• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

وحدة الخالق وتعدُّد الأنبياء

السيِّد حسين نصر

وحدة الخالق وتعدُّد الأنبياء

◄- وحدة الحقيقة وكثرة الوحي:

إنّ ثمّة مكاناً في قلب الإسلام لحقيقة الخالق الله الواحد المطلق اللامتناهي الرحمن الرحيم القريب، فوق ما نتصوّر ونتخيل، ومع هذا كلّه فهو متجلٍّ في الأشياء كلّها، وأقرب إلينا من حبل الوريد، كما شهد بذلك القرآن: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق/ 16).

إنّ مسألة التوحيد هي إحدى المسائل المحورية التي تتفق عليها الفِرَقُ والمذاهب الإسلامية جميعها، والشهادة بتلك الوحدة قطب تدور حوله جميع المسائل المرتبطة بالإسلام كلّها.

فالله الخالق فوق كلّ نوع من أنواع التثنية والارتباط والحاجة، وخارجٌ عما يتفاوت به الذكر والأنثى، ومُنزّه عن الصفات التي تميز الموجودات عن بعضها البعض، مع ذلك فهو جلّ وعلا مبدأ الوجود وأوّله، وآخر كلّ شيء ومنتهاه.

والشهادة بالتوحيد تقع في قلب المنظومة العقيدية الإسلامية وعبارة (لا إله إلّا الله)، هي عنوان التجلّي التوحيدي وواحدة من الشهