• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحركة الإسلامية والأيديولوجيا

د.احسان الأمين

الحركة الإسلامية والأيديولوجيا

من الواضح أنّ موضـوع «أدلجة الدِّين» ليس من قبيل الترف الفكري ، بل ان له آثاراً كبيرة على مستوى العلم والعمل ، فالأدلجة تؤدي إلى جمود الفكر وتخلفه وتأخره وبالتالي عدم التعامل مع المشكلات المختلفة بواقعية وموضوعية ، في الوقت الذي يرتبط تقدّم أي مجتمع وازدهار أية حضارة بمقدار الحرية الفكريـة ، لذلك المجتمع وطريقة تفكيره وأسلوب معالجاته لقضاياه المختلفة .
ولمّا كان القرن العشرين المنصرم عصر الأيديولوجيات التي اجتاحت العالم ، فانّ أطروحات الكثير من الحركات الإسلامية لم تسلم من ظاهرة «الأدلجة» ولو بمقدار ، كبر أم صغر ، ولا زالت آثار هذه الظاهرة تلقي بظلالها على خط سير الحركة الإسلامية وتحملها الكثير من المشاكل وتضع في طريقها العديد من العقبات .
وقد كانت ظهرت «الأدلجة» عند الحركات الدينية على ثلاثة مستويات:
1 ـ في أطروحة الحركة للمستقبل والمجتمع المنشود .
2 ـ خط السير ومراحل العمل .
3 ـ شرائط العضوية والانتساب البرامجية .
1 ـ أطروحة المجتمع البديل :
طرحت معظم الحركات تصوّرات مستقبلية عن المجتمع الإسلامي الذي تنشده كبديل للواقع القائم، وكهدف نهائي تسعى لتحقيقه ، وقد اتسمت هذه الأطروحات بسمتين أيديولوجيتين متضادتين :
أ ـ إنّ الحلول والمقترحات كانت غالباً ذات صفة أيديولوجية عامة ، تعتمد على أساس تصوّرات مسبقة شاملة لسائر القضايا دون الاقتراب من الواقع المعاش والاستفادة من النتاج العلمي والتجربة البشرية القائمة ، لذا لاقَت الكثير من الحلول «الفقهية» العقبات عند التنفيذ ، لأنها كانت حلولاً فردية أو اجتماعية لظروف مختلفـة ، كما افتقدت الكثـير من الأطروحات الاخلاقية الآليات التطبيقية الفعالة ، لأ نّها كانت على مستوى «الشعار» و «النصيحة» ، ولم تُترجَم هذه المفـاهيم إلى قوانـين وتوضع لها الضوابط والمقدمات التنفيذية اللازمة لتطبيقها .
ب ـ طرحت بعض الحركات ضمن تصوراتها حلولاً تفصيلية وعريضة لمساحات كثيرة من المشاكل والمسائل ، وحدّدت رأيها في قضايا ليست عقائدية ولا تشريعية ، وانّما هي مسائل ادارية بحتة تتغير تبعاً للظروف ويرجع النظر فيها إلى العلم والعقل والتجربة أو المصلحة ، كطريقة إدارة المؤسسات المختلفة ، ومسألة التعاونيـات في الاقتصـاد ، وموضوع التعليم الخاص ... ولم تكن تلك الاطروحات عادة تعتمد على دراسات وخبرات تخصصية ، وانّما كانت تستمد عادة من مستوى ثقافي عام ، ولذا فانّ هذه الآراء سرعان ما تتغـيّر بتغـيّر الزمـن ، أو أنّها تلاقي صـعوبة في التطبيـق لنظريتها وعدم واقعيتها .
