• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإسلامية.. في شعر أمير الشعراء

نجيب الكيلاني

الإسلامية.. في شعر أمير الشعراء

 إنّ عظمة الشاعر تكمن فيما يتناوله شعره من قضايا وأفكار، وذلك في إطار الشكل الفنّي الناضج، وبالأسلوب القوي المعبِّر المناسب، وكلّما التزم الشاعر بمبادئ وقيم عظيمة مؤثِّرة، كان فنّه أروع وأفضل.. وعلى الرغم من أنّ عالم شوقي الشعري كان عالماً رحباً، غنياً بالكثير من الصور الحيّة النابضة، إلا أنّ حيزاً كبيراً منه، قد تخصص في الفكر الإسلامي، وعلاقته بالحياة والناس وحركة التاريخ قديماً وحديثاً، في صورة مباشرة لا لبس فيها ولا غموض، بالإضافة إلى سيطرة المعاني الإسلامية على أغلب شعره بطريقة أخرى غير مباشرة، نراها في أحكامه العامّة، وفي أخلاقيات الشخصيات التي يتحدّث عنها، والأحداث الكبرى التي يتعرّض لها.

ولعل قصيدة (نهج البردة) وقصيدة (الهمزية) الشهيرتين، تقفان في مقدّمة شعره الإسلامي المباشر، الذي يتعرّض فيه للإسلام بغير قليل من الدقة والتفصيل، مستخدماً أساليب الدراسة والحوار البنّاء، والأدلة المنطقية التي سادت في عصره آنذاك، ذلك العصر الذي شهد دراسات إسلامية حديثة جادة اشترك فيها كبار الكُتّاب والشعراء، وأيضاً كتاب القصة والمسرح. ولقد حظيت النزعة الإسلامية في شعر شوقي بإهتمام الكثيرين من النُقّاد والمؤرِّخين، لدرجة أنّ أحد أساتذة الجامعة قد أفرد لها كتاباً ضخماً، كما أنّ كتاب التراجم والسير الذين كتبوا مؤلفات عن شوقي أو عن الشعر المعاصر لم يتجاهلوا تلك الحقيقة الناصعة، بل إنّ مسرحيات شوقي العديدة لم تغفل هذه النواحي الهامّة، حتى التاريخية منها سواء ما كتب عن العصر الفرعوني أو الروماني أو الأموي، نشعر من خلال الحوار الشعري الفياض المعبر بالمعاني الإسلامية الرقراقة التي لم يستطع الكاتب أن يتخلص من آثارها حتى في عصور ما قبل الإسلام.. ولا شكّ أنّ سيطرة المبادئ الإسلامية، والقيم الروحية على فكر الشاعر وقلبه، أمراً مفروغاً منه، بل مؤكداً بالكثير من الشواهد التي لا يتسع المجال لعرضها (انظر كتابنا: شوقي في ركب الخالدين، وخاصة فصل: الإسلام في شعر شوقي).. ولقد كان لشوقي قدرة هائلة على التعبير المركز الذي يزخر بالكثير من المعاني الكبيرة، لنقرأ معاً هذا البيت من همزيته الرائعة عن الإسلام: الدين يسرٌ، والخلافة بيعةٌ والأمر شورى، والحقوق قضاءُ لقد استطاع أمير الشعراء أن يلخص فلسفة الحكم في الإسلام في بيت واحد.. فالإسلام، رسالة الله الأخيرة إلى الأرض، كلّه يسر ووضوح، لا يتنافى مع طبيعة البشر وواقعهم، يتفق مع قدراتهم وفطرتهم ومصالحهم، وليس هناك حاكم يفرض نفسه، فالخلافة بالبيعة، والقرارات التي تتخذ، والإجراءات التي توضع، تنبع من قاعدة الشورى، حيث حرِّيّة الرأي والتعبير، وحيث النزول على رأي المتخصصين المخلصين، والعدل هو أساس القضاء والحكم، مهما تكوّنت وتنوّعت الأساليب، تلك هي القواعد العامّة للحكم، والتي يسردها الشراح والمشرعون في مئات، بل آلاف الصفحات، كلها جاء بها شوقي في كلمات قصار، ورفعها شعاراً عالياً خفاقاً عبر التاريخ الإسلامي الزاهر.. والحرب في الإسلام لا تقوم بسبب الرغبة في