• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحكاية والقناع في التراث العربي

د. محمّد رجب النجّار

الحكاية والقناع في التراث العربي

الحكاية على لسان الحيوان نمط من الأنماط السردية الذائعة في الآداب القديمة، ولعل أهم ما يميّزها عن غيرها من الأجناس القصصية أنّ الحيوان هو الذي يلعب فيها دور البطولة، وإذا تجاوزنا حكاية الحيوان الأسطورية (التعليلية) التي تنتمي إلى دنيا الأسطورة، فإنّ هناك ثلاثة أشكال أدبية منها، هي حكاية الحيوان القصيرة التي تعرف تراثياً باسم "خرافة الحيوان"، وهناك رواية الحيوان وملحمة الحيوان، ويجمع بينها جميعاً أنها تروى شعراً كما تروى نثراً، وأنّ الحيوان يلعب فيها دوراً إنسانياً، ومن ثمّ فهي إنسانية الطابع، عالمية المضمون، ذلك أنها قادرة – ببساطتها البنائية، ورمزيتها المجازية، وعبقريتها الجمالية، وبتراثها في التأويل – على أن تنفذ إلى الملتقى، في أي زمان ومكان، على اختلاف مراحله العمرية، ومستوياته الثقافية، وأنّ ظاهرها لهو وباطنها حكمة.

واللهو هنا ليس إلا السرد القصصي على لسان الحيوان وغرائبيته، وفيه تكمن قيمها الجمالية/ الإمتاعية، وحكمتها العملية أو قيمتها التعليمية، أو الوظائفية، ولاسيما في مواجهة المسكوت عنه سياسياً ودينياً واجتماعياً وأخلاقياً، ومن دون الوقوع في براثن الصدام المباشر مع السلطة والمجتمع، ومن هنا عُرف هذا النوع من القصص على لسان الحيوان باسم الحكاية/ القناع.

والتراث العربي احتفى بهذا النمط القصصي وأشكاله السردية المختلفة من حكاية ورواية وملحمة، ومن أمثال ونوادر، شعراً ونثراً، على لسان الحيوان، ولعل أقدم نصوصه تعود إلى العصر الجاهلي، على نحو ما نرى – مثلاً – في شعر النابغة والأعشى وأمية بن أبي الصلت.

 

أمثال الحيوان:

ولعل من أقدم قصص الحيوان خرافة الحية والفأس التي تعود إلى العصر الجاهلي، باعتبارها أصلاً للمثل السائر حتى اليوم "كيف أعاودك وهذا أثر فأسك"، وقدر رواها المفضل الضبيّ (ت 170هـ) في كتابه (الأمثال).

ومن قصص الأمثال، تلك الحكاية الموضوعة على لسان الحيوان، في الجاهلية، تلك الحكاية التي يفسّر بها المثل القائل في التعاون، وأنّ التفريط في الجزء يعني التفريط في الكل، فقد "قالوا اصطحب أسد وثور أحمر وثور أبيض وثور أسود في أجمة، فقال الأسد للأحمر والأسود: هذا الأبيض يفضحنا بلونه، ويُطمع فينا مَن يقصدنا، فلو تركتماني آكله أمنّا فضيحة لونه، فأذنا له في ذلك، فأكله، ثمّ قال للأحمر: هذا الأسود يخالف لوني ولونك، ولو بقيت أنا وأنت ظنّ من يراك أسداً مثلي فدعني آكله، فسكت عنه فأكله، ثمّ قال للثور الأحمر: لم يبق إلا أنا وأنت، وأريد أن آكلك، فقال: إن كنت فاعلاً ولابدّ، فدعني أصعد تلك الهضبة، وأصيح ثلاثة أصوات، قال: افعل ما تريد، فصعد وصاح ثلاثة أصوات، ألا "إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، فجرت مثلا.

 

كليلة دمنة:

هو أوّل كتاب في تراثنا الحكائي انتقل بقصص الحيوان من مرحلته الشفاهية (الفولكلورية) إلى مرحلته الكتابية (الأدبية)، ومن هنا تتجلى قيمته التاريخية والفنية، باعتباره أوّل كتاب قصصي في تاريخ الأدب العربي، مجموع في صعيد واحد، متخصص في فن سردي واحد، هو قصص الحيوان الرمزية (الأليجورية) وتضمه حكاية إطارية واحدة هي حكاية دبشليم الملك وبيدبا الفيلسوف (على غرار حكاية شهريار وشهرزاد).