ج ـ سمات المجتمع المطلوب : كسائر الاتجاهات الأيديولوجيـة ، طرح الاسلاميون تصورات عن المجتمع المنشود كانت في غاية المثالية ، فغالباً ما كانت التصوّرات مشـتقّة امّا من نموذج «الخلافة» أو «الامامة» والتي لا تتطابق على أي حال مع الظروف والأوضاع الحالية ، كما أنّ هذه التصوّرات حاولت أن تمثِّل جميع الرؤى الإسلامية في مجتمع يعيش في عالم بعيد عن المثل والقيم المطلوبة ، بحيث خرجت هذه التصوّرات بصورة مجتمع لم تساعد الظروف على تمثيله حتى في ظروف الدعوة الاُولى وصدر الإسلام ولم تأخذ تلك الاطروحة التنجيم الذي نزل به الوحي والتدرج الذي مرّ به التشريع فضلاً عن التطبيق أوائل الدعوة ، كما لم تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي منعت من تطبيق بعض التشريعات آنذاك وتقابلها ظروف أخرى اليوم .
لذا ورغم الاندفاع الجماهـيري والعاطفي تجاه الاطروحة الإسلامية المعاصرة إلاّ أنّ الناس بدأت تشعر بتلكؤ التطبيق هنا وهناك وتعثر النظرية في هذا الجانب أو ذاك ، ممّا جعلها أحياناً تتردّد أو تشكِّك في إمكانية التطبيق من حيث الأصل ، لاصطدامه مع الواقع المعاش والبعيد عن عصر التشريع والضغوط والظروف العالمية التي تعيق ذلك .
وكان بعض الاسلاميين يصرّ على التطبيق الكامل منذ البداية وهو ما لم يصرّ عليه الشارع المقدّس في بدء الدعوة ، ولم يطرح هؤلاء مفهوم التدرج ولم يأخذوا بعين الاعتبار الظروف الواقعية ، ولم تستوعب في الاطروحة الكثير من القواعد الاصولية والفقهية التي تعطي النظرية الإسلامية مرونة كبيرة وتكسبها واقعية متحرِّكة ، تجعلها قابلة للتطبيق في مختلف الأزمنة والأمكنة .
د ـ هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فانّ الطرح التصوّري لإقامة المجتمع المنشود للحركة الإسلامية لم يأخذ بعين الاعتبار أيضاً انّ بعض المجتمعات لا يمكن فعلاً تحقيق هذه الصورة فيها لاعتبارات داخلية ، تتعلّق بذات المجتمع وتركيبته السكّانية وميوله واتجاهاته وطبقاته الدينية والقومية أو لظروف خارجية قاهرة ، فلم تطرح ـ غالباً ـ تصوّرات بديلة لمجتمعات تقترب من روح الإسلام في إقامة العدل وصيانة حقوق الإنسان واحترام رأي الاُمّـة ... كتصوّرات يمكن أن يتّـفق عليها الناس ـ وكذا الأحزاب والحركات المختلفة ـ في مجتمع تتعايش فيه التيارات السياسية ضمن أجواء سلمية وديمقراطية ... على الأقل من باب لا يُترك الميسور بالمعسور ...
وكثيراً ما طرحت التيارات الاُخرى إشكالاً جدِّياً ، وهو أنّ الحركات الإسلامية ربّما تعاملت مع هذه «الأجواء الديمقراطية» هنا وهناك واستفادت منها ، ولكن كان يؤاخـذ عليها دائماً بأنها تتعـامل معها كوسيلة مرحلية للانتقال إلى نوع آخر من الحكم ـ لا شكل الحكم ولا مضمونه ـ وبالتالي فانّ هذه الحركات ربّما تستعمل الديمقراطية وسيلة للقضاء عليها ، وبالتالي استغلّ البعض ذلك للحيلولة دون وصول الإسلاميين للحكم ، كما حدث في الجزائر وتركيا ، وربّما يحدث في غيرها .
ورغم أنّ الإشكال يرجع على هؤلاء من أنهم يطرحون الديمقراطية ، ولكنّهم يستعملون وسائل استبدادية ، وبذلك يناقضون أنفسهم بأنفسهم ، فهم ليسوا صادقين في شعاراتهم ولا ملتزمين بمبادئهم المعلنة .
ولكن من جهة أخرى فان الإسلاميين مدعوون أيضاً للخروج بحل مرضي ورصين في مقابل هذا الإشكال ، فهل يرضى الإسلاميون بما يختاره الناس أم يسعون لارغام الناس على قبول أطروحتهم الدينية ؟
وهل يرضى الاسلاميون بهذه البدائل كنظرية «المجتمع المدني» بصورة مؤقتة أم دائمية ؟
وهل أن شكل الحكم ثابت أم متغيّر ؟ فإنّنا لا نزال نسمع دعوات من البعض لإقامة حكم الخلافة ... كما نرى البعض يطبق نظام الإمارة الدينية على مستوى الدولة والجماعات .
2 ـ خط السّير ومراحل العمل :
اهتمّـت معظم الحركات الإسـلامية بدراسة مراحل العمل الإسلامي الواقعة بين بداية الحركة ، والمنتهية بإقامة المجتمع الإسلامي حسبما تتصوّره الحركة .
وسعت غالب الحركات إلى التأمل والتحقيق في دراسة السيرة النبوية الشريفة وكذلك سـيرة الأنبياء (عليهم السلام) من خلال قصصهم الواردة في القرآن الكريم وسيرة أهل البيت (عليهم السلام) ومواقف الصحابة والتابعين .
وكانت الدراسة تتركز عادة على تقسيم خط السيرة إلى مرحلة سرية وأخرى علنية ، والى طبيعة المراحل من حيث كونها فكرية تغييرية أم سياسية وكفاحية جهادية ومن ثم مرحلة اقامة الدولة الإسلامية .
والملاحظة الاساسـية على نتائج هذه الدراسات هي كونها كانت تذهب ـ غالباً ـ إلى استنساخ مراحل العمل التي مرّت بها الدعوة النبوية والتزامها كخط سـير عملي للحركة الإسلامية المعاصرة ، سـواءً كان هذا التقليد والاتباع من باب التعبد والتبرك بالسيرة النبوية أو من باب الاعتقاد بأن المراحل التي مرّت بها سنّة إلهية في تغيير المجتمع لا بدّ أن تطويها أية حركة تغييرية .
والواقع ان هذا النمط من التعميم ـ وهو نوع من التعميم الايديولوجي ـ يحمل معه الايمان بالحتمية التاريخية التي لا بدّ أن تمرّ بها أية حركة اسلامية تبعاً لما مرّت الرسالات الإلهية ، ولذا اتجهت هذه الدراسات إلى استقصاء الادلة هنا وهناك لتأييد نظريتها والى تصنيف مراحل عمل هذا النبي (عليه السلام)أو ذاك ، وكذا الأئمة وفقاً للمراحل النبوية .
وعلى فرض صحة النظرية من كونها سنة الهية في تغيير المجتمعات ، إلاّ اننا وبالنظر في التاريخ من جهة ، وبالنظر في المجتمعات المعاصرة من جهة أخرى ، فانّنا يندر أن نجد مجتمعين متناظرين في الظروف والأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية . لذا كان تطبيق نظرية واحدة على سائر المجتمعات وتلمس موقع هذا المجتمع أو ذاك من خط السير ومراحل العمل نوعاً من اضاعة الوقت والجهد وقد يسبب توحيد مراحل العمل لحركة واحدة في عدّة دول ومناطق ارباكاً وتباطؤاً هنا واستعجالاً هناك ، مع اختلاف جذري بين هذه المنطقة والاخرى ، تخلّفت بعض المناطق رغم سماح ظروفها بالعمل السياسي ونمو التحرّك السياسي فيها بسبب عدم سماح ظروف منطقة أخرى كانت تمثِّل منطقة الاُم لتلك الحركات بالعمل السياسي بذلك .
وهناك تساؤل جدي آخر وهو هل تحمل هذه الوسائل وأساليب العمل (أشكالها) صفة الالزام ووجوب الاتباع ، وهل الاشكال هنا تعبّدية وذات أصالة شرعية ، أم انها وسائل وأساليب تتغيّر من زمان لزمان ومن مكان لمكان ، ومن مجتمع لآخر ، بل ومن إنسان لآخر أحياناً .
