• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الدلالة الصوتية في النص القرآني

د. محمد حسين علي الصغير

الدلالة الصوتية في النص القرآني

◄لا شك أنّ استقلال أية كلمة بحروف معينة بكسبها ذائقة سمعية قد تختلف عن سواها من الكلمات التي تؤدي نفس المعنى بما يجعل كلمة دون كلمة ـ وإن إتحدا معنى ـ مؤثرة في النفس، أما بتكثيف المعنى، وإما بإقبال العاطفة، وإما بزيادة التوقع.

فهي حيناً تصك السمع، وحيناً تهيئ النفس وحيناً آخر تضفي صيغة التأثر: فزعاً من شيء أو توجهاً لشيء، أو رغبة في شيء.. هذا المناخ الحافل تضفيه الدلالة الصوتية، ونماذجها في المقل القرآني تتجلى مختارة منه، وحروف صاحبت بعض الكلمات، فعاد لهما الوقع الخاص من النفس، بما لا تعطيه كلمة أخرى، مقاربة للمعنى، أو لا تفرغه صيغة مماثلة من التركيب.

وهذا باب متسع بحدود في دلالة ألفاظ المثل الصوتية، وأثرها في السمع وجلجلتها في الحس، هدوءاً وإثارة، وقد يستوعب جملة من ألفاظه في الجرس والنغمة والصدى والإيقاع، بيد أنّني سأحاول عرض أظهرها دلالة من خلال بعض الأمثلة:

أولاً ـ الكلمة (متشاكسون) في قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ..) (الزمر/ 29).

تعتبر لغة عن المخاصمة والعناد والجدل في أخذ ورد لا يستقران، وقد تعطي بعض معناها الكلمة (متخاصمون) ولكن المثل لم يستعملها حفاظاً على الدلالة الصوتية التي جمعت في الكلمة حروف الأسنان والشفة في التاء والشين والسين تعاقبان، تتخللها الكاف، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغماً موسيقياً خاصاً حملها أكثر من معنى الخصوصية والجدل والنقاش بما أكسبها من أزيز في الأذن يبلغ السامع إلى أنّ الخصام قد بلغ درجة الفورة والعنف من جهة، كما أحاطه بجرس مهموس خاص يؤثر في الحس والوجدان من جهة أخرى.

ثانياً ـ الكلمة (أوهن) من قوله تعالى: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ..) (العنكبوت/ 41).

تعطي معنى الضعف، وقد تحقق هذا المعنى كلمة (أوهى) ولكن المثل استعملها دون سواها لما يعطيه ضم حروف الحلق وأقصى الحلق إلى النون من التصاق وانطباق وغنة لا تتأتى بضم الألف المقصورة إليها، حينئذ تصل الكلمة إلى السمع وهي تحمل لوناً باهتاً مؤكداً بضم هذه النون إلى تلك الحروف لتحدث وقعاً يشعر بالضعف المتناهي لا مجرد الضعف وحده.

ثالثاً ـ الكلمة (كلّ) من قوله تعالى: (وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ..) (النحل/ 76).

فإنّها توحي عادة بمعنى العالة، ولكن المثل استعملها دون سواها لإضاءة المعنى بما فيها من غلظة وشدة وثقل، لهذا الصدى الخاص المتولد بإطباق اللسان على اللهاة في ضم الكاف إلى الكلام المشددة. وما ينجم عن ذلك من رنة في النفس، ووقع على السمع، من وراء ذلك بأنّ هذا العبد شؤم لا خير معه وبهيمة لا أمل بإصلاحه، فهو عالة عادة بل هو (كلّ) وكفى.

رابعاً ـ الكلمة (صر) في قوله تعالى: (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ..) (آل عمران/ 117).

إنّها كلمة لا يسد غيرها مسدها في المعجم بهذه الدلالة الصوتية الخاصة لما تحمله من وقع تصطك به الأسنان، ويشتد معه اللسان، فالصاد الصارخة مع الراء المضعفة قد ولدتا جرساً يضفي صيغة الفزع، وصورة الرهبة، فلا الدفء يستنزل، ولا الوقاية تتجمع، بما يزلزل وقعه كيان الإنسان.

خامساً ـ (تمسه) في قوله تعالى: (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ..) (النور/35).

لها أزيزها الحالم، وصوتها المهموس، ونغمها الرقيق، نتيجة لإلتقاء حرفي السين متجاورين بما لا تحققه كلمة أخرى تؤدي نفس المعنى، ولكنها لا تؤدي هذه الدلالة الصوتية التي وفرتها هذه الكلمة برقة وبساطة.

وكما دلت الألفاظ دلالة صوتية معينة في الاستعمال المثلي في القرآن فكذلك لمسنا لبعض الحروف دلالة صوتية معينة يتعاقبها في سلك بعض الألفاظ حتى عادت ذات وقع خاص على السمع، وطبيعة مؤاتية في الحس من خلال ترادفها وتناظرها واحتشادها، وسنختار منها (الفاء) العاطفة، نظراً لاختيار المثل لها دون سواها في دلالته الصوتية كما يلي:

أولاً ـ الفاء في كلِّ من (اختلط) و(أصبح) في قوله تعالى: (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا..) (الكهف/ 45).

فيها ترتيب وتعقيب يصك السمع في دلالة وقع الأمر دون حائل وبلا فاصل تعبيراً عن الخسران النهائي، والحرمان المتواصل دفعة واحدة، وهنا تلتقي الدلالة الصوتية بالدلالة الاجتماعية بما يستفاد من معنى لغوي.

ثانياً ـ ويتمثل هذا التوالي عطفاً بالفاء دالاً على سرعة الإيقاع، وعدم الإمهال، بما يوحيه للسمع وللذهن كلاً غير منفصل بقوله تعالى: (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ..) (البقرة/ 266).

فلا حائل ولا زمن بين الإصابة والاحتراق، إذ تختفي الحدود الزمنية فما هي إلا لحظات حتى تعود الجنة رميماً بمفاجأة الإصابة وشدة الاحتراق ونفاذ الأمر.

ثالثاً ـ وما يقال آنفاً يجري تطبيقه على كلٍّ من قوله تعالى: (فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا..) (البقرة/ 264).

وقوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ..) (البقرة/265).

فوجود الفاء مكرورة على هذا النمط سواء أكان الحرف عاطفاً أم رابطاً فإن له دخلاً كبيراً في الوقع الموسيقي على الأذن.

رابعاً ـ ويبلغ هذا الترتيب في التعاقب دورته بقوله تعالى: (فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) (الفتح/29).

فالتوالي هنا زيادة على جرسه السمعي ليوحي إلى النفس نقطة الانتهاء من حقيقة الأمر حتى عاد واقعاً دون شك مقترناً بالدلالة الإيحائية في كشف تماسك هذه الجماعة وترابطها، وكذا الزرع في شدة أسره، وقوة تشابكه.

 

المصدر: نظرية النقد العربي (رؤية قرآنية معاصرة)

ارسال التعليق

Top