◄ليس هناك مبدأ ذو أهمية مركزية، بالنسبة لفكرة الديموقراطية، أشدّ من أهمية الحدّ من سلطة الدولة التي ينبغي عليها احترام الحقوق الإنسانية الأساسية. إلى ذلك، كيف للمرء أن ينسى أنّ الخصم الرئيسي للديموقراطية في عصرنا هذا لم تكن مَلَكية الحق الإلهي أو سيطرة إحدى أوليغارشيّات الملاكين العقاريين أو الاقطاعيين، بل كان التوتاليتارية، وإنّه ليس هناك ما هو أهمّ، لمكافحة هذ التوتاليتارية، من الاعتراف بحدود سلطة الدولة. هذا وقد أصبح هذا الشعور مترسّخاً فينا بحيث بات يغرينا اليوم بإيلاء أهمية أقل بكثير من تلك التي كانت تولى في القرنين السابع عشر والثامن عشر لفكرة السيادة الشعبية ولفكرة المساواة كما حدّدها تو كفيل. ذلك أنّ الطوئف ذات البنيان والمراتب المتماسكة والمحميّة بإوالات الرقابة المجتمعية الشديدة، صارت في جميع الأحوال مقضيّاً عليها بفعل الحداثة وبفعل تفسّخ النسق القائم تحت وطأة التغيرات المتسارعة، بحيث أنّ ما يقضي على النسق التقليدي لا يجسّد بفعل سياسي تأسيسي، كالحلفان بالدخول في عقد مجتمعي معيّن، بل إنّ ما يقضي عليه هو الحداثة، سواء رافقتها الديمقراطية أم لم ترافقها. هكذا بتنا نشهد في كل مكان زوال الملَكيات التقليدية، والطبقات الحاكمة القديمة، فضلاً عن صيغ التسلّط العائلية أو المدرسية التي كانت تفرض على الناس احترام المراتب والهيئات التراتبية باعتبارها من طبائع الأمور. لقد استُبدلت "الأسلاك"[1] بالطبقات، وربما كانت هذه قد استُبدلت بدورها بالعديد من الجماعات ذوات المصالح المشتركة. بالمقابل، ليس هناك ما يجدي في الحدّ من سلطة الدولة إلّا قرارٌ سياسي وفكرٌ أخلاقي، ما دام التاريخ متّجهاً نحو تزويدها بسلطة متزايدة في مجتمع متحرك لم تعد فيه هذه الدولة مجرّد ضامن أو كفيل لإعادة انتاج النسق المجتمعي، بل صارت أكثر من ذي قبل قوة مركزية فاعلة من قوى التغيير المجتمعي والتراكم وإعادة التوزيع. فالتأكيد على الفكرة الديموقراطية هو بالتالي أكثر حضوراً في عملية الحدّ هذه، التي لا مفرّ من أن تكون عملية إرادية تكاد تجري دائماً بإتجاه معاكس لميول المجتمع الحديث، مما هي عليه في عملية تصدّع المرجعيات التقليدية على يد دولٍ كثيراً ما تكون أقرب إلى السلطوية منها إلى الديموقراطية. لقد أتاحت ثقافتنا السياسية نشأة الديموقراطية الحديثة لأنها كانت تقوم على الفصل بين السلطة الروحية والسلطة الزمنيّة، بينما ظلت هاتان السلطتان، في حضارات أخرى، سلطة واحدة، فأدّى ذلك إلى تقديس الدولة وتبجيلها. والواقع أننا نجد في تراثنا فكرة القدسي وفكرة التعالي معاً. فالفكرة الأولى توحّد بين البشري والإلهي وتضفي معنى رمزياً على الأشياء والتصرّفات. إنها تخلط بين الروحي والزمني، بل تنزع عن الفصل بينهما كل معنى. أما التعالي فهو، على العكس، يفصل بين ما يوحّده القدسي، لأنّه لا يتجلّى إلا من خلال حادثة من الحادثات، أو بناء على اضطراب النسق المجتمعي وتبلبله، أو ظهور نبيّ من الأنبياء أو حتى تجسّد ابن الله على الأرض. ولولا تدخل النبي المذكور أو الإبن المذكور لظل الله حاضراً وموجوداً أينما كان، في نسق الأشياء كما في أذهان البشر. أما حضور ابن الله شخصياً ووجوده في العالم فهو، بالعكس، يفصل بصورة مرئية بين النصاب الروحي والنصاب الزمني، ويُفسح المجال أمام نزع القدسية عن هذا العالم على نحو ما يقول الانجيل – أو على الأقل بحسب التفسير العريض الذي يُعطى لهذا القول – أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
لقد تأثّر تاريخنا الحديث بهذين الميراثين الدينيّين اللذين سمّاهما ماكس فيبر الميراث التقشفي وميراث الحكم المقدّس. فمن جهة، تحوّلت النظرة القدسية للعالم وسلطة الحكم المقدّس لله، مع النزعة الدنيوية إلى حكم مطلق أضفى على نفسه شرعية دينية. فكان هناك دين للدولة في البلدان المسيحسة كما في البلدان الإسلامية، وكان ملوكنا يدّعون صنع المعجزات، بينما كانت الكنيسة إبّان المناظرة الكبرى بين البابا والإمبراطور تشدّد على الأصل الديني غير المباشر للسلطة الزمنية وعلى دور الشعب في إضفاء الشرعيّة عليها. ومن جهة أخرى، تحوّلت الدعوة إلى الإله المتعالي إلى وعي بالنفس، كما عرّفها ديكارت، وإلى زهد بالعالم، ثمّ إلى حق طبيعي، قبل أن تتدخّل في شؤون مجتمعنا متّخذة صيغة العدالة المجتمعية والمناقبية التي ينبغي أن تحكم تصرفاتنا حيال الكائنات الحيّة. فالدين لا يجوز أن يُعتبر خصماً للحرية، ولا للعقل على كل حال. وغلباً ما سعت الكنائس إلى إيجاد مجتمع مسيحي أو إلى الدفاع عن هذا المجتمع – إذا شئنا أن نبقى ضمن المنطقة المسيحية – الذي أطلق عليه جان ديليمو اسم العالم المسيحي تمييزاً له عن المسيحية، فضلاً عن أنّ هذا الاتجاه كان يعود فيتمثّل بحركات دينية وسياسية معاً ذات مضمون أُخروي واضح كاللاهوت التحرري مثلاً. لكن الإيمان الديني كان يسعى، على الجانب المضادّ، ومنذ أيام سواريس ولاس كاساس إبان الاستعمار للعالم الجديد وصولاً إلى حركة فيكاريا دولا سوليداريداد[2] التشيلية، إلى ما مناهضة تعسّف السلطة السياسية وإلى الدفاع عن المحرومين والمضطهدين. إنّ الذهنية الديموقراطية تدين بالكثير للتجربة الدينية، رغم أنها اضطرت في الوقت نفسه إلى النضال في كثير من الأحيان ضدّ الدعم الذي كانت تقدّمه الكنائس للسلطات القائمة.
الهامش:
[1]- جمع سلك. والسلك مجموعة من الأفراد الذين تربطهم رابط مهنية (كسلك لدرك) أو عقائدية (كسلك الرهبنة) إلخ. نستعملها هنا في مقابل Ordre المتعدّدة المعاني (م).
[2]- Vicaria de la solidaridad، بالإسبانية في النص أي أرض التضامن.
المصدر: كتاب ما هي الديمقراطية؟ (حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلّية)
ارسال التعليق