• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الرحمة والرحمانية

السيد حسين نصر/ ترجمة: داخل الحمداني

الرحمة والرحمانية
    إنّ ما له علاقة وأهمية خاصة في فهمِ نظرة الإسلام إلى الخلق والتجلي هو مفهوم الرحمة والرحمانية. لفظة الرحمة (COMPASSION) أو (MERCY) ترجع إلى اسمين من أسماء الله وهما (الرحمن والرحيم) اللّذين تُفتتَح سور القرآن بهما، ما عدا سورة واحدة، ويتبرك الكثيرون من الناس كل يوم بتلك الأسماء، بحيث اختلطت هذه الأسماء بجميع أبعاد حياة المسلمين، فانطبعت حياتهم بالإحسان والرحمة، ومن جهة أخرى، إنّ هاتين اللفظتين ولفظة (رحم) تعودان إلى أصل واحد، بحيث يمكن القول: إنّ العالم نضج واستوى في رحم الرحمة الإلهية، ومن المهم أن نشير إلى مسألة مهمة، سبق وأن أشرنا إليها، وأكّد عليها الصوفيون، وهي أنّ عالم الوجود هو نَفَسُ الرحمن، قد نفخ الله عزّ وجلّ في الحقائق المثالية لهذا العالم، وتولدت نتيجةً لهذا العمل، وجودات متمايزة تسمى بصورة عامة، العالم. والمهم من كل شيء أنّ (النّفَس) كان مصاحباً وملازماً دائماً للرحمة الإلهية، وليس لأي صفة أخرى، فالرحمة مصدر وجودنا، ونافذة تطل منها جميع الخلائق، وتعتبر هذه الحقيقة أمراً محورياً في جميع أبعاد حياتنا. ومنذ القديم اختلطت معالم حياة المسلمين بالرحمة بصورة غير قابلة للانفكاك، وذلك لأنها تشغل كيان الإنسان جزءاً جزءاً، نقرأ في شعر مولوي (جاء المصطفى صانع المحبة والودّ) [مصطفى آمد كه سازد همدمي]. إنّ اصطلاح (همدمي) في الفارسية يعني شريك (النفس)، والتي تطلق على المحبة والودّ الكبير في اصطلاح الفلاسفة اليونانيين القدامى SYMPATHEI. ومن وجهة معنوية، إنّ رسالة النبي (ص)، ونزول القرآن يمثّلان الرحمة الإلهية التي تربط الموجودات بعضها ببعض على مستوى واقعيتها الوجودية. والنبي (ص) يوصف بأنّه رحمة للعالمين، وحقيقته الباطنية في بُعدها المرتبط بالرحمة لعبت دوراً مهماً في تدبير الحياة المعنوية الإسلامية. وقد يسأل سائل: كيف تؤثّر هذه الرحمة على حياة المسلمين؟ والجواب يكون بالإشارة إلى علاقة كلٍّ من الله والفرد، والفرد مع الله، والناس مع بعضهم، والإنسان مع بقية المخلوقات، وفي ما يخصّ العلاقة بين الله والفرد وبين الله ومخلوقاته فإنّ رحمة الله عزّ وجلّ هي التي تحكم تلك العلاقة. إنّ الله يُعرف أيضاً بالكريم والغفور واللطيف وأسماء وصفات أخرى تدل على رحمته وعطفه على مخلوقاته. ولو لم توجد الرحمة لم يوجد الدين ولا البشر ولا حتى أيّ وجود، ولا يمكن للمسلم أثناء أدائه للطقوس العبادية، أن يتغافل عن الرحمة الإلهية في الوقت الذي يتهيّب فيه من أسماء الجلال، مما يجعل عنده حالةً بين الخوف والرجاء. لقد سمعت الكثيرين ممن يتضرعون إلى الله في كثير من الأماكن المقدّسة، باسم (يا رحمن) (يا رحيم)، وخصوصاً ما رأيته في إحدى الزيارات من امرأة