والمسألة الاُخرى ، هو أن اختيار خط السير وأساليب العمل ومراحله كان متأثراً إلى حدٍّ كبير بالأجواء الارهابية وظروف الاستبداد التي كان يواجهها الإسلاميون في الكثير من البلاد الإسلامية ، ولذا اتجهت الحركات إلى انتخاب وسائل ومراحل تضمن للحركة الحصانة والصيانة من أن تتعرّض للإبادة وأن يواجه العاملون القتل أو الاضطهاد ، فهل يجب ان تطوي الحركة نفس المراحل في المجتمعات التي تؤمن بالحرية السياسية وتسمح بالنشاط الحزبي بصورة علنية .
ثمّ أنّ المراحـل التي مرّت بها الدعـوة النبـوية من السرِّية والعلنية ، والفكرية التغييرية ثمّ السياسية (بحسب التقسيم السائد) كانت ، لأنّ الدعوة ابتدأت من الصفر في مجتمع مُشرِك ليس به مسلمون ، فهل يجب طي نفس المراحل في المجتمعات الإسلامية؟
ولعلّ من هذا المنطلق اتجه البعض إلى وصف المجتمعات المعاصرة ـ حتى المسلمة ـ بالجاهلية ليطوي نفس مراحل العمل التي طوتها الدعوة النبوية ، ويحتاج وصف أي مجتمع بالجاهلية إلى مزيد تأمّل وإعادة بحث .
فهل الجاهلية تعني حالة الشرك في مواجهة الإسلام ؟ أم انّ الجاهلية حالة نفسية وعقلية تقف في مواجهة الدعوة الإسلامية ؟
وهل عدم سيطرة الإسلاميين على الحكم في بلد ما يعني أن ذلك المجتمع جاهلي رغم إعلان حكّامه إسلامهم بل تبنِّيهم الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع ؟
وهناك ناحية أخرى، هي أن تقادم الزمن قد أعطى لخط السير ومراحل العمل لهذه الحركة أو تلك ، وحتى بعض الوسائل والآليات ، قدسية لا يمكن تجاوزها وقانونية لا يمكن تغييرها ، قد تكون الوسائل والآليات التي كانت نافعة يوماً ما ، وفي مكان ما ، في ظروف أخرى عثرة في طريق العمل ، تحجّره وتقيده وتشلّ حركته ، لأنها لم تعد تناسب الموقع الآخر أو الزمان الجديد .
ولذا كان لا بدّ من إعادة النظر جملة وتفصـيلاً في خط السير ومراحل العمل ووسائله وآلياته وإطلاق اليد في ذلك للناس ليختاروا ما يناسبهم ممّا لا يستحل حراماً ولا يحرِّم حلالاً ، مع إعطاء مرونة في التطبيق وقدرة على المناورة والتحرك بحيوية ونشاط ، وفسح المجال أمام الطاقات المختلفة لكي تنطلق في العمل دون انتظار إذن من أحد أو وصية من آخر أو تصدير لخطة أو التزام بمرحلة ، فالساحات فارغـة والأعمال كثيرة والوقت يمرّ بسرعة ويرى الحاضر ما لايرى الغائب، والحكمة ضالّة المؤمن ، والله سبحانه وتعالى يقول : (والّذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وانّ الله لمع المحسنين )(العنكبوت/69).
3 ـ شرائط العضوية والانتساب :
واستمراراً للطريقة الايديولوجية في العمل ، فانّ الكثير من الحركات الإسلامية ، إن لم يكن جلّها ، عملت على تأسيس مدرسة فكرية وثقافة حركية خاصة بها، وهي مساهمة بلاشك فعالة وخلاقة في النهوض الفكري والوعي الثقافي ، إلاّ أنّ بعض الحركات اتجهت إلى الزام الفرد المنتسب بهذا الفكر وتلك الثقافة ، واشـترطت في العضو المنتظم الانضباط وفق خط الحركة ومنهجها ، وذهب بعضها إلى أبعد من ذلك إلى التأكيد على أن تكون مواقف الفرد وآراؤه مطابقة لرأي الحركة وموقفها ، وأن تكون نشاطاته في سياق نشاط الحركة وبأذنها وموافقتها وإشرافها أحياناً .