السيطرة والغزو، وتحقيق الأمجاد المادية أو الدينية، أو إذلال الشعوب، واستنزاف ثرواتها، وتحويل الأفراد إلى عبيد أو رقيق.. الحرب في نظر الإسلام جهاد في سبيل الله، وإحقاق للحق، وفتح الطريق أمام الناس كي يختاروا عقيدتهم، دون كبت أو قهر. يقول شوقي مخاطباً رسول الله (ص): الحرب في حق لديك شريعة ومن السموم الناقعات دواءُ من هنا كانت القوّة العددية وقوّة العدّة ليست هي الأساس الأوّل، بل هناك العقيدة والإيمان وقدرة الله، فالقلة المؤمنة، تهزم الكثرة الكافرة، والله يمد المؤمنين بجنود قد لا يراها الإنسان، وهي دعم وتأييد للمؤمنين الذين يخوضون المعمعة في سبيل الله، من أجل إعلاء كلمته، يقول شوقي مصوراً غزوة بدر، ومؤكداً المعاني التي وردت في القرآن بخصوص هذه المعركة: يومٌ كبدر وخيل الحق راقصةٌ على الصعيد، وخيل الله في السحب ويؤكد شوقي في شعره على أنّ الصبر والمثابرة، وأنّ التضحية والإقدام في معركة الحق الأكبر، هي السبيل لإحراز النصر، وقهر الأعداء، وإعلاء كلمة الله: وما استعصى على قومٍ منالٌ إذا الإقدام كان لهم ركاباً كانت هذه الصيحات تنطلق في شعر أمير الشعراء، فيرتدد صداها في جنبات العالم الإسلامي الشاسع، الذي وقع فريسة الإستعمار والقهر والإستغلال، وكان يهيب بجموع المسلمين، كي يحطموا أغلالهم، وينطلقوا من إسارهم، وذلك كي يخوضوا معركتهم الكبيرة، في ضوء التعالم الإسلامية الرائدة، وأن يلتزموا بالمبادئ التي جاء بها دينهم، سواء في حربهم أو سلمهم، وفي معاركهم الحربية أو الإجتماعية أو السياسية، وعلى الرغم من أنّه كان (شاعر الأمير) من ناحية أو شاعر القصر، إلا أنّ ذلك لم يمنعه من التغنّي بالحرِّيّة والحكم الديمقراطي والشورى، حيث الشرعية واحترام الدستور، لذا نراه – حتى في معرض المديح – يقول في نونيته الشهيرة: زمان الفرد يا فرعون ولّى وزالت دولة المتجبرينا وأصبحت الرعاة بكل أرض على حكم الرعية نازلينا إلى أن يقول في وضوح وثقة مخاطباً فرعون: فؤادُ أجلّ (بالدستور) دنيا وأشرف منك (بالإسلام) دينا وكانت أشعاره ضدّ الدولة الغازية منبثة في كثير من قصائده، لا يفتأ يدعو إلى الجهاد المقدس، من أجل الخلاص من قبضة الإستعمار وفساده، ممّا أدّى إلى نفيه إلى اسبانيا لعدّة سنوات، فعانى من مرارة الغربة والتشريد، لكن ذلك كله لم يفت من عضده، ولم يضعف من عزيمته، فعكف على كتابة المسرحيات الشعرية لأوّل مرّة في تاريخ الشعر العربي، وكانت هذه المسرحيات وعاءً لكثير من القضايا والأفكار، فقد صوّر فيها طبائع الشعوب، وخفايا القصور، ومكائد الغزاة، وعمّق فيها الشعور بالقيم الإنسانية عامّة. وعلى الرغم من أنّ غالبية هذه المسرحيات ذات نزعة تاريخية، إلا أنّه اتخذ منها منبراً لبث أفكاره، والترويج لفلسفته النابعة من التراث الإسلامي، وروائع مبادئه وآدابه، كما تعرّض فيها لحقبات قلقة مضطربة في تاريخ الإنسان أيّاً كان لونه وعصره، وسجّل فيها حقائق أزلية متنوعة، نراه مثلاً في (مجنون ليلى) يصوِّر المجتمع وصرعاته السياسية التي تتخذ من الدين غطاءً لها. ففي حوار بين بعض المنتمين لأفكار معيّنة، يقول أحد الأبطال: أحب الحسين ولكنما لساني عليه وقلبي معه إذا الفتنة اضطربت في البلاد