• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

السياسة مصلحة الإنسان

محمّد الأحمري

السياسة مصلحة الإنسان

◄السياسة هي جزء من تراث البشرية المشترك، فكراً وممارسة، وليس هناك من فروق في أحقية الأُمم بامتلاك تراث حكمة الإنسان، بل هو حقّ الجميع، كما إنّ نقده حقّ الجميع، فإذا كان همّ الإنسان الوصول إلى السعادة في حياته، وفي آخرته، فإنّ زعم امتلاك مفهوم أو مفارقة آخر مجرّد عبث من عبث الدارسين، وفنون تقسيمهم الاعتباطية في العلوم الإنسانية أو الجغرافيا الثقافية، فما كان خيراً تبيّن للناس نفعه، فهم أحق به في أي بيئة وجد، وإن كان سوءاً فنبذُه واجب على كلّ عاقل، وإن كان الخطأ من اختراعه هو، فضلاً عن أن يكون من عمل أجداده، وهذا النهج المصلحي مفهوم عريق في ثقافة المسلمين في عهود فجر وعيهم بأنفسهم والعالم، وإنما كثر الحديث عن المصلحة في عهود متأخرة؛ بسبب سيطرة الحفظ أو الرواية على الوعي، وسيطرة التقليد؛ ولهذا جاء نقاش هذه المسائل لإعادتها إلى الوعي الإسلامي في زمن بُعدهم عنه، فالزمن الأوّل أقلّ تنظيراً لها، وكانوا ينفذون مصالحهم، مدركين أنّ شرعهم لا يناقض عقولهم ومنافعهم، ولكن الانحرافات المتوالية أوجدت مع الزمن رصيداً من الجهاد لاستعادة الوعي، ومعرفة المصالح، وبعد قرون وجدنا أنفسنا في تراث يغرّق وعينا عن شرعنا، وفكر آخر من بلاد أخرى ننظر إليه بريبة؛ لكونه من الآخرين لا لكونه حقّاً أو باطلاً. ومنا مَن يستعد لردّ الحقّ إن ورد من غريب، وقبول الضرر إن جاء من قريب. وقد تبيّن لنا من معركة القرون المتراخية عن زمن الرسالة معاناتهم مع منكري المصالح، فوصلنا من كلامهم الكثير في غايات الشريعة ومسائل المصلحة، وكون "التكاليف كلّها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأُخراهم، والله غنيّ عن عباده، فلا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين". "كما قال العز بن عبد السلام، وقول الشاطبي: "الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد"؛ ومن هنا وجب استعادة الوعي بالمصالح واعتبار المعتبر منها، وأهمها ما يتعلق بقضايا منافع الأُمّة السياسية.

إنّ النظرية السياسية فرع من الموقف الأخلاقي، أو النظرية الأخلاقية في أي مجتمع؛ لذا كان للمفاهيم المترسخة في المجتمع أثرها الكبير في طبيعة النظرية السياسية. ولأنّ الأخلاق تأخذ جذورها من الأفكار ومن الممارسات، فإنّ على المصلحين أن يتوجهوا إلى بذور الانحطاط الأخلاقي الذي يثمر شخصيات مستبدة، وعندما يصل مَن له دوافع أخلاقية دنيا، فإنّه يصنع ثقافة أخلاق ونظرياتٍ سياسيةٍ وينتج قوانين أو يفسر القوانين الموجودة بما يضمن له انحطاطاً أخلاقياً يقبل باستمرار استبداده. فالتلازم بين الأخلاق وبين نظام الحكم أساس؛ لذا نجد أنّ الحكومات في بداية تأسيسها حتى لو كان عشائرياً، تمتد أصوله من نجاحات حربية ومن أخلاق محاربين، فيها العدل والإيثار والشموخ المتواضع، ولكن هذا المزاج الأخلاقي كفيل بأن يدمره استمرار الاستبداد. والسياسة معارف ومواهب وأعمال وأخلاق، وإدارة وتدبير المجتمع بهذه الأمور، ونحن هنا إنما نتحدث عن جانب من المعارف العملية، وهو النظام الديمقراطي.