عربية متواضعة تدعو بكل إخلاص وتقول: (إلهي ارحمني، وإذا لم ترحمني فمن يرحمني)، بحيث يمكن اعتبار أنّ دعاءها هذا يمثّل خلاصة واختزالاً للنظرة الإسلامية الأصيلة ما يرتبط برحمة الله. إنّ الإنسان مهما تمادى على الله بالذنوب والمعاصي لا يجب أن يقنط من رحمة الله، قال تعالى: (قال وَمَن يَقْنَطُ من رَحمَةِ رَبِّهِ إلا الضّالُونَ) (الحجر/ 56). إنّ الفرد المسلم يتوسل دائماً بصفة الرحمة والرحمانية الإلهية، وهذه الرؤية يمكن قراءتُها في الآية الكريمة: (... وَارْحَمْنا وأنتَ خَيْرُ الراحِمِينَ) (المؤمنون/ 109). قد نيأس من رحمة ومحبة حتى أقرب الناس لنا – وإن كان هذا ليس صحيحاً على المستوى المعنوي – إلا أننا لا يُفترض أن نيأس أو نفقد إيماننا برحمة الله. في العالم الإسلامي يمكن القول: إنّ وجه الحق تعالى تجاه مخلوقاته يتلازم مع رحمته، بينما يجب على العبيد أن يتوسلوا برحمته ورحمانيته، وأن يتوجهوا إلى رحمته التي وسعَت كلَّ شيء: (ورحمتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ). أما علاقة الناس في ما بينهم، فلم تؤكد الشريعة الإسلامية على الإحساس والرحمة بالفقراء والمرضى والمساكين فحسب، بل إنّ الأخلاق الإسلامية تؤكد على ذلك على أساس سيرة النبي (ص)، في الرحمة والإحسان والعطف. إنّ المسلمين لابدّ أن يكونوا أشّداء على أنفسهم (أي في ما يرتبط بتهذيب النفوس) رُحَماءَ مع الآخرين، ويبدأ هذا الأمر بالأسرة. كما يؤكد القرآن الكريم والأحاديث الشريفة في موارد عديدة على أهمية الإحسان للوالدين والزوجة والأولاد وأفراد الأسرة والآخرين. إنّ الرحمة والعفو لابدّ أن يتجسدا في أفعال الإنسان وأقواله، وهنا تساهم السنن والآداب وبشكل أساس في تحقق الرحمة والعفو وتهذيب النفس والكرامة التي تعتبر أثراً للصفتين الأولَيَيْن، ثمّ تصل النوبة إلى الجيران الذين يعيشون قريباً من بيت الفرد المسلم. أيضاً ورد في القرآن والأحاديث الشريفة الكثير من الوصايا والتعاليم التي تؤكد على أهمية الإحسان إلى الجار والرحمة وتلبية احتياجاته، ثم بعد ذلك نصل إلى المجتمع الذي لابدّ أن يتعامل على أساس الرحمة والمحبة والإحسان، حتى مع غير المسلمين. عندما ننظر إلى المجتمعات الإسلامية نستنتج أنّ الإحسان والرحمة إلى حدٍّ ما لهما تأثير اجتماعي واقتصادي في حياة الكثيرين من الناس، وخصوصاً الفقراء، لأنّه لو لم يوجد هذا الإحسان وتلك الرحمة لانفرط عِقدُ النظام الاجتماعي، ذلك أنّ الدول والحكومات الإسلامية ليست بهذه الدرجة من القوة الاقتصادية والمالية، بحيث تستطيع أن تؤمّن حاجات الجميع، ولذا فإنّ تأمين حاجات المعوزين في المجتمع تقع إلى حدٍّ ما في إطار التراحم والتلاحم بين أفراد الأُمة ووجود المؤسسات الخيرية التي ترفد هذا الجانب. بحيث يكون الدافع هو تأكيد الإسلام على أهمية الإحسان والعطف والرحمة بالمحتاجين لنا لا أن يكون