قد نفهم أن يرتاب الناس في عقوبات وضعها البشر إذ ليس فيهم معصوم من الخطأ أو الهوى ولكن كيف نفهم أو نعقل أن يرتاب إنسان في عقوبات وضعها الخالق جلّ في علاه لحماية المجتمع من المجرمين والمعتدين (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور/ 50-51)، على امتداد السنوات جربنا العديد من قوانين العقوبات فهل كان المصريون آمنين على أنفسهم وأرواحهم وأعراضهم من سطوة القتلة والمجرمين والمعتدين؟ أروني امرأة أو فتاة تخرج اليوم من بيتها آمنة على نفسها وعرضها، لقد بدأ العام الدراسي مشحوناً بهواجس الخوف على أولادنا وبناتنا في غدوهم ورواحهم.. ونتساءل الآن كما تساءلنا كثيراً إلى متى نخدع أنفسنا بقوانين جربناها فلم تحقق للبلاد استقراراً ولا للعباد أمناً، وفي ظلها عاش الحاكم والمحكوم جميعاً غير آمنين، فالحاكم لا يخرج إلا في حراسة مشددة خوفاً عليه من المعتدين، ولا ينام إلا تحت حراسة محكمة، فالخوف للجميع والأمن مسلوب من الجميع والفوضى والإجرام سيوف على رقاب الموادعين والمسالمين، وهذا أمر طبيعي في حياة شعب يحكمه قانون بشري يتسع للمغازلات والمماحكات والحيل، ويرهف السمع. أما العقوبات الإسلامية ففيها حياة لكلِّ أبناء الوطن وفي ظلها تعيش النفس محفوظة من العدوان عليها وحفظ النفس من الكليات الخمس الضرورية لوجود أي مجتمع في هذه الحياة أو على ظهر الأرض، ولن يحفظ هذه النفس إلا القصاص الذي اختاره الله عقوبة لمن يعتدي عليها (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 179)، لأنّ القاتل إذا علم أنّه إذا قتل غيره يقتل به كف عن القتل وامتنع عنه، ونتساءل مع المرتابين في هذا: كم جريمة قتل وقعت أيام كان القصاص عقوبة للقاتل لقد كادت هذه الجريمة أن تختفي حتى بعد أن اتسعت شؤون الدولة الإسلامية شرقاً وغرباً.. وجريمة القتل بالذات لا يقدم عليها القاتل إلا وله أسباب ودواعٍ تجعله يستهين بعقوبة السجن مهما كانت شدتها ولكن من الصعب أن يستهين بالقصاص بل يفكر ألف مرة قبل أن يُقدم على قتل النفس التي حرّم الله إلا بالحقِّ، وأمام أعيننا تجربة عملية، الشعوب التزمت بقانون العقوبات الإسلامية في جرائم العدوان على النفس والمال والعرض فتهيأ لها من أسباب الأمن ما لم يتهيأ لغيرها من شعوب الأرض، وذلك رغم اتساع المساحات وتعدد الجنسيات النازحة إلى تلك البلاد (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة/ 50).
س: كيف ترون المردود الإيجابي لقانون العقوبات الإسلامي؟
دعنا نعترف أوّلاً بأن أحكام العقوبات الإسلامية أو القوانين الجنائية في الإسلام لم يصنعها المسلمون ولم يصنعها الصحابة أو التابعون، وإنما هي أحكام إلهية وضعها خالق البشر وصانع الوجود وأنزلها على رسوله الأكرم (ص) وأمره أن يحكم بها في الناس (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة/ 49)، وأحكام الله لا تجامل مسلماً ولا تحابي مؤمناً ولا تظلم إنساناً مخالفاً لعقيدة الإسلام وفي ظل هذه الأحكام استروح المخالف لعقيدة الإسلام أنفاس العدل وكرامة الإنسان وحرية الاعتقاد، وفي أحضان تلك الأحكام الإلهية وقف البسطاء في ساحات القضاء خصوماً للأمراء والحكام دون تردد أو خوف فأحكام الإسلام لا تعترف بالحصانة لأي إنسان ولا بالعصمة إلا للأنبياء. وهذا يعني أنّ سيف العدالة فوق رقاب الجميع، فالأمير مأخوذ بجرمه والفقير مأخوذ بذنبه وبذلك يسلم المجتمع كلّه من أسباب الشقاء والهلاك الذي حذرنا منها رسول الله (ص) بقوله: "إنما أهلَكَ الذين قَبْلَكُمْ، أنَّهم كانوا إذا سَرَقَ فِيهِم الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وَايْمُ اللهِ لو أنّ فاطمة بنتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَها"، ونتساءل مع المرجفين والمناوئين: كم يداً امتدت إلى السرقة؟ وكم يداً قطعت في ظل هذا القانون؟ وأي إنسان عاقل يضحي بقطع يده ولو من أجل المليارات؟ ولكن رأينا في عصرنا من يسرق المليارات تحت حماية القانون وحراسته. فكيف يأمن الناس على أموالهم إلا في ظل قانون يعاقب الشريف كما يعاقب الضعيف؟ وهل يأمن الناس على أرواحهم إلا في ظل قانون إلهي يقتضي للكناس من ذوي السطوة والبأس؟ وفيه تؤخذ النفس بالنفس والجارحة بمثلها (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة/ 45)، ولو تساءلنا بعد هذه الأعوام الطويلة: لماذا شاعت في مجتمعنا جرائم الأعراض المسلوبة بالزنا أو بألسنة وأقلام تستبيح الأعراض بإطلاق الشائعات؟ والجواب معروف إذ لا يوجد قانون بشري يعنيه الاهتمام بأعراض الناس كاهتمام القانون الإلهي بحفظ العرض، ففي ظل أحكام الله أعراضنا مصونة، وحرماتنا لا تنتهك، وحياتنا محفوظة، وفي ظله يعيش الناس جميعاً آمنين في بيوتهم آمنين في غدوهم ورواحهم، مطمئنين على أرزاقهم ومعاشهم، لا يظلمون ولا يُظلمون ولا يأكلون أموال الناس بالباطل، وتلك هي الحياة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال/ 24).
المصدر: كتاب القرآن وقضايا العصر
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق