• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الدين واحد والشرائع شتى

محمد سعيد العشماوي

الدين واحد والشرائع شتى

الله سبحانه وتعالى لم يُوح إلا بدين واحد، هو الإيمان به والتسليم له، ثمّ حسن الخلق. وقد أمر الناس جميعاً باتباع هذا الدين على نحو ما دعا إليه كل الرسل والأنبياء: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة/ 136).
والدين عند الله واحداً لا يتجزأ، كُلٌّ لا يتبعض، وإنما تختلف الشرائع (والمناهج والسبل) بين نبي وآخر: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) (المائدة/ 48)، أي جعلنا لكم أيها الرسل والأنبياء ديناً واحداً، لكنا جعلنا لكل منكم طريقاً وسبيلاً في الدعوة إلى هذا الدين وفي تحديد سيره بين الناس، تختلف من نبي إلى آخر وتتباين من رسول إلى رسول، بحسب ظروف العصر وطبيعة البيئة والمقصود من الدعوة على العموم.
فشريعة موسى (ع) هي الحق الذي يضع الواجبات والحقوق ثمّ يدعو إلى إعمالها في شدة وصرامة.
وشريعة عيسى (ع) هي الحب الذي يدعو إلى التسامي فوق الحقوق والواجبات والتجرد من أوشاب النفس وأوضار العلاقات.
وشريعة الحق بهذا المعنى تشق على كثير من الناس الذين ينشدون التخفيف ويرغبون في التسامح. وشريعة الحب – كذلك – تشق على كثير من الناس الذين لا يستطيعون أن يعيشوا بغير تعامل طبيعي ودون علاقات عادية فيها الأخذ والعطاء، وفيها العفو والقصاص. لذلك جاءت شريعة محمد بالرحمة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107)، (هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) (الأعراف/ 203). والرحمة تعني أن ينشد الإنسان الحق في محبة للناس، وأن يباشر الحب في حق واعتدال. بهذا كانت شريعة الحق شريعة لبعض الناس، ولكن شريعة الرحمة هي شريعة الإنسان في كل مكان وفي أي زمان؛ لأنها الشريعة التي توافق الفطرة التي تريد أن تعيش حياتها، مع التخفيف كلما أمكن، والتسامح ما كان للتسامح سبيل.
والإسلام هو الإيمان بالله والاستقامة (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا) (فصلت/ 30)، (إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) (فصلت/ 6). (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف/ 13).
وكل من آمن بالله إيماناً صحيحاً واستقام في خلقه فهو عند الله (وبلفظ القرآن) مسلم لا خوف عليه ولا حزن: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 62).
غير أن بعض الفقهاء يرون أنّ هذه الآية منسوخة (ملغاة) بالآية: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران/ 85)، ويرتبون على ذلك – وعلى الظن بأنّ الإسلام مقصور على شريعة محمد (ص) أنّ أي إيمان بالله لا يؤجر وأي عمل صالح لا يثاب إلا إذا كان فاعله من المؤمنين بدعوة النبي الكريم وبرسالته. والواقع أنّ من يرى هذا الرأي إنما يراه وقد غاب عنه المعنى الحقيقي للإسلام، وخفيت عليه خطة الله في البشر، واضطرب في ذهنه معنى النسخ في القرآن. فالإسلام هو الدين الذي أوحى به الله إلى الأنبياء جميعاً والرسل كلهم، فدعوا إليه. وكما قالت الآية الكريمة فإن من آمن بالله وعمل صالحاً من المؤمنين أو اليهود أو النصارى فأجره عند الله، لا خوف عليه ولا حزن. وكل من كان صحيح العقيدة قويم الخلق فهو عند الله – وفي معنى القرآن – مسلم. والمقصود من آية (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)، من يبتغ غير دين الإسلام الذي دعا إليه كل الأنبياء والرسل والذي اعتنقه أتباعهم. والقرآن يفرّق بين المشركين والكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا بالرسل ولا يعملون صالحاً وبين أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومن هؤلاء من يؤمن بالله ويعمل الصالحات، وهو المقصود بالآية الكريمة التي تبشّر بأن لا خوف عليه ولا حزن.
والله سبحانه وتعالى يريد للبشر التباين وللعقول الاختلاف، لأنّ الاختلاف المعقول يؤدي إلى التنافس الشريف والتجادل بالحسنى، فيتسبب في رقي العلوم والفنون والآداب (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس/ 97)، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) (المائدة/ 48)، فالتباين إرادة الله والاختلاف حكمته واختباره.
وفي كل شريعة حدث الاختلاف بين الناس، لكن لفساد الناس كان أقل الخلاف نافعاً وأكثره ضاراً. فالإسرائيلية (نسبة إلى إسرائيل) أو اليهودية (نسبة إلى يهوذا القائد الذي خلف يوشع بن نون ودخل بالإسرائيليين إلى أرض فلسطين) تفرّقت إلى فرّيسيين (مفروزون) وصدوقيين (أتباع صادق) وآسينين (المتطهرون) وقرائين (الذين يعتمدون في الفهم على نصوص التوراة) وغيرهم.
والمسيحية (نسبة إلى السيد المسيح) أو النصرانية (نسبة إلى مدينة الناصرة التي ظهر فيها المسيح) تفرّقت إلى الأرثوذكسية (المحافظة) والكاثوليكية (الجامعة) والبروتستانتية (المحتجة) وإلى عشرات الفرق الأخرى.
وفي الإسلام ظهر الاتجاه السني (الذي يسير على سنن النبي والصحابة) والاتجاه الشيعي (الذي يشايع علي بن أبي طالب وبنت رسول الله). وداخل الشيعة ظهرت عدة فرق منها العلويون والزيدية والإسماعيلية والاثنا عشرية وغيرها. وظهرت في الإسلام فرق كلامية (فلسفية) كثيرة، منها الأشاعرة والمعتزلة والقدرية والمرجئة وغيرها.. ومن البديهي ألا تكون كل المذاهب وكل الفرق على صواب. فبعضها على صواب وبعض آخر على بعض من الصواب. ومن المستحيل أن يُترك الأمر لأي فرد ليصوب كل اتجاه أو يخطىء أي مذهب. فالله سبحانه وتعالى أرجأ الفصل في اختلاف الناس إلى يوم القيامة: (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الأنعام/ 164).
ولكن القاعدة هي ما أنزله الله في القرآن الكريم: أي من آمن بالله وعمل صالحاً فلا خوف عليه ولا حَزَن.
ومن قال إنّ هذا المعنى العظيم قد نُسِخَ فقد أخطأ خطأ كبيراً؛ لأنّ النسخ لا يكون في الدين أبداً، بل هو في أحكام الشريعة. فالدين جوهر واحد لا يتجزأ ولا يتبعض ولا يلغي جزء منه جزءاً آخر. ومن أول نبي حتى آخر نبي معنى واحد لا تعارض فيه ولا تناقض. أما الشريعة فهي تعني المنهج. وهي في القرآن منهج للتقدم بالإنسان إلى الأفضل والسمو بالمجتمع إلى الأرفع. ومن طبيعة التقدم أن تتغير الأحكام كلما تغيرت الظروف أو تجددت الوقائع. لذلك فقد تغيرت أحكام الشريعة في القرآن بما يسمى النسخ، وهو في الواقع تطبيق للمنهج الذي يدفع إلى التجديد وليس مجرد نقل الناس من حكم إلى حكم. فالنسخ وقع في أحكام الشريعة ولم يقع في الدين، ولا يمكن أن يحدث في الدين نسخ. وبهذا الفهم فإنّه لا يكون قد حدث أي نسخ للآية الكريمة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 62).

المصدر: كتاب جوهر الإسلام

ارسال التعليق

Top