الدافع نوعاً من الحب العلماني. علماً أنّ هذا لا يجري بدافع مفهوم المحبة في العلمانية، بل بدافع ديني وعملاً بوصايا الإسلام بالرحمة والإحسان والعطف على المحتاجين والفقراء. إنّ يد الفقير الممدودة استغاثة تبيّن في أعمق معانيها يدّ الرحمة الإلهية الممدودة لنا، لأننا إن أحسنا لواحد من مخلوقات الله، فسوف نكون مشمولين بالرحمة الإلهية. وآخر علاقة يجب الحديث عنها هي علاقة الإنسان بالعالم غير الإنساني. على الرغم من الاستغلال السيء للحيوانات والنباتات من قِبل الكثيرين في المدن الإسلامية الكبيرة والذي لا يتناسب مع بيئتهم، فإنّ التعاليم الإسلامية تحرص على الرفق والرحمة بالحيوانات والنباتات. وفي القرون الوسطى كانت المدن الإسلامية تضم الكثير من المستشفيات والموقوفات الخاصة برعاية الخيول والبغال المريضة والعاجزة عن الحركة، والنبي (ص) كان يرأف بالحيوانات، حيث وردت أحاديثُ مستفيضة تؤكد على ضرورة الرفق بالحيوان وحفظ النباتات والأشجار إلا في حالات الضرورة، ومما يُلحَظ في هذا المجال أنّه يوجد في المجتمعات الإسلامية القديمة صورٌ ومشاهدُ كثيرة تحكي عن الرأفة والرحمة على صعيد النظام الإنساني وغير الإنساني، وليس خافياً على أحد أن بعض المسلمين غير ملتزمين بالتعاليم الإسلامية الخاصة بالرحمة والعفو، كما هو الأمر بالنسبة لليهود والمسيحيين وكذلك بالنسبة للبوذيين الذين يقوم دينهم على الرحمة والانفتاح، فإنّهم غير ملتزمين بتلك التعاليم. إنّ النقص والعيوب البشرية والظلم غير مختصة بقوم وطائفة دون أخرى، فهي موجودة في كل مكان، لكنّ المهمّ لنا أن ندرك أنّ للرحمة والعطف أهميةً كبرى في الأجواء الدينية الإسلامية، ونحن لا ندّعي أنّ جميع المسلمين ملتزمون بالتعاليم الدينية، في ما يرتبط بهذا الموضوع، بل نسعى لإبطال التصور الرائج، وغير الصحيح عند الغربيين عن الدين الإسلامي بأنّه دين لا يعرف الرحمة. وعلى سبيل المثال لو أنّ منصفاً رأى عشرة أماكن مقدّسة في عشر دول إسلامية، وسمع كم مرة في الساعة يلهج المصلّون والمتهجدون، وأهل المناجاة بكلمة الرحمة، لعرف جيِّداً أهمية ومحورية العفو والرحمة في الإسلام، ولأدرك العلاقة بين الله والإنسان، وبين الإنسان وكل الخلق. إنّ هدف الإسلام هو تدريب الأفراد العارفين والمدركين لرحمة الله ولطفه، وتعليم المتوكلين في حياتهم المعنوية على تلك الصفات، إنّ الهدف من نزول القرآن هو إيجاد مجتمع قائم على الرحمة والعفو، وليس قائماً على المصالح الفردية الضيقة والمعاملات الظالمة. وإيجاد مجتمع يدرك أنّ الوصول إلى السعادة الباطنية واستحقاق الرحمة الإلهية لا يكون إلا طريق الرحمة بالآخرين. وإننا في الوقت الذي نبني فيه سلوكنا مع الآخرين على أساس الرحمة نكون قد أوقفنا نفوسنا لله وأطلقناها من سجنها الضيق. المصدر: كتاب قلب الإسلام.. قيم خالدة من أجل الإنسانية

ارسال التعليق

Top