وهكذا كانت تسعى الحركات إلى أن تكون طليعة منسجمة ومنضبطة ، بل شبّه البعض الحزب والتنظيم بالجيش والقوات العسكرية التي تأتمر بأمر واحد وتسير في اتجاه واحد .
وهذه الطريقـة في التقـييم «الأيديولوجي» للحزب أو الحركة كانت متأثرة من جهة بأجواء الاضطهاد والملاحقة التي تتعرّض لها التنظيمات الإسلامية ممّا يتطلب منها أن تكون متراصّة وأن يكون أعضاؤها منضبطين لكي لا يسببوا أيّة ثغرة يستفيد منها العدو في اختراق التنظيم أو خطأ يكلف الحركة ثمناً غالياً .
كما انّ هذه الطريقـة كانت تنطلق من جهة أخرى من أن الحزب أو الحركة أو التنظيم هو البديل للاُمّة المسلمة ، ولو بنموذج مصغّر ، لذا كان يبحث فيه عن نمط للقيادة ينوب عن الامامة ، أو يمارس الامارة الدينية ، ولذا كان يتصوّر الطاعة مقترنة بالوجوب ومنطلقة من أعلى إلى أسفل سلم التنظيم .
ولم يميِّز في ذلك ـ ولو على مستوى التطبيق ـ بين الالتزام بخط السير الكلي وبين التطابق الحرفي في كل حركات الفرد المنظم وسكناته مع التنظيم ، خصوصاً عند تصدِّي أفراد يهتمون بالانضباط وأحياناً بالوضع العسكري للتنظيم أكثر من اهتمامهم بالجوانب الفكرية والثقافية وحتى السياسية .
وبحرف واحد نقول : انّ جلّ التنظيمات ذات الصفة الأيديولوجية في برامجها وخططها وشرائطها قد بادت أو في طريقها لانتهاء دورها أو أنّها تعرضت لانشقاقات عديدة ، وفي أحسن الاحوال فإن هذه التنظيمات بقيت فقط في المناطق الشديدة السرية وذات الفعاليات العسكرية غالباً .
والتنظيم الأيديولوجي يحمل نقيضه فى داخله ، فسرعان ما يشبّ أبناؤه ليعيشوا زماناً آخر وينموا فكرهم وثقافتهم ، فيجدوا أنّ تنظيمهم غير قادر على استيعابهم ، وانّ البيت الذي ولدوا فيه يضيق بهم فيبادروا للخروج سلماً أو بغير سلم ليبحثوا عن مجالات أوسع وفرص أكثر .
فالتنظيم الذي يحدِّد حركة الأفراد ويتشدّد في المواصفات ويدقق في تفاصيل الأشياء مصمّم لأفراد معيّنين قلائل لا عموم الناس ومختلف الطاقات ، إذ إننا قلّما نجد اثنين يتفقان في كل شيء ، وصدق الشاعر إذ يقول :
إذا كنتَ في كلِّ الاُمور مُعاتِباً***صديقكَ لم تلق الذي لا تُعاتبه
كما أنّ هذا النمط من التنظيم يشلّ الطاقات ويعطِّلها، بل يؤدِّي إلى التحجّر الفكري والجمود الثقافي والتخلّف الحضاري ، لأنه دائماً يريد من الناس أن يكونوا وفق قياس صُمِّم لآخرين وأن يتزيوا بزي نسج لغير زمانهم ، ولا يحمل التنظيم بهذه الصورة مرونة التطبيق المستمرة مع الزمن ولا لياقة الانفتاح والتكامل والتواصل مع الآخرين .