ورمت النجاة فكن إمّعة وهو بهذا التصوير القاسي الساخر، ينفر من النفاق، وينحو باللائمة على أولئك الذين يهربون من واقع الحياة، ويخلعون رداء الإنتماء الأخلاقي الصحيح.. وفي مصرع كيليوبترا، يصوِّر كيف تنخدع الشباب بالباطل، وتسير في ظل الزيف والبهتان. ولا تتبين الحقائق الأصيلة، ويوجه سهام نقده للحُكّام الذين يغررون بالشعوب، وينحرفون بها عن الطريق السوي: اسمع الشعب (ديوني) كيف يوحون إليه ملأ الجو هتافاً بحياتي قاتليه يا له من ببغاء عقله في أذنيه لقد كانت ثقافة شوقي وإلمامه بالتراث العربي والإسلامي من ذلك النوع الأصيل الذي تشبع به من منابعه الأولى، وعايشه في حقبه المختلفة، ومن ثمّ كان لبنائه الفكري سمات معيّنة واضحة، إسلامية الروح، شرقية المشرب، ولم تنل من هذا البناء مكتسباته الثقافية والفكرية في فرنسا، بل دعمتها، وزادتها رسوخاً وشموخاً وقوّة، كما حياة القصور، وتبعيته للخديوي لم تجعله يتجلى عن قضايا الشعب وحقوقه في الحرِّيّة، وفي تحسين أوضاعه الإقتصادية والإجتماعية والسياسية. كما وقف شوقي صلباً في وجه المؤامرات والتحديات التي أرادت القضاء على الخلافة الإسلامية، ولم يكن دفاعه عن الخلافة دفاعاً عن أخطاء بعض الخلفاء وبطانتهم الفاسدة، وإنّما كان دفاعاً عن (الرمز الإسلامي) المتمثل في كيان الخلافة. وكان شوقي بعيد النظرة، رحب الأفق، مرتبطاً في شعره بالأحداث العالمية الكبرى، وبشخصيات العصر الشهيرة، متعاطفاً مع حركات التحرير في شتى الأنحاء، فنراه مثلاً يستقبل غاندي في مصر بقصيدة طويلة، يقول فيها: سلام النيل يا غاندي وهذا الزهر من عندي سلام حالب الشاة سلام ناسج البردِ ويُحذِّر غاندي من الإستعمار وألاعيبه ومؤامراته، فيقول: وقل هاتوا أفاعيكم أتى الحاوي من الهندِ والواقع أنّ المتصفح لديوان أمير الشعراء، يجد فيه سجلاً حافلاً للتاريخ الإسلامي وأحداثه الكبرى، ويستخلص منها العبر والدروس، ويدعو الأجيال الجديدة للعودة إلى تاريخها، والنهل من منابعه الروحية الخالدة، ويعتبر ذلك هو البداية الحقيقية للإنطلاق إلى عصر التحرر والعلم والكفاح، ولقد ترنّم بمجد قرطبة، وعظمة دمشق، وانتصارات بغداد، في عصور التاريخ الإسلامي الزاهر، وأحيا تلك الأمجاد الخالدة، التي مازالت سطورها تضيء عبر القرون المتعاقبة. ومع أنّ شوقي لم يكون فيلسوفاً، ولا زعيماً سياسياً، إلا أنّه كان (معلماً) بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، ومن ثمّ لم يكن هناك مثقف ولا طالب في مدرسة، ولا خطيب على منبر، إلا وترنّم بأشعاره، واستشهد بها في كلامه، وليس هذا بعجيب بالنسبة لشاعر، يعتبر من أحسن شعراء العربية في تاريخها الطويل.. ومازال شعر شوقي في حاجة إلى مزيد من الدراسة والتحليل فيما يتعلق بالنواحي الإسلامية فيه، وما أكثرها، وليت المسؤولين يحاولون طبع هذه الألوان الإسلامية من شعره طبعات شعبية، توزّع على طلبة المدارس وفي الأندية، حتى يلمّوا بروائع هذا الشاعر العظيم الذي عاش مخلصاً لوطنه، ودينه، وعصره، على ضوء الإسلامية الخالدة، وهل الإسلامية إلا منهج في الفكر والسلوك؟ (صبغة الله ومَن أحسن من الله صبغة). المصدر: كتاب نحن.. والإسلام

ارسال التعليق

Top