والكتاب في بنيته العميقة وغاياته البعيدة كتاب سياسي على لسان الحيوان، يعكس قصة الصراع الأزلية بين السلطة والثقافة (السيف والقلم) ومؤلفه هو ابن المقفع (ت 145هـ)، ولأنّ الكتاب ينطوي على غايات سياسية تحريضية ضد سلطة ثيوقراطية قوية، فقد ادّعى ابن المقفع أنّه من وضع علماء الهند، وأنّه نقله – عبر البهلوية – إلى العربية، وهذا الإدعاء غير صحيح، وأنّه زعم ذلك، كما يقول بعض معاصريه ومنافسيه من باب التقية، وهو ما أثبتته الدراسات النصيّة المقارنة، بعد العثور على الأصل الهندي، وبالرغم من ذلك، فقد دفع ابن المقفع الثمن غالياً، بمقتله على هذا النحو الفظيع عندما كُشف أمره لأبي جعفر المنصور.

وكليلة ودمنة أيضاً هو أوّل كتاب في أدبياتنا السياسية (أو علم تدبير الملك)، وفيه نرى أنّ ابن المقفع لا يكتفي بالسعي إلى تقويض نظرية التفويض الإلهي (حيث الخليفة ظل الله في الأرض) أو برسم قواعد السياسة الداخلية، بمعنى تحديد الحقوق والواجبات، لكلِّ من الرعية والسلطان، حيث يهدف – كما يقول – إلى أن "يكون ظاهرة سياسة العامة وتهذيبها، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية"، بل يتحدث كذلك عن رسم السياسة الخارجية، على نحو ما نلمح في باب البوم والغربان (حيث العداوات التاريخية الموروثة بين الدول أو الشعوب – قديماً وحديثاً – لا يفلح معها صلح، وأنّ سياسة "التطبيع" أحياناً قد تكون ضرورة تكتيكية لا استراتيجية).

وقد فجّر هذا الكتاب – على الرغم من مصادرته والتمثيل بصاحبه – ثورة إبداعية، فقد تمت محاكاته شعراً ونثراً في عشرات الأعمال.

 

مرايا الأمراء:

ثمّة تراث علمي وأدبي عرفته الحضارات القديمة والوسيطة في علوم تدبير الملك، ويتعلق بأدبيات السياسة، يعرف باسم "مرايا الأمراء" كان موجّهاً لإرشاد الأمراء وتقويم الملوك في كيفية قيادة سفينة الحكم وإدارة شئون البلاد، وسياسة العباد، على نحو تعليمي معرفي عملي في آن، يتحقق معه العدل والرفاه للرعية.

وأقدم حكاية تتردد في كتاب التراث تلك التي تعرف بحديث بومة البصرة وبومة الموصل التي ظلت حيّة في الوجدان السياسي حتى استشهد بها ابن خلدون ويتجلى هذا النوع من الحكايات/ المرايا في هذا الكتاب النادر "الأسد والغواص" الذي يعود إلى القرن الخامس الهجري، وقد دارت حكاياته الإطارية والفرعية بين الأسد (الملك) والغواص (الثعلب الحكيم).

 

قسمة الأقوياء في عصر العولمة:

في مجال النقد السياسي تسعى هذه الحكايات – عبر أقنعتها الحيوانية – إلى هتك المستور، وفضح منطق القوة، وكشف أساليب الأقوياء، وتعرية فلسفتهم في العدل.

 

جَوْر السلطان:

من الحكايات التي ذكرها أبو حيان التوحيدي (ت 414هـ) في كتابه البصائر والذخائر، ضمن هذا السياق:

"نظر ثعلب إلى جمل يعدو خارج المدينة، فقال: ما وراءك؟ قال الجمل: جُعلت فداك، سُخّرت الحمير والبغال! فقال: وما أنت والحمير والبغال؟ قال الجمل: أخاف جور السلطان!

ومن المعروف أنّ الكثير من قصص الحيوان ونوادره تراث شعبي مجهول المؤلف، الأمر الذي يعني قيمة مضافة إلى مساحة الحرية المتاحة خلف الأقنعة الحيوانية، في هذا الأدب، في مجال النقد السياسي والاجتماعي والأخلاقي.

