العلامة الراحل السيد محمَّد حسين فضل الله
قد يحتاج المؤمنون في خصوصيتهم الإيمانية من حيث عمقها في الروح وفاعليتها في الشعور والوجدان إلى هزةٍ روحيةٍ تخاطب أفكارهم ومشاعرهم، حتى لا يتجمد فيها الإيمان فيتحول إلى معادلةٍ عقليةٍ لا تحمل أي نبضٍ في الروح، أو يزحف إليهم الباطل فتخشع قلوبهم لرموزه، وحتى لا تتحجر القلوب فلا تخشع لذكر الله، ولعظمة الحقّ في الإسلام، مما يفرض عليهم أن يتعمقوا في التصور، ليتعرفوا إلى الله في مواقع عظمته وأسرار قدرته، ويستغرقوا في مواضع نعمه، ليدركوا أنّه وحده الذي يملك الأمر كلّه، ويهيمن على الوجود بكلِّ موجوداته وحركته.
ثمّ لابدّ لهم من أن يستعيدوا في وعيهم العقلي وفي وجدانهم الروحي الآيات التي أنزلها الله على رسوله، في ما تشتمل عليه من حقائق العقيدة ونظام الشريعة ومنهج الفكر والحياة وحركة الإنسان في الواقع، ليدركوا أنّ هذا الفكر الذي يستمد حيويته وقوته من وحي الله، هو الفكر الذي يجب أن يلتزموه، وأن يتمثلوه في وجدانهم، وأن يحملوه في حركتهم في الحياة، كعنوانٍ للانتماء وللوعي وللحياة، لأنّ ذلك هو الذي يحميهم من الانحراف، وينقذهم من الضلال ويعمق في داخلهم وفي امتداد مسيرتهم على مدى الزمن معنى الرقة في القلب والخشوع في الروح، حتى لا تؤثر عليهم المؤثرات السلبية التي ترهق القلب، وتجفف ينابيع الروح.
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (الحديد/ 16)، قد يكون هذا الحديث للمؤمنين الذين يستعجلهم الله للحصول على حالة الخشوع القلبي الذي يجعل كيان المؤمن كله خاشعاً له، في اهتزاز الشعور بالعظمة والنعمة في إيحاءاته بالمحبة من جهةٍ، والخوف من جهةٍ أخرى، حيث يمتزجان في كلِّ مشاعره وأحاسيسه وأفكاره، ليجعلا منه الإنسان المنفتح على الله الخاضع له.
قد يكون هذا الحديث منطلقاً من حالة جفافٍ روحي عاشها المسلمون آنذاك، مما جعل الذكر يفقد روحيته في قلوبهم، كما أبعد الإسلام عن مواقع العمق في عقولهم، الأمر الذي فرض الحاجة إلى نداءٍ إلهي قوي، يحذرهم من ذلك، من خلال التأثيرات السلبية التي تمنعهم من الاندماج في محبة الله، والانسحاق أمام مشاعر الخوف منه، ليكون الله مجرد اسم في الذاكرة، ويتحول الإسلام إلى صورة جامدة في الخاطرة، (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ) (الحديد/ 16)، حيث تحول الكتاب عندهم إلى عنوان لا يحمل في داخل قلوبهم شيئاً من معانيه، والدين إلى انتماءٍ فارغٍ من الروح لا يؤكد خطه في الحياة الفكرية والعملية لهم، أما اسم الله، فيتحول إلى إلهٍ قومي لا ينفتح على الناس كلهم بمحبته ورحمته، بل يختصهم بها، أو يبقى في أفكارهم جامداً لا يحمل أية نبضة حياة (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ) (الحديد/ 16)، وابتعدوا عن حيويّة الرسالة وروحانية الرسول في انطلاقتها الحية القوية الواعية، فتحولوا إلى تقليديين يتخذ الدين عندهم صفة العادة الجامدة في شخصياتهم، (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (الحديد/ 16)، وفقدوا الخشوع لذكر الله، فلم يبكوا خوفاً من عقابه، ولم يخضعوا رجاءً لثوابه، ولم يرجعوا إليه، أو يجلسوا بين يديه في شكوى العبد لسيده عندما تحلّ به المشاكل، أو تحاصرهم الأزمات، أو يشتد بهم الحرمان، بل يرجعون إلى عباده، ويعتمدون على أنفسهم، بعيداً عن الله.
وهكذا ابتعدوا عن الله بالفكر والروح والحركة، فانحرفوا عن الخط المستقيم، وتمردوا على أوامره ونواهيه، واقترفوا الكثير من الآثام (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد/ 16)، في أقوالهم وأعمالهم وعلاقاتهم العامة والخاصة، وقليل منهم مؤمنون متّقون خاشعون في قلوبهم لله، في رقةٍ خاضعةٍ خاشعة تلامس الروح، وتفتح القلب على الله وعلى الخير المنطلق من وحي الإيمان به.
(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (الحديد/ 17)، فينزل عليها الماء بعد جفافٍ طويل، فتخضر في هزَّة العشب، ونضارة الشجر، وزهو الورد.. وهكذا يوحي ذلك إلى الناس بأنّ الله يحيي العقول الميتة بفعل الجهل بالمعرفة، والقلوب الميتة بفعل الضلال عن الهدى والإيمان.
(قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد/ 17)، عندما تفكرون في مضمونها من أجل الانفتاح على الحقِّ كله في مواقعه في حياة الناس، كما هو في مواقع الحقيقة البارزة في قدرة الله في الأرض، فينفتح للعقل أكثر من نافذةٍ على المعرفة الواسعة التي تضيء الروح والوجدان والحياة.
المصدر: كتاب تفسير من وحي القرآن
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق