د. زيد بن محمد الرماني
الحج فريضة وركن من أركان الإسلام، تلتقي فيه الدنيا والآخرة، وتلتقي فيه ذكريات المسلمين القريبة والبعيدة.
والحج مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة، مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن، منذ أبيهم إبراهيم الخليل (ع)، يقول سبحانه: (وأذِّن في الناسِ بِالحَجِّ يأتوكَ رِجالاً وعلى كُلِّ ضامِرٍ يأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقَ * لِيَشهَدُوا مَنافِعَ لَهُم ويَذكُرُوا اسمَ اللهَ في أيّامٍ مَعلُوماتٍ على ما رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الأنَعامِ فَكُلُوا مِنها وأطعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ* (الحج/ 27-28).
وللحج أهداف عظيمة، إذ هو إمتثالٌ لأمر الشرع، وهو شحنة روحية وعاطفية، وهو فريضة لتبادل المنافع، وهو سلامٌ ومساواة.
لا شكّ أنّ الله سبحانه بحكمته وعظمته، اختار منذ خلق الإنسان هذا المكان الطيب الطاهر في مكة المكرمة، حين اختصّه بأن يكون مقراً لبيت الله الحرام، ومحلاً لإلتقاء وتجمُّع المسلمين والمسلمات من كل بقاع الدنيا، من الذين مَنَّ الله عليهم، فوهبهم الإستطاعة التي تؤهِّلهم لشرف تلبية نداء الله، يقول عزّوجل: (إنّ أوّلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذي بِبَكّةَ مُبارَكاً وهُدىً لِلعَالَمِينَ) (آل عمران/ 96).
في الحج مدلول إقتصادي كبير، ذلكم أنّه فرصة للكسب المادي الشرعي، والكسب الروحي الأخروي، فهو عبادة مالية وبدنية، وثوابهما في الآخرة، يقول جلّ شأنه: (لَيسَ عَلَيكُم جُناحٌ أن تَبتَغُوا فَضلاً مِن رَبِّكُم) (البقرة/ 198).
وفي هذه الآية إشارة إلى أنّ ما يبتغيه الحاج من فضل الله، مما يعينه على قضاء حقّه، ويكون فيه نصيب للمسلمين أو قوّة للدين، فهو محمود، وما يطلبه لإستبقاء حظّه أو لما فيه نصيب نفسه، فهو معلول.
ومتى ما استقرّ في قلب الحاج إحساس بأنّه يبتغي من فضل الله، فهو إذن في حالة عبادة لله، لا تتنافى مع عبادة الحج.
يقول عزّ إسمه: (لِيَشهَدُوا مَنافِعَ لَهُم) (الحج/ 28)، فقد اختُلِفَ في تفسير المراد، فبعض المفسِّرين حملها على منافع الدنيا، من الإتجار في أيام الحج، وبعضهم حملها على منافع الآخرة، من العفو والمغفرة. يقول ابن الجوزي: والأصح مَنْ حملها على منافع الدارين جميعاً، لأنّه لا يكون القصد للتجارة خاصة، وإنّما الأصل قصد الحج والتجارة تبع.
وعليه، يمكن أن نبرز أهم الآثار والدلالات الإقتصادية في الحج في الآتي:
1- يعتبر الحج مؤتمراً إسلامياً لحل المشكلات ومعالجة قضايا المسلمين المختلفة وخاصة الاقتصادية، حيث يفد إلى الأماكن المقدسة ملايين المسلمين من شتى البقاع، منهم العلماء المتخصصون في مجال الإقتصاد، فيكون ذلك فرصة طيبة لعقد المؤتمرات والندوات والحلقات الدراسية لمناقشة المشكلات الاقتصادية المتنوعة، في سبيل الوصول إلى التكامل والتنسيق الاقتصادي المنشود بين دول العالم الإسلامي.
2- في الحج رواج اقتصادي للمسلمين، إذ يتسم موسم الحج بالرواج الاقتصادي، لما يتطلبه من سلع وخدمات لازمة لأداء مناسك الحج، فكم ينفق من النقود على وسائل الإنتقال وشراء المأكولات والمشروبات وشراء الذبائح وتكاليف الإقامة.
3- في الحج دعوة إلى تطبيق الاقتصاد الإسلامي، إذ في الحج دعوة لتطهير المعاملات بين الناس من الخبائث والموبقات، من ربا واحتكار وغش وتدليس وغرر وجهالة وأكل لأموال الناس بالباطل، كما أنّ الحاج عليه أن يتجنّب الإسراف والتبذير والإنفاق الترفي، فالحج دعوة صادقة لتطبيق مبادئ الاقتصاد الإسلامي وقيمه على مستوى دول العالم الإسلامي.
4- الحج مؤتمر إسلامي تلتقي فيه الخبرات العالمية الإسلامية، صناعيين وتجاراً ومهنيين وبجميع التخصصات، وبهذا تنتهز الفرصة لتنمية العلاقات الاقتصادية بين المسلمين ومناقشة مشكلات الأمن الغذائي ومدارسة الخطوات الكفيلة بتحقيق الإكتفاء الذاتي لدول العالم الإسلامي.
5- في الحج فرصة لإتمام منافع التجارات والعمل وكسب المعيشة، وكذلك منافع البُدن والذبائح للفقراء والمساكين والمحتاجين، داخل الأماكن المقدّسة وخارجها، يقول جلّ شأنه: (والبُدنَ جَعَلنها لَكُم مِن شَعَائِرِ اللهِ لَكُم فِيها خَيرٌ) (الحج/ 36).
ارسال التعليق