• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصيام والنظام.. إيصال الإنسان حد الإعتدال

الشيخ جاد الحق علي

الصيام والنظام.. إيصال الإنسان حد الإعتدال
في هذا الشهر – رمضان – فريضة محكمة، حباها الله بالفضل والفضائل، ورفع بها قدر الصائم الذي أخلص صومه طاعة لربه، فهو ذلك الإنسان المسلم الذي نزل على حكم ربه، فما إن شهد الشهر – رمضان – حتى عقد نيته على الاستجابة للنداء: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/ 185)، إذعاناً لهذا الأمر الذي تنزل في القرآن مؤمناً بالعبودية لله، منفذاً حكمه غير متسائل عن حكمة أو علة، خضوعاً، وخشوعاً، غير مجادل، ولا محاور، حجب النفس الأمارة بالسوء عن القيل والقال، وكثرة السؤال، في مضاء عزيمة، ونقاء سريرة، مقبلاً على الطاعة، غير مدبر، ولا متهاون ولا مختلق للأعذار؛ لأنّه يعلم أن ربه يسمع ويرى. ذلك هو المسلم الذي انصاع للأمر، فصام غير متسائل عن قدر الأجر، وإنما ملتحف بالصبر، ناءٍ عن الوزر، يلتمس قبول التوبة والمغفرة، وهو في قرارة نفسه يؤمن بأن شرع الله قادر على إصلاحه وتنظيم أمور حياته، في معاشه ومعاده. ثمّ انبرى ينصح الضالين الذي ألفوا اللغو والجدل، وإن كان ولابدّ من فلسفة العبادات، فإنّ الصوم رياضة بدنية ونفسية، تجمع بين حرمان النفس من لذاتها المادية بقصد تربيتها، وبين إمتاعها بقوة الروح، بملء القلب من خشية الله، وتفريغ الجسد من بواعث الجشع والطمع، وتعويده القناعة والرضا بالقليل المفيد توسلاً إلى شكر الله المنعم، وتكفيراً عما يكون قد سلف من سوء الأداء بما يعد كفراناً لنعم الله التي لا تحصى على الإنسان، حتى يتوصل المسلم الصائم حقّاً، العارف لحقيقة الصوم وحقوقه، إلى تزكية النفس بالصوم، وإصلاح البدن بالتدريب على الاعتدال في المأكل والمشرب وسائر الرغبات التي تطغى وتفسد، ولا تكون هذه التزكية.. إلا إذا ووجهت النفس بإرادة حازمة، تلزمها الانتظار على النظام، وإيقافها عند حد الاعتدال، والبعد بها عن التفريط والإفراط وذلك ما قرره القرآن لصالح بني الإنسان ففي سورة الأعراف: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 31-33).. إنّ الصوم يواجه قضية الإسراف، بل والإتلاف بحزم وعزم، ذلك أنّ الله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، يعلم حال هذا الإنسان الذي جعله خليفة في الأرض، فشرع له ما يواجه به نوازع نفسه، ومسالك هواه التي إن اتبعها واستغرق فيها أردته وأهلكته، وقد ربط الله صلاح النفس والجسد برباط وثيق فسخر للإنسان جميع ما في عالمه الذي يعيش فيه من المواد والقوى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا في الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (الجاثية/ 13)، صحة وسلامة لبدنه، تمتد صحة لنفسه وعقله، وحرم عليه ما يضر بجسده، كما حرم عليه ما يودي بروحه وعقله، وكان من هذه المحرمات الإسراف: الإسراف في الطعام والشراب، الإسراف حتى في العبادة؛ فقد نهى رسول الله (ص) أصحابه عن الوصال في الصوم، باعتبار أنّ الإسلام دين الوسطية والاعتدال حتى في العبادة، وفيتناول الحلال، ونعى على المسرفين والمبذرين ما اقترفوا في حق أنفسهم، كما نعى على المقترين الذين غلوا أيديهم واحتسبوا أموالهم فقال في سورة الإسراء: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29).. فمن أسرف فقد أفسد، ومن قتر فقد أفسد، ومن توسط فقد صلح وأصلح. ثمّ إن قضية الإسراف تمتد إلى جوانب كثيرة في حياتنا، فليست ممثلة في الطعام والشراب الذي جاء الصوم ليعيد التوازن في شأنهما وليلزم بالنظام الأمثل فحسب، وإنما ينبغي أن يمتد هذا التوازن إلى كل ما في أيدينا مما أنعم الله به من نعم ظاهرة وباطنة، فهذا الماء نسيء استعماله، ولا نحسن ادخاره، مع أنّه حياة كل شيء: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (الأنبياء/ 30).. نسرف بل ونتلف الماء في سائر استعمالاته، لا سيما بعد أن يسرت لنا وسائلنا المعاصرة مرافقته لنا على امتداد العمران شهيّاً نقيّاً، يبدو سوء الاستعمال إذا أبصر كل منا مرافق بيته أو المسجد أو المدرسة أو غير هذا، حيث نجد الماء ينساب من الصنابير مهدراً لا يهتم به أحد ولا يستفيد منه زرع أو حيوان أو إنسان، وهذا الإسراف على هذا الوجه يثقل مرافق أخرى ويرهقها، فتضيق به ولا تطيقه.. وتنفجر به الطرقات والشوارع، وتنفق الأموال، ويبذل الجهد لإصلاح ما أفسده هذا الإسراف. وهنا نحن نشكو الجفاف أو نتخوفه، ومع ذلك لم نحاول إيقاف الإتلاف الذي استمرأناه أو نتدارك الإهمال الذي اعتدناه، مع أنّ الصوم من أهدافه أن يعودنا على النظام، يتبدل به سيئ العادات حسناً، ونوع آخر من الإسراف شاع وذاع في القرى والأمصار، فبينما نشكو ضعف الموارد من المياه، والذي تأثر به إنتاج الكهرباء، ترانا وقد أمعنا في استنزافها واستهلاك مصادرها، ولم نبادر إلى الاقتصاد في الاستخدام لهذه القوى التي أنعم الله بها على الإنسان في هذا العصر، وكأنّه قد طغى واستكبر: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (القصص/ 78).. إنّ الماء نعمة.. وإنّ الكهرباء وغيرها من الطاقة من نعم الله التي وصل إليها الإنسان بما علمه الله من علم، ومنحه من فهم، وسخر له كل ما في هذا الكون، وشكر النعمة بالحفاظ عليها واستعمالها بقدر الحاجة إليها، فكفوا أيها الناس عن الإسراف والإتلاف وقفوا عند الوسط من الأمور. إنّ الصوم نظام وتنظيم، فرضه الله شهراً في العام، يراجع به الناس ما فسد من الطباع وما نشأ من العادات والأعراف غير المشروعة ليعدلوا عنها إلى ما هو أحسن منها، وما كان شهر رمضان موسماً لهذه المآدب الصاخبة التي تتنوع عليها المطاعم والمشارب وتفسد بها الأنفس والأبدان. وما كان شهر الصوم إلا وقفة مع النفس، تردعها عن الغي وعن البغي وعن الإتلاف، ما كان شهر الصوم إلا موسم محاسبة ومجانبة، محاسبة للنفس والبدن عما فرط منها في جنب الله، ومجانبه لكل السوء والسيئات من الأفعال والأقوال والعادات والأعراف طلباً للهدى واستقامة على طريق الله وشرعه. ما كان شهر الصوم إلا لإصلاح المعايير وإحياء للفطرة التي فطر الله الناس عليها، إذ حين تفسد الفطرة تختل الموازين، وتنفلت المعايير التي شرعها الإسلام لضبط المسار الإنساني في الحياة، وعندئذ تصبح شعائر العبادات شبحاً بلا روح، وشكلاً بغير مضمون. اعلموا أيها الناس أنّ الصوم نوع من طب الأجساد والأنفس، وباب من السياسة في تدبيرها، إن هذا الشهر – رمضان – نظام عملي يعتاده من ارتاده إيماناً بالله وإخلاصاً لعبادته، وهو عبادة جبرية يتساوى فيها الجميع: من ملك، ومن خلت يداه، كما يتساوى الناس جميعاً في صفوف الصلاة التي كانت أوائلها لمن سبق دون نظر إلى تفاوتهم الاجتماعي، إنّ الصوم يشعر الصائم بالمساواة بطريقة عملية حيث يتساوى الناس في الشعور والأحاسيس، وإن كانوا يختلفون أو يختلفون أسباب الخلاف في أمور أخرى، وحين يتعاطفون بإحساس الألم المشترك، لا حين تتنازعهم الأهواء المتعددة. إنّ الصوم دعوة إلى الاعتدال في كل شيء، في ملء البطون، في الماء، في الكهرباء في الجدل والمراء، إنّه دعوة إلى تهذيب النفس وإصلاح المنطق، فإن آفة اللسان أبعد أثراً من جراحات السنان، إنّه دعوة إلى تطهير العالم الإسلامي من الرذائل الجسدية والنفسية، ودعوة إلى الأخذ بمعاني الصبر والثبات والمواساة والإحسان، وحفظ اللسان حتى تتحقق – بصدق – في المجتمع معاني الإخاء والمساواة والحرية. إنّ الصوم تأبى طبيعته وخواصه في الإسلام أن يكون مجرد جوع وعطش؛ إذ ليس لله حاجة في ذلك وإنما هو تهذيب وإصلاح، وتوجيه وتدريب، وتحجيم للسوء والسيئات، إنّه اتقاء أضرار لجلب منافع، واتقاء الرذائل لجلب الفضائل، إنّه تشريع اجتماعي للإنسانية تتقي به سوء وشرور الأنفس: (إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي) (يوسف/ 53). فلنكف عن كل ما يثلم الصوم ويفسده، ولنعتدل في كل شيء في الطعام والشراب: "حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه".. كما ورد في الحديث الشريف.. ولنقل خيراً أو لنصمت، ولينته أولئك الذين دأبوا على التشكيك في شرع الله والصد عن دين الله، بباطل القول وزوره، وليغتنموا شهر الصوم ويتوبوا عما اقترفوا في جنب الله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء/ 48). إنّ الصوم قانون ونظام عام، يضبط العمل والتعامل، يجلب الفضائل ويحمي من الرذائل ويقي مصارع السوء، ويحمي النفس والبدن، فاحفظوا النظام والتزموه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). المصدر: كتاب (منهجُ الإسلام في التربية والإصلاح)

ارسال التعليق

Top