والمشاركة هي روح الديمقراطية، وهذه المشاركة هي التي تبرر أن يكون هناك مَن يُطاع؛ لأنّه يمثلهم، أنابوه مختارين ليمثل ما يحبون وما يكرهون، وما يُقرون وما ينكرون، وهي المبرر أن يقبل الإنسان أن يقاد وأن يطيع القيادة التي تحكم إذ إنّ المشروعية السياسية هي: "القبول بأنّ السلطة السياسية الحاكمة شرعية ولهذا فإنّ المرؤوس يشعر بالتزام أخلاقي بالطاعة لها". ومن دون هذه المشاركة، والشعور بالكرامة التي يؤسس لها كونه شارك في اختيار مَن يتخذ القرارات الأساسية لنفسه ومجتمعه، فإنّه يبقى ساخطاً ومنعزلاً يعاني شعور الإقصاء والفساد والاستبداد، ويرى مزاج الفرد أو رأي القلة أو مصلحتها، مصدر تحكّم في مصائر الشعب، والاقتناع فالمشاركة بنتائج ساهم الفرد أو مَن أنابه عنه كغيره على حد سواء في صناعتها، سوف يشعره هذا بالعدالة والمساواة، ويشعر الناخب بأنّ حريته مرعيّة ومصانة، بل متحققة حين يملك أن يقول ويفعل في القرارات الكبرى ما يحب، وما يُرضي ضميره، وما ينسجم مع فكره؛ فقاعدة "صوّت لكلّ شخص" تنتج كرامة إنسانية، تفتقدها الشعوب التي لا تخرج للتصويت على اختيار قيادتها. ومع ذلك، فإنّ فكرتَي العدالة والديمقراطية تتنازعان ولا تتفقان دائماً. ولكن الديمقراطية أحرى بأن تصنع عدالة أكثر من غيرها من النظم، بحكم ضمان كلّ فرد لدوره وضمانه لوصول صوته، وما تحققه الديمقراطية من حرّية للقول والنقد وتغيير المسؤولين دائماً.

ثمّ هناك القيمة الإنسانية التي تعطيها الديمقراطية لم يتمتع بها، وقد ثبت أنّ الإنسان إذا ذاق الحرّية فإنّه يعمل لها كما يعمل لضروراته المعاشية، وفي الهند اهتم الناس بحرّياتهم كما اهتموا بمعاشهم، وقاوموا ببسالة في سبيل حرّيتهم، كما احتجوا على الحرمان الاقتصادي، ولم يجد مَن راقب ذلك فرقاً في اهتمام الإنسان بهما، مع أنّه لو قدّم الاهتمام برزقه وطعامه لم يلمه أحد.

إنّ كثيراً من قيم خصمك عندما تتمثلها يفقد سيطرته عليها، وتصبح من عدّتك في مواجهته، وقيم القوة الصالحة والعدل والخير لم تغلق في وجوه البشرية، ولم تُستكمَل عند أُمّة، ولو استُكملت في نصوص وكتب يحملونها فلا يعني أنّهم أدركوا كلّ أبعاد الخير والضر في ما يحملون، وما يوقر ظهورهم على مدار القرون، وكم من مبدأ خير كان ورد لنا ولم نعرفه إلّا بعد سنين من تحاورنا ومواجهاتنا مع أنفسنا أو مع الآخرين فاكتشفنا أنفسنا، وهم كذلك، فلا يرتقي الإنسان في قيم إنسانيته، ولا تلوح فضائله إلّا في وجود مَن يشاركه الحياة والرأي حبّاً أو مغالبة، ولا يكتشف قيمه لأنّها موجودة؛ ولكن لأنّ منبهاً "ما" نبهه إلى ما يحمل على ظهره من أسفار، وإلى ما في تاريخه أو تراثه من قيم، وما عند غيره من فضائل. وعندما طرقت أبوابنا الديمقراطية، حفرنا في تاريخنا لنجد الشورى وينكب عليها كثيرون منا منذ قرن من الزمان، يحفرون ويلحّون في الاستقصاء والأمثال والشواهد والحوادث، وما كان لخبر الشورى أن يولد لولا فضائل الديمقراطية التي رآها جيل المجددين من مؤسسي الأفكار الإسلامية في العصور الحديثة، فكان من منظومة الردود والدفاع عن النفس، وقد آن لنا أن نقف مع ما عندنا وما عندهم وقفة باحث عمّا يصلح للحياة من فكرة وممارسة، لا ما يليق بباحثي أخبار الحضارة ومتعة الماضي وتسلياته وغروره المركوز في الفطرة البشرية لكلّ إنسان.

