• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإمام علي (ع) بين المثال والواقع شواهد في عدله الإداري

السيد هاني فحص

الإمام علي (ع) بين المثال والواقع شواهد في عدله الإداري

يوفر الامام علي (ع) بيقينه، الذي لا زيادة عليه، وبطريقته في الإدارة العامة، والسياسة التي تتوازن في المضطربات ولا تلغي الثابت من أجل المتغير ولا تهون من شأن المتغيرات، توائم بين الاستراتيجية والتكتيك، على منهجية توحيدية تهدف فيما تهدف إلى الابقاء على المثال في الاطروحة والمشهد معاً، بحيث لا يؤثر قصور الاُمّة أو تقصيرها عن تحقيق مثالاتها في المس بمصداقية الاطروحة، ويبقى الإمام، في المفاصل الشائكة والاشكالية، في العموميات والتفاصيل، على شفافيته ومكاشفته بالحقائق والوقائع، اصراراً منه (ع) على سد منافذ الاختلال والافتراق بين نظام الأفكار ونظام القيم، باعتبار كل منهما ضمانة للآخر... وينصه الذي يحكي ويستشرف ويحاكم ويعدل ليطابق عدالة الخطاب بعدالة الفعل.. بكل ذلك يوفر الإمام (ع) مساحة واسعة يلتقي عليها مختلفون ومتفقون من ثقافات وحساسيات ومشارب ومذاهب متنوعة.

إنّ العالم في فكر الإمام وسيرته وسلوكه، يحفظه ويعيد تقديمه مثالاً لأهل الإيمان والتوحيد والعدل في الدنيا، ما انقضى من عمرها أو عمرنا فيها وما هو آت مع كل الآتين، من الكامنين في أصلاب الرجال وأرحام النساء، يرعف بهم الزمان – على حد تعبير الإمام – وتنكشف لهم وبهم ومعهم حقائق إضافية، لا تعدم في فكر الامام استشرافاً لها أو إشارة إليها... ما يلزمنا جميعاً بأن نحسن تمييز العام عن الخاص من علي وفيه، والخاص في علي (ع) يبلغ غاية الضيق وينضبط بالعام ويضبطه (لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جور إلا عليّ خاصة) ومساحة العام فيه شاسعة ومفتوحة، وهي إلى مزيد من الاتساع عاماً بعد عام، ومنقلباً اثر منقلب، وانكشافاً تلو انكشاف.. وإذا ما كان العدل هو الاختزال غير الظالم، أو التركيز المكثف لعلي شخصاً ونصاً، إماماً وحاكماً شاهداً وشهيداً، فإنّه كلما امضى في كثافته وتركيزه، اتسعت آفاقه وترسخت عموميته.. ومن هنا فإننا ملزمون ومضطرون لاستحضاره رافعة للرجاء، خاصة بعد ما أصيبت الغالبية العظمى من الناس، في هذا المفصل التاريخي المعتم، بحالة مستشرية من الاحباط والخيبة، وشعر الثوريون الواقعيون والحقيقيون منهم، الذين رفعوا التغيير شعاراً وحملوا العدل رجاء وهماً، شعروا بالخسارة والانكسار، ما جعل كثيرين منهم يتراجعون أو يشكون في صحة اختيارهم، واحتاط بعضهم لنفسه فأعاد قراءة التاريخ بتدقيق وموضوعية ورؤية ومن دون مسبقات ضاغطة، فاهتدى إلى نماذج ثورية عظيمة باعدت الظروف والعوائق بين مشروعات العدل التي حملوها وبين تجسدها وبلورتها، من دون أن يتمكن، حتى خصومهم، من التشكيك في صواب منهجهم أو في جدارتهم الفكرية والمسلكية، ما يشكل عزاءً للثوريين الحقيقيين، ويبعث فيهم العزم على استعادة أفكارهم وطموحاتهم وتصحيحها ووضعها بين يدي الأجيال وديعة إيمان وعمل، لابدّ أن تأتي الظروف الملائمة لتعيد إطلاقها إلى ميدان العمل والجهاد... هذه الخلفية هي التي دفعت ثورياً كالمرحوم عبدالرحمن الشرقاوي إلى قراءة علي (ع) متعزياً به ومنطلقاً منه إلى أمثولات في تاريخنا، بعدما كان قد دشن هذا التوجه بمسرحيته (الحسين