• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد

د. محمد نبيل النّشواتي

وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد
◄الحديد معدن ثقيل، فلكي تتجمَّع وتتَّحد ذراته بعضها بالبعض الآخر على هذا النحو المتين الذي هو عليه يحتاج إلى طاقة هائلة لا تتوافر إلا في التفاعلات والانفجارات النووية، وبما أنّ مثل هذه التفاعلات لم تحدث في كوكبنا منذ تشكُّله إذن لابدّ أنّ الحديد دخيل على قشرة الأرض وأنّه قد تشكَّل في جرم آخر ثمّ انتقل بطريقة ما إلى الأرض، وهذا ما يتَّفق عليه كافة علماء الجيولوجيا والمعادن. أمّا نواة الكرة الأرضية التي تتألف من صخور سائلة أو منصهرة – طبقة السيما – فإنها تحتوي على بعض المعادن الثقيلة كالحديد والكوبالت وغيرها. لقد تبيَّن أنّ المجموعة الشمسية تحتوي على عدد كبير من الأجرام السماوية التي تدور في أفلاك خاصة بها حول الشمس وحول الكواكب السيارة. تنجم هذه النيازك عن انفجار أحد المذنَّبات أو أحد الكواكب. أثناء هذا الانفجار الذي ينجم عن ارتطام الكواكب ببعضها تنطلق طاقة نوويّة هائلة تفوق في قوتها آلاف القنابل النووية. تقوم هذه الطاقة بربط ذرّات المعادن الثقيلة بعضها بالبعض الآخر لتشكِّل معدن الحديد والنيكل والكوبالت والكروم والسيليسيوم وغيرها. إذن فالنيازك والأجرام السماوية التي نجمت عن انفجار النجوم والكواكب والمذنّبات غنية بهذه المعادن الثقيلة، كما تحتوي في تركيبها على غازات متجمِّدة كالنشادر والميثان والسيانوجين، وهذا هو تركيب المذنّبات التي تعبر مصدراً رئيسياً للنيازك والأجرام السماوية. فإذا اقتربت النيازك الصغيرة التي لا يزيد وزنها عن بضعة أطنان من الغلاف الجوي للأرض – السقف المحفوظ – فإنها ستتفتَّت لمجرد ملامستها له. وبما أنّ هذا الفتات خفيف الوزن فإن جاذبيّة الأرض ستشدّه إليها ليسقط مختلطاً مع الأمطار التي يحدثها فتخصِّب تربة الأرض وتجعلها غنيّة بالمواد العضوية والمعدنية كالحديد والنيكل وغيرهما. أمّا النيازك الأكبر حجماً فإنها تبقى في فلكها حول الأرض، وعندما تقترب من الغلاف الجوي تستعر وتتوهَّج وتضيء، وقد وصفها القرآن الكريم (بالشهاب الثاقب) أي المتَّقد أو المستعر، التي سخَّرها الله سبحانه وتعالى ليقذف بها مردة الشياطين الذين لا ينفكُّون عن محاولات الصعود إلى السماء لاستراق السمع والتنصُّت على الملأ الأعلى – الملائكة – وعلى أخبار السماء. وهذا ما أخبر عنه سبحانه وتعالى على لسان الجنِّ قائلاً: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) (الجن/ 8-9)، يُقصد بكلمة (الآن): أي بعد نزول القرآن، أمّا قبل ذلك فلم يَكُن محرَّماً على الجنِّ التنصُّت إلى أخبار السماء وأحاديث الملائكة وسماع أسرار الخلق والكون والوحي. لقد استغلَّ الجن ما كانوا يحصلون عليه من هذه المعلومات السماوية في الغواية والفساد، فكانوا يزوِّدون أتباعهم من الإنس بهذه المعلومات والأخبار ليدَّعوا النبوَّة أو الألوهية فيتَّبعهم الناس بعد أن يكفروا بخالقهم. لذا وحفظاً لكلام الله وللقرآن وحفاظاً على الإسلام والمسلمين من الغواية والتضليل وضع الله حداً لهذا النشاط الخبيث للجنّ فسخّر حرّاساً أشدّاء من الملائكة، وسخّر النيازك والشهب لتُرمى بها مَرَدَتُهم كلّها حاولوا تسلُّق عنان السماء وخطف خبرٍ من أخبارها: (إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) (الصافات/ 10)، وقال جلّ جلاله: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) (الملك/ 5)، وقال عزّ من قائل: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) (الصافات/ 6-10). كما قال سبحانه وتعالى في سورة الأنعام واصفاً خبث مردة الشياطين ومكرهم: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (الأنعام/ 121). عندما تلامس النيازك الغلاف الجويِّ للأرض فإنّها ستشتعل بفعل سرعة سقوطها الكبيرة والتي قدِّرت بـ864000 كم في الساعة (150 ميل في الثانية)، وبفعل احتكاكها الشديد بالهواء المحيط بالأرض (الغلاف الجوّي). نسمي هذه الظاهرة بـ(الشُّهُب) التي نشاهدها ليلاً وهي تسقط من السماء باتجاه الأرض، ولكنها لا تلبث أن تنطفىء بسرعة كبيرة بعد أن تتفتَّت وتتحوَّل إلى رماد سيهطل على سطح الأرض ليزيد من خصوبتها. أما إذا كان النيزك ثقيلاً ومتماسكاً فإنّه قد يصل إلى سطح الأرض سليماً فيحدث فيها خراباً ودماراً كبيرين. لقد سقط في جرينلاند Greenland نيزك يزن 26 طناً، وآخر في غروتفونتاين Grootfontein في جنوب أفريقيا وكان وزنه 60 طناً، كما سقط ملايين النيازك على الأرض منذ قديم الزمان كان آخرها الذي سقط بالقرب من مدينة أسنا وقرب قرية النخلة والثالث بالقرب من قرية دنشال بين دمنهور وكفر الزيّات في جمهورية مصر العربية عام 1911. لقد قام العلماء بتحليل هذه النيازك كيميائياً فوجدوها مشابهة في تركيبها لتركيب قشرة الأرض ولكنّها غنيّة بالحديد: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (الحديد/ 25). أمّا البأس الشديد الذي في الحديد فهو الطاقة النوويّة الهائلة التي بُذلت أثناء تشكُّله وتجميع ذراته لتعطي معدناً صلباً. أما وجه الإعجاز الآخر في هذه الآية فقد كان في الإعلان الإلهي في القرآن الكريم قبل أكثر من 1400 سنة أنّ الحديد قد تشكَّل في السماء ثم أنزله الله إلى الأرض تنزيلاً (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ). لقد أذهلت هذه الحقيقة العلمية جموع العلماء المؤتمرين في الرياض لدراسة الإعجاز العلمي للقرآن، فكان أجمل تعليق سمعه الملأ ما قاله البروفيسور وعالم الفضاء الأمريكي آرم سترونغ: "لقد توافقت أعمال الله في كونه مع جاء في القرآن الكريم قبل أكثر من 1400 سنة، كما توافقت هذه الآيات مع المكتشفات العلميبة الحديثة بما لا يدع مجالاً للشكِّ بأنّ القرآن من كلام الله مبدع الكون والعليم بأسراره وواضع قوانينه ونواميسه": (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (سبأ/ 6)، وقال جلّ جلاله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت/ 53)، وقال: (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (ص/ 87-88). بعد هذه الآيات والمعجزات والأدلّة العلمية المادية الملموسة لم يعد هناك أدنى شكٌ في وجود الله ولا في كون الإله الواحد الأحد الفرد الصمد خالق هذا الكون ومصوِّر مخلوقاته ومنزِّل القرآن، لذا فهو يستحقُّ منا الشكر والعبادة على ما أسبغه علينا من نِعَم ظاهرة وباطنة (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم/ 34). نَعَم، إنّ نِعَمَ الله علينا كثيرة وكثيرة جدّاً ولكن أهمها القرآن الذي أنزله نوراً وهداية للعالمين، وثانيهما أنّه سبحانه وتعالى قد أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ونشتهي كلٌّ حسب إيمانه واجتهاده وإخلاصه في العبادة والشكر والحمد لله وحده: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56). المصدر: كتاب وجود الله بالدليل العلمي والعقلي

ارسال التعليق

Top