للأسف، نجد أنفسنا مأسورين في الكتابة الفكرية بثقافة المتلقّي وطريقته، وما تعوّده ليس فقط بالحقيقة التي نكتب عنها، ولأنّه لابدّ من تقديم الحقيقة، وتقدير ثقافة المتلقّي، فقد حاولت أن أجمع عبر هذه المقال بين ما اعتقده حقّاً تتجه إليه الضرورة وتأمر به العقول والأفهام، والممارسات التي هي حصاد مسيرة بشرية، وحصاد عقل الإنسان عبر العصور، فإني قضيت وقتاً لإقناع المتلقّي في جعل ثقافته تتجاوب عبر مفاصل مهمة في تاريخه وفكره مع هذه المكاسب البشرية العظمى، وأهم من ذلك إعادة اكتشاف حقيقة ما عنده وما غطّته عصور من الاستبداد من ثقافة أصلية، فطرةً وممارسةً؛ ولأنّنا – نحن المسلمين – نحمل على ظهورنا تراثاً عظيماً نقدس منه ما لا يقدَّس، ونستسلم له في مسيرة غير واعية؛ بسبب الخوف عليه، والخوف من الانحراف عنه، والخوف من خصوم لنا أغوَوْنا عنه، فقد أصبحت وثيقة الدخول لنقاش قضايانا "الخوف على التراث"، وأيضاً "الخوف من مستخدمي شعار التراث ضده"، وبجانبهم: "الخوف من الاستسلام للتراث". والخلاصة.. خذ معك سلاح الخوف على التراث، والخوف من التراث، لأنّك ستدخل ميداناً ملغماً بالمهاجمين والمدافعين، فإما أن تختار جبهتك قبل الدخول؛ لتكون آمناً في فسطاط من فسطاطَي المتحاربين، وإلّا فإنّك موضع تهمة من سكان الميدان، ووجودك فيه خطأ، ومعالجتك دائماً خطأ لأنّك لا مشجِّع ولا معين، ولا صفّ ينصف ولا يصطفّ.

ومن بقي يحسب حساب المخالفين وعشاق المواجهات لم يصل إلى شيء، ولن يرضوا عنه؛ فمن طرائف هؤلاء الفرقة الكاملية فرقة أبي كامل، وهؤلاء يكفِّرون الصحابة كلّهم؛ لأنّهم لم يبايعوا عليّاً، ويكفرونه هو أيضاً؛ لأنّه ترك قتالهم" فكيف يصل مع هؤلاء لشيء؟

لم أتهاون بجناحي النقاش: المقتنِعين بالديمقراطية والرافضين لها، فلديهم حجج وفهوم، ولكنها تحتاج إلى إعادة زيارة وتحقُّق من صحتها أوّلاً، ثم من مناسبتها لو صحت لزماننا، ثم عن قضية الزمن نفسها كمبرر للجمود أو للتغيير. ولا نغرق في ما سمي بالعقل محضاً ولا متلبساً، ولا بكونه جغرافياً ولا تراثاً ثقافياً، ولا أقسام هذه الحقائق أو المماحكات.

فمثلاً نعلم أنّ المعتادين على العقل الروائي أي العقل "الإخباري" من المستسلمين لروى فلان عن فلان، من عشاق روى، سواء كانت رواية مقبولة أو مرذولة في كلّ شيء، فإنّهم يستحقون مراعاةً لما تعوّدوا عليه، وقد نوقشت رواياتهم هنا، وأُعطوا ما يكفي من أسماء محترمة مستحق أن تُقدّر أو يُقدَّر اختيارها. ومن تعودوا تقسيم العالم إلى عالمي العقل والعاطفة، ولمن تعودوا النظر بنقص لأنفسهم، أو بتميز لمضايهم، كلّ هؤلاء يحتاجون إلى نقاش ولو سريع لبعض مسلّماتهم، ويكفي مؤلفاً أن يحاول أن يجيب عن تساؤل، وإن كانت التساؤلات لا تنتهي، فإنّ الفهم ومحاولته عملية دائمة تحدث في الذهن تجاه واقع حياة دائبة التقلب والسؤال، لا تقف في لحظة ولا تُجاب أسئلتها بإجابات نهائية؛ ولذا كانت الحاجة دائماً إلى وضع نمط فكري مرن، أو قواعد تضمن مسايرة التحولات؛ لأنّ النهايات المحددة قيد يسبّب صلابة تمنع مسيرة الحياة واطّراد الفكر، وتوجب انسداداً أو ضرورة لكسر الحواجز النهائية التي تكتسب بتصلّبها تقديساً موهوناً، وزمناً من التيه الثقافي المرير للأُمم.

وللأسف.. فإنّ الرواة عن مفاسد الديمقراطية أوغلوا في الرواية عن مساوئ الديمقراطية، وتجنّبوا عامدين محاسنها، وإني وإن كنت مقتنعاً ومائلاً لفوائد هذا النظام ونموّه، فإني كتبت عن كثير من مساوئه، ليس تحذيراً، ولكن مَن يكون أميناً، عليه الاعتراف بالحقيقة كاملة، ثم إنّ المسلمين بحاجة شديدة إلى معرفة مساوئ هذا النظام، كما عليهم أن يقطفوا محاسنه، ولكنه ليس مما يمكن أن تأخذ الخير فقط بعد نزع شروره منه، لا.. بل تحاول توطينه وتخفيف مفاسده؛ كونه عملاً ينمو ويُستصلَح دائماً منذ عرف إلى اليوم والغد، فهذه هي المشاركة العامة، فكما ليس بإمكانك أن تجد سيارة ولا طيارة ولا تعليماً ولا طباً من دون تكاليف، ولكنك تحسّن باستمرار من هذا المنتَج وتخفف عيوبه، وتكبِّر من محاسنه لأنّنا لا نعرف بديلاً عنه خيراً منه.