شهيداً وثأر الله)، في الستينيات في لحظة كان فيها الحلم الثوري، حلم العدل والتغيير قد بدأ يميل إلى الأفول، فاختار له من دم الحسين حفنة تحييه.. ولكن أفل، ولم يبق منه الا احتمال بعد نكسة عام 1967 فاتجه الشرقاوي إلى الماضي الموصول منطلقاً من علي (ع) أو منطلقاً إليه في محاولة لتسويغ أخلاقي للانتماء الثوري ينتهي إلى أنّ التغيير على قاعدة العدل ومن أجله، هو الزام والتزام أخلاقي أولاً.. وفي تجربة الكاتب العراقي الشهيد عزيز السيد جاسم درس آخر، لقد كان كتابه عن الإمام فعل توبة فكرية وأخلاقية إيجابية، واشارة إلى امكان وضرورة التأسيس على طروحة مختلفة، تقوم على الإيمان أوّلاً، وتتجاوز انكشافات والتباسات وانسدادات أطروحات حركة التحرر العربية التي اتسمت بالمراوغة والهجانة. ودفع عزيز حياته ثمناً لمحاولته الانسجام مع نفسه في كنف علي.. (خاصة في صورتها العراقية المشوهة). اما نحن الآن.. إذ نستحضر عليا (ع) فنستحضر حالنا ومآلنا في ذاكرتنا العلوية، فاننا مطمئنون إلى أنّ ذلك هو مشروع حياة واحياء، لأننا نتحرك في ظل المثال الايراني الشاخص، الذي تعنينا مساراته ومؤشراته ونهاياته المنطقية السليمة، أكثر مما تعنينا تعقيداته التي هي أيضاً بعض مظاهر حيوياته ونحن على يقين بأنّه يملك من الحيوية والوعود ما يؤكد انّه موضوع على طريق تحقيق المزيد من النجاح بأثمان تكبر أو تصغر من دون أن تتراكم إلى حد القطع والمنع. خاصة وأن هذا المثال قد حقق نجاحه المدهش في مرحلة التأسيس، وفي ظروف بالغة السوء والتعقيد استوعبها ثمّ تجاوزها، مصمماً على تجديد نفسه، بوعي متدفق في المستجدات المعرفية والحياتية والتنظيمية والعلائقية، وصولاً إلى معاصرة لا تقطع مع أصولها وسيرورتها التاريخية. على أساس من الاعتدال والتوسط والتسوية، حيث لا تقع التسوية في وهم اختراع الوسائط بين النقائض. إنّ القدوة، بمستوياتها كافة، في علي ومنه، يمكن استعادتها وتمثلها، وإعادة تشكيلها، وتجاوز ما هو رهن بلحظته التاريخية المنقضية لا لخلل فيه، بل لمغايرة حادثة ومتوقعة دائماً في تقنيات الأداء الحالي أو المستقبلي. أن في شخصية الامام علي (ع) من الغنى ما يجعل مستويات كثيرة منها قابلة للاستفادة والاغتناء بها واعادة توظيفها، ولكن الظرف السياسي والفكري والاجتماعي المتبدل يلزمنا باختيار مستويات قبل غيرها، لا من دونها، ذلك لأنّ علاقتنا بالتاريخ، لا يجوز أن تكون هجرة تعويضية لا تميز بين الأولويات، فتعود إلى التاريخ لتعيده بقضه وقضيضه، بينما المنطق العملي المضبوط والمسترشد برؤية متوازنة، يقتضينا أن نستعيد الأجمل والجميل لنستمتع به ونرمم بنيتنا الفكرية ونبني ذاكرتنا على الموجب والجامع، ونضيف إليه، وأن نتخطى الضار والمفرق. وعلي (ع) لا يشكو من نكران، فهو في نظر وعقيدة فرقة كبيرة من فرق المسلمين أمام معصوم، والعصمة ضمانة العدل، وفي نظر الفرق الأخرى والأديان الأخرى، إمام عادل، والعدل أصل في بنيته الذاتية يصل تتبع شواهده في حياته بالمتتبع إلى حد العصمة. ومن هنا ينشغل الجميع بقراءة مشروعه في العدل وتطابق سلوكه مع موجبات هذا المشروع، الذي التقت ظروف معقدة على اعاقته، فأعاقته، لأنّ تحقيق العدل بالنسبة المرجوة أو المجزية في التاريخ، كان وما يزال يمر بتعقيدات كثيرة، تمنعه ولكنها لا تلغيه ولا تغيبه عن