 

نوادر الحيوان:

من قصص الحيوان شكل ممعن في الإيجاز يعرف بنوادر الحيوان المرحة، ويتسم بالتهكم اللاذع وروح السخرية المريرة، وله كالنكتة سواء بسواء غايات انتقادية، خاصة في مجال السلوكيات السلبية للحياة والأحياء، مثال ذلك ما رواه الثعالبي (ت 429هـ) في التمثيل والمحاضرة، وما رواه الآبي (ت 421هـ) في موسوعته الفكاهية الكبرى المعروفة بنثر الدّرر:

-         قالوا: إن جديا وقف على سطح عال، وراح يشتم ذئباً يمرّ من تحته، فقال الذئب: لست أنت الذي يشتمني، ولكن مكانك يفعل ذلك!

-         وقالوا: قبض كلب على أرنب، فقال له الأرنب: والله ما فعلت هذا لقوّتك، ولكن لضعفي!

-         وقالت البعوضة للنخلة: استمسكي! فإني عنك ناهضة، فقالت: النخلة: ما أحسست بوقوعك فكيف بنهوضك؟!

-         قيل للبغل: مَن أبوك؟ فقال: خالي الفرس!!

 

الطبع يغلب التطبّع:

وعوداً على بدء تلعب الحكاية على لسان الحيوان دوراً متميّزاً في مجال النقد الاجتماعي والأخلاقي والتربوي، مثال ذلك هذه الحكاية الفرعية التي رواها ابن المقفع ليكشف من خلالها أنّ الإنسان مهما تخلّق بطباع ليست من طبيعته، فإنّه حتماً سوف يعود إليها وينكشف أمره، فقد زعموا انّه كان ناسك مستجاب الدعوة، فبينما هو ذات يوم جالس على ساحل البحر، إذ مرّت به حدأة في رجلها درص فأرة (ولدها)، فوقعت منها عند الناسك، وأدركته لها رحمة، فأخذها ولفّها في ورقة، وذهب بها إلى منزله، ثمّ خاف أن تشق على أهله تربيتها، فدعا ربّه أن يحوّلها جارية: فتحوّلت جارية حسناء، فانطلق بها إلى امرأته، فقال لها: هذه ابنتي، فاصنعي معها صنيعك بولدي، فلما كبرت، قال لها الناسك: يا بنيّة اختاري من أحببت حتى أزوّجك به، فقالت: أمّا إذا خيّرتني، فإني أختار زوجاً يكون أقوى الأشياء، فقال الناسك: لعلك تريدين الشمس! ثمّ انطلق إلى الشمس فقال: أيها الخلق العظيم، لي جارية، وقد طلبت زوجاً يكون أقوى الأشياء، فهل أنت متزوّجها؟ فقالت الشمس: أنا أدلّك على من هو أقوى مني: السحاب الذي يغطّيني، ويردّ حر شعاعي، ويكسف أشعة أنواري، فذهب الناسك إلى السحاب، فقال له ما قال للشمس، فقال السحاب: وأنا أدلك على مَن هو أقوى مني: فاذهب إلى الريح التي تقبل بي وتدبر، وتذهب بي شرقاً وغرباً، فجاء الناسك إلى الريح، فقال لها كقوله للسحاب، فقالت: وأنا أدلك على من هو أقوى مني، وهو الجبل الذي لا أقدر على تحريكه، فمضى إلى الجبل، فقال له القول المذكور، فأجابه الجبل وقال له: أنا أدلك على مَن هو أقوى مني: الجرذ (الفأر الكبير) الذي لا أستطيع الامتناع منه إذا ثقبني، وأتخذني مسكناً، فانطلق الناسك إلى الجرذ فقال له: هل أنت متزوج هذه الجارية؟ فقال: وكيف اتزوجها وجحري ضيق؟ وإنما يتزوج الجرذ الفأرة، فدعا الناسك ربّه أن يحوّلها فأرة كما كانت وذلك برضا الجارية، فأعادها الله إلى عنصرها الأوّل، فانطلقت مع الجرذ.

 

ملحة الوداع:

ونختار ملحة الوداع هذه المرة من مرويّات الآبي:

"رأت الضبع ظبية على حمار، فقالت: اردفيني فأردفتها، فقالت: ما أفْره حمارك! فلما سارت يسيراً قالت: ما أفْره حمارنا! فقالت الظبية: انزلي قبل أن تقولي، ما أفره حماري!!".

 

المصدر: مجلة العربي/ العدد 495 لسنة 2000م

ارسال التعليق

Top