وكانت مأساة الخلافة العثمانية، بل كلّ دول المسلمين السابقة إلى عصرنا، هي عدم وجود نظام سياسي، والوهم بأنّهم أسسوا نظاماً، وهذا لم يحدث، ولعلّ القطيعة المُرة التي حدثت للعرب والأتراك في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، واستمرت مئة عام كانت كفيلة بأن تقنعهم بأنّ الكثير من الأوهام قد آن لها أن تغيب وتموت، وينقطعوا عن تراث سياسي وهمي غير عملي قام على قداسة الفرد ضد الأُمّة والدين وكلّ المصالح العامة.

ولهذا كانت الأُمم تحتاج إلى هذه القطيعة القاسية، لتبدأ في إنشاء حالة مرنة بديلة ونظام فكري جديد، منقطع ولكنه لا ينقطع تماماً عن استلهام روح حضارته. ولأنّها قطيعة مع الطمأنينة فهي قلقة ومتعبة، وهي بحث في البدائل، وعند الآخرين، وفي التراث، وهي تبرير للاختيار، وتبرير للحذف وللخروج من المعتاد. والحياة والأفكار تجربة، ولابدّ لنا من أن نبدأ من منطقة في الفكر والممارسة، قد نختلف عليها، ولكن لابدّ من اختيارها حتى نعرف توجهنا، ندل على طريقنا، وليس كلّ، ولا غالب، طريقنا من إبداعنا، غير أن نختار خير ما نفهم، وخير ما نجد الناس قد فهموه، ونجعله على الرغم من حبّنا لاستقراره مرناً؛ لأنّ المرونة الفكرية والقانونية قانون هذا الكون مهما أحب الواهمون صرامةً في كلّ شيء، فكسر السنن قانون كقانون وجودها، والإنسان أبلغها مرونةً.

وهنا فصل عن تاريخ هذه الفطرة، أو التي رآها بعضهم بدعة مثبتاً لها تاريخاً لعله غير معتاد في جل النصوص التي ناقشت الأمر، وقد وجدت مصادر طريفة تستحق التفكير كثيراً في ما سلّمنا به منذ عشرات السنين؛ بسبب مركزية التأريخ الأوروبي للأفكار، وغفلة أصابت كثيراً من مثقفينا دائماً، واستسلامهم لما نقل لهم عن تاريخٍ صنع في عالمهم لم يعرفوه، أو أعاد الغرب الذي اكتشف صياغته وترتيبه.

وعلّة المركزية الفكرية للتاريخ الثقافي العالمي حقيقة تمتعت بها الحضارة والسياسة الغربيتين، وكلّ حضارة غلّابة تعيد كتابة التاريخ الثقافي للعالم وتعيد تفسيره بانسياق طوعي عالمي، ليس بناءً على خطة مسبقة، بل انحراف طبيعي، فكما نشتري من جيراننا العرب والهنود والأفارقة بعملة قادمة من بعيد، فإنّ الثقافة لا تُستثنى من ذلك، فقد فهمنا تاريخ الفراعنة وبابل وآشور عبر مفسرين غربيين، واليوم يفهمنا الهندي والياباني والصيني والفلبيني والأسترالي والأمريكي الجنوبي، وربما حتى الأوروبي القريب بعين أمريكية ولغة إنكليزية، بحسب ما يرى متحدث متطرف أو معتدل من تلك البلاد البعيدة؛ لأنّ قوتها ومدنيتها وثقافتها غالبة.

فإذا قيل إنّ الفلسفة والسياسة يونانيتان ولم يسبقها فكر من بلاد الرافدين ولا من الفينيقيين ولا من اليمن ولا من مصر والشام؛ فلأنّ مركز التوجيه الثقافي قال ذلك، وحتى لمّا صدر كتاب (أثينا السوداء) ليهز كثيراً من مسلّمات الفكرين الغربي والعالمي صدّق به قليلون، ولم يزل يراه الأكثرون مزحة سوداء تحاول أن تهز المركزية الغربية للفكر.►

 

المصدر: كتاب الديمقراطية الجذور وإشكالية التطبيق

ارسال التعليق

Top