أذهان وطموحات الغالبية العظمى من الناس أصحاب المصلحة في العدالة. إذن يبقى مشروع العدل رهن بحال الأُمّة موضوعه، وكانت حال الأُمّة في عهد الإمام قد وصلت إلى حد الضد من طموحاته، أي أكثر من مجرد اختلاف بين المشروع وبين الواقع ومعطياته. نستعيد علياً إذن، لنرفع من درجة احتياطنا، حتى لا نسقط من حسابنا أنّ السعي إلى العدالة ليس مرهوناً بالظروف السهلة، ولا مرة كانت الظروف سهلة، المزيد من الصعوبة، المزيد من الجور يغري ويلزم بالمزيد من التمسك بالفكرة العادلة. المفتاح، أحد المفاتيح في شخصية علي (ع) أو في حاكميته، أنّه كان يعي دور الحاكم القدوة ويعمل على تعزيز هذا الجانب في سلوكه، من دون ظلم للناس أو تكليفهم بمالا يطيقونه، فاجتمعت في رؤيته واطروحته المثالية والواقعية، فألزم نفسه بأمور لم يلزم بها غيره من أعوانه وأصحابه وفريق عمله وحكام الأطراف العاملين بإمرته، وإن حثهم على الاقتداء بمقدار يحفظ توازنهم واتزانهم وصورتهم في عيون المحكومين يقول (ع): "وان لكل مأموم إماماً يقتدي به" وهو إمامهم، فأين وضع نفسه؟ "... أم أرض أن يقال هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في جشوبة العيش أو أكون أسوة لهم في مكاره الدهر؟" وماذا ينتظر منهم؟ "... وأعلم انكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع اجتهاد وعفة وسداد". وعندما يظهر التعارض الحاد بين مسلكين من مسالك أصحابه، كالأخوين عاصم والعلاء الحارثيين، أحدهما أفرط في الزهد والتخلي، والثاني استمتع بالحلال من ماله، فنهى الأوّل ووجه الثاني إلى حسن الاستمتاع، فحدد موقع الاعتدال المطلوبة والوسط بين الاستغراق والحرمان، فالتفت إليه صاحبه الزاهد ليسوّغ مبالغته في الزهد، بسلوك الامام وسيرته، فرد عليه الامام قائلاً "ويحك اني لست كأنت، انّ الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس، حتى لا يتبيغ بالفقير فقره" أي حتى لا يهيج به الألم فيقتله. وفي فترة حكمه، التي امتلأت بالبغي والخروج والمروق والفتن، أصر على أن يحافظ على سيرة الحاكم الساهر اليقظ، الذي يسعى إلى إقامة إدارته على معادلة الأخلاق والأهلية والقانون (الشرع) وعلى التوازن والتناغم والتواصل والتكافؤ والتكامل بين الرادع الخارجي والوازع الداخلي، بين الشريعة والضمير، مع مساحة محفوظة للتسامح والتماس الاعذار من دون تراخ، رائده في ذلك قناعته بالرحمة "ارحموا أهل المعاصي" كما قال أقدم فيما يلي شواهد من نصوصه، من كتبه الإدارية، إلى عماله وولاته وقضاته في الأمصار، الذين يوفدهم لحفظ الجماعة في مصالحها وعلائقها وكراماتها يشد عليهم في الانحراف ويحاسبهم في الخطأ، ولا يكون المحسن والمسيئ منهم عنده بمنزلة سواء، ويبدل في مواقعهم أو يعزلهم مع الاعذار إليهم، ولا يسلبهم فضائلهم، همه في ذلك سلامة النظام العام، والمصلحة العامة والقيم العامة، من دون جور على المصلحة الخاصة. وكانت اشارته الأولى التي أعطاها على منهجه وسلوكه، انّه رد إلى الأُمّة في أوّل عهده قطائع سابقة وعندما راجعه بعض المتضررين في ذلك ليتغاضى أجابهم "والله لو وجدته قد تزوّج به النساء وملك به الإماء لرددته، فانّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل كان الجور عليه أضيق" إذن فما يبنى على الباطل باطل، والتقادم أي مرور الزمن لا يسقط الحق.   - نصوص مختارة: 1- روي انّ شريح بن الحارث قاضي علي (ع) اشترى على عهده داراً بثمانين ديناراً، فبلغه ذلك فاستدعى شريحاً وقال له: "بلغني أنك ابتعت داراً بثمانين ديناراً، وكتبت لها كتاباً واستشهدت فيه شهوداً، فقال له شريح! قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، قال.. فنظر إليه نظر المغضب ثمّ قال له: "يا شريح أما أنّه سيأتيك من لا ينظر في كتابك، ولا يسألك عن بينتك، حتى يخرجك منها "الدنيا" شاخصاً "ذاهباً مبعداً" ويسلكك إلى قبرك خالصاً، فانظر يا شريح لا تكون قد ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا والآخرة". 2- كتب (ع) إلى أشعث بن قيس عامله على أذربيجان يقول: "انّ عملك ليس لك بطعمة (المأكلة) ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مستر لمن فوقك ليس لك أن تفتات (تستبد) في رعيته، ولا تخاطر إلا بوثيقة، وفي يديك مال من مال الله عزّ وجلّ، وأنت من خزانه حتى تسلمه إلي، ولعلي لا أكون شر ولاتك" (المتولي عليه). 3- وكتب إلى بعض عماله يقول: "أما بعد فان دهاقين (الزعماء الملاكون والأكابر) أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقاراً وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلاً لأن يدنوا لشركهم، ولا أن يقصوا أو يجفوا لعهدهم فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدة وداول لهم بين القسوة والرأفة وامزج لهم بين التقريب الادناء والابعاد". 4- إلى زياد بن أبيه عندما كان عامله على البصرة ".. واني أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خنت في فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لاشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر (المال) ثقيل الظهر ضئيل الأمر". 5- وإلى زياد أيضاً: "فدع الاسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غدا، وأمسك من المال بقدر ضرورتك وقدم الفضل ليوم حاجتك (ما يفضل من المال) أترجو أن يعطيك الله أمراً المتواضعين وأنت من المتكبرين، وتطمع وأنت متمرغ في النعيم تمنعه الضعيف والأرملة". 6- إلى محمد بن أبي بكر لما بلغه توجده من عزله بالأشتر على مصر، ثمّ توفي مالك الأشتر في طريقه إليها: "أما بعد فقد بلغني توجدك من تسريح الأشتر إلى عملك، واني لم أفعل ذلك استبطاءً لك في الجهد، وازدياداً لك في الجد، ولو نزعت ما تحت يدك من سلطانك، لوليتك ما هو أيسر عليك مؤونة وأعجب لك ولاية انّ الرجل الذي كنت وليته مصر كان رجلاً لنا ناصحاً.. فرحمه الله". 7- إلى بعض عماله: "بلغني أنك قد جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلي حسابك، واعلم انّ حساب الله أعظم من حساب الناس". 8- إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي، وكان عامله على البحرين فعزله واستعمل نعمان بن عجلان الزرقي مكانه: "أما بعد فاني قد وليت النعمان على البحرين، ونزعت يدلك بلا ذم لك ولا تثريب عليك (لوم) فلقد أحسنت الولاية وأديت الأمانة، فاقبل غير ظنين (منهم) ولا ملوم ولا متهم ولا مأثوم، فلقد أردت السير إلى ظلمة أهل الشام وأحببت أن تشهد معي فانك ممن استظهر به". 