراهيم (ع)، وبقيت آثار هذه الدعوة التوحيدية بين بعض العرب (الحنيفيين) إلى حين بعثة محمد (ص). ولا شك أنّ الملك العربي (حمورابي) قد تأثر بدعوة إبراهيم (ع) الذي يعتقد بعض المؤرخين أنه ظهر في عصر الدولة الحمورابية بعد أن اعلن الحرب على الأصنام وأن الدعوة التي نادى بها إبراهيم قد بلغت حمورابي، وأن حمورابي قد تأثر بدعوة إبراهيم. وقد أكد ذلك عالم الآثار الألماني فريدريك ديليتش في محاضرة له عام 1902م بقوله: "ان الملك الكبير حمورابي كان من معاصري إبراهيم"[5]. وقال السيد رشيد رضا أنه يرجح الظن في وجود صلة بين ملة إبراهيم وشريعة حمورابي. ان تشريع حمورابي اقتبس شيئاً مما كانت عليه ملة إبراهيم في الوقت الذي لم يهمل حمورابي العقائد السومرية التي اخذ منها. ونحن إذا طالعنا شريعة حمورابي نجد أحكامها في النكاح والطلاق وفي حد الزنا الذي لا يثبت إلا بالتلبس. وقد القصاص، العين بالعين والسن بالسن لا تختلف كثيراً عن التشريعات السماوية[6]. ويرجح العلماء، أو يكادون، وصول أبي الأنبياء إبراهيم الخليل (ع) لمصر أيام الأسرة الثانية عشرة (1991-1786) قبل الميلاد. وقد بدأ المصريون في هذه الفترة من تاريخ الكنانة المجيد يتخذون من المساوة بين الناس دستوراً تسير عليه الدولة وأصبح القوم يؤمنون بمبادىء جديدة، ومعان جليلة غلبت فيها الروح على المادة، واصبحت السعادة في صالح الأعمال الحسنة، وفيما يكتب المرء من فضائل بل ربما نطق الناس ببعض ما بثته الأنبياء بلفظ ومعناه[7].   الهوامش:
[1]- راجع التوراة الكنعانية من خلال النصوص المكتشفة في رأس شمراء تأليف هـ.أ. دبل ميديكو ترجمة جهاد هواش وعبدالهادي عباس، دار دمشق، دمشق الطبعة الأولى، 1988م. [2]- راجع ايبلا- عبلا- الصخرة البيضاء، دارسات آثرية ولغوية وتاريخية تأليف، عدد من علماء الآثار، ترجمة قاسم طوير، دمشق، الطبعة الأولى، 1982م. [3]- الدكتور سامي الأحمد، مصدر سابق ص34. [4]- محمود العابدي، مخطوطات البحر الميت، عمان، 1967، ص57. [5]- فريدريك ديليتش، بابل والكتاب المقدس، ترجمة بابل والكتاب المقدس، ايرينا داود، العربي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1987م، ص14. [6]- امين مدني، مصدر سبق ذكره، ص347.

[7]- الدكتور محمد بيومي مهران، مصر، مصدر سبق ذكره، ص432، انظر مفصلاً الفصل الثالث من نفس المرجع.

المصدر: كتاب الإيمان بين الوحي والعقل

ارسال التعليق

Top