ومن سلبيات هذا النمط انّه يؤدي بسبب الصرامة في الالتزام والمبالغة في ملاحظة الأعضاء بضبطهم إلى ممارسة نوع من الاستبداد الحزبي لا يختلف عن الأنماط الأخرى من الاسـتبداد إلاّ في الشكل ، اذ انّه يمارس باسم الإسلام ، ويبرِّر باسم المصلحة العامة ، ولذا فانّ هذا الاسـتبداد ـ كما هو دوماً ـ يؤدي إلى تعطيل الطاقـات وتبلّد العقـول ، والى نوع من الالتزام الظاهري وربّما الثقافي وضمور الدوافع المخلصة والذاتية في العمل .
ونظنّ أنّ التنظيم بهذا الشكل المبالغ فيه من التحديد والتقييد ، لا يمثِّل الصورة النموذجية للتنظيم الإسلامي الذي يجب أن لا يحد من حرية الأفراد ولا يقيّد من عبوديتهم المطلقة لله سبحانه وتعالى ، وأسلوب الإسلام في دفع الطاقات للعمل البناء في جميع الميادين انطلاقاً من قوله تعالى: (وقُل اعملوا فَسَيرى اللهُ عملكُم ورسولهُ والمؤمنون ...)(التوبة/105) ، وعلى أي حال فقد شهدت نهاية القرن العشرين نهاية الكثير من الحركات الأيديولوجية الصارمة ، أو ضمورها ، أو تفتتها ، وأكد في نفس الوقت نجاح الأحزاب «البرامجية» كبديل لها .
وهي الأحزاب التي تطرح برامج أساسية للاصلاح تقـوم على أساس مبادئ انسانية عامّة وأهداف سـامية وخطط سياسـية واضحة ، تستقطب اهتمام الناس وتعطيهم رؤىً بديلة لواقع أفضل ، وبذا يؤيد الحزب أو التنظيم من يؤيد برنامجـه الذي قد يحظى حتى بتأييد الناس من الديانات أو أصحاب المبادئ الاُخرى، فتؤكِّد هذه الأحزاب على الموضوعات الخارجية دون أن تدقق في ذاتيات الافراد وتوجهاتهم الثقافية أو آرائهم الحياتية التي تتسع باتساع الأرض وتختلف بين الناس بعددهم .
وما نريده هنا أن يطرح الحزب الإسلامي والحركة برنامجاً يوفر لسائر أبناء الاُمّة أو الوطن حياة أفضل وكرامة أكثر وعدالة وحقوقاً محفوظة ، ويعمل أعضاء التنظيم على نجاح هذا البرنامج ويشترط فيهم أن يكونوا مسلمين ملتزمين بالمعنى العام دون أن يدخل التنـظيم في تحديد آرائهم الشخصية أو اجتهاداتهم الذاتية أو اسلوب عملهم الخاص ، وانما المهم الايمان ببرنامجه والعمل من أجل نجاحه .
وليس الحزب اُمّة داخل اُمّة ، وليس كذلك بديلاً عن قيادة أو مزاحماً لزعامة بل هو شريحة من الاُمّة تسعى لإسعادها من خلال برنامج يتوقف نجاحه على اقتناع الاُمّة به وتأييدها له ، وأعضاء الحزب لا ينتمون إليه بل يعملون من خلاله كما يعملون من خلال سائر التنظيمات المهنية والاجتماعية .
والعضوية في الحزب مشاركة في عمل وبرنامج ومشروع ، لا رق ولا استعباد ولا بيع وشراء لنفس لا يتعامل فيها إلاّ مع بارئها .
ومن الطبيعي أنّ هذا الموضوع سوف لن يلاقي قبولاً من كثيرين عاشوا ضمن خطّة معينة امتزجت بدمائهم ، ولكنّه يستحق منهم أن يتأمّلوا فيه ، وهم من الذين وصـفهم ربّ العزّة بقوله تعالى شأنه : (الّذينَ يَسْتَمعونَ القولَ فيتّبعونَ أحسنه أولئكَ الّذينَ هداهُم الله وأولئك هُم أولو الألباب )( الزمر/ 18 ) .

ارسال التعليق

Top