9- إلى بعض عماله وهو من أبناء عمومته "اما بعد فأني كنت أشركتك في أمانتي، وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي لمؤاساتي ومؤازرتي وأداء الأمانة لي فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد لكب والعدو قد حرب وأمانة الناس قد خزيت، قلبت لابن عمك ظهر المجن وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك آسيت ولا الأمانة أديت.. أيها المعدود – كان فينا – من أولي الألباب، كيف تسيغ شراباً وطعاماً وأنت تعلم انك تأكل حراماً وتشرب حراماً؟ فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم فإنك ان لم تفعل ثمّ أمكني الله منك، لاعذرت إلى الله فيك والله لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بارادة حتى آخذ الحق منهما". ماذا كان همه الذي حكم اهتمامه بالحكم؟ دخل عليه عبدالله بن عباس وهو يخصف نعله (الليف) فقال: يا ابن عباس أترى إلى هذه النعل كم تساوي؟ قال: لا تساوي شيئاً قال: والله ان امرتكم عندي أهون علي من هذا النعل إلا أن أقيم حقاً أو أبطل باطلاً". هذا هو صوت علي (ع) من الأعماق إلى الأعماق داعياً إلى العتق والانعتاق، يرفع عنا تهمة الماضوية المغرقة أو الغارقة.. أي أننا لا نلوي عنق الحاضر نحو الماضي، ولكن المواطن الخفير الفقير، حاكماً ومحكوماً، إذا ما كان موقع القرار أو موقع الاستكشاف والاستشراف والنقد والتسديد والنصح، ملزم في سيره، وتأمين سلامته وسلامة من يعول عليه أو يصغي إليه، أن يتلفت إلى الوراء وإلى اليمين واليسار، إلى موطن القدم أو الغيوم السوداء التي تسد الأفق،.. واذ نكتب على علي (ع) لا نخفي اشتياقنا إلى سياق يتيح لنا الحضور بما نحن من عديد في أُمّة مميزة بوسطيتها وممتازة، بمكوّناتها وإمكاناتها، بشرط عدم المبالغة أو الافراط في الطمأنينة والكسل والتطرف.. وبشرط الاصرار على اعادة انتاج الامثولة الواقعية المميزة.. التي تملك هذه الأُمّة أكثر عناصر وأسباب ومقتضيات انتاجها، وتجد في عقيدتها وشريعتها ما يلزمها ويُلزمها بذلك، ولا يعفيها من موجبات موقعها الوسطي الذي اهلّها للشهادة.. وتزداد وظيفتها التاريخية على هذا الصعيد أهمية وحساسية، كما تأكدنا انّ التعددية التحاورية هي أطروحة المستقبل، من دون أن نعدم مثالها في الماضي، وانّ التعدد يحيل أطرافه أو بعض أطرافه، إلى كسور وأرقام هشّة أو فارغة، إذا لم يستو على حال من النظم والانتظام تتجلى من خلاله العناصر ولا تحشر فيه حشراً وقسراً... واختم بالإشارة إلى نصين تنظيمين اداريين أخلاقيين، وحضاريين من نصوص الإمام.. رسالته إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف يعاتبه بشدة على سلوكه غير المتوازن بين أهل اليسر والثروة وبين الفقراء.. والثاني عهده المشهور إلى مالك الأشتر.. الذي يجسد أطروحة في توجه الحاكم المركزي إلى حكام الأطراف، يحرضهم على الرؤية المستوعبة بالاجتماع العام بكل تنوعاته، وعلى العدل والانتباه والحذر والحيطة والاستقراء الدائم للحراك الاجتماعي، وحركة الجماعات والفئات والحساسيات المكونة للاجتماع وادوارها المتعددة المتكاملة.. وإلى مكامن الخطر فيها.. والتي على الحاكم أن يحفظ تعددها ويوظفه ويتيح لها التعبير السليم عن نفسها ويؤمن لها سبل تكاملها، من دون طغيان أو اهمال أو تمييز إلا على أساس الالتزام والانجاز والاستقامة والانتاج.   المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 104 لسنة 2000م

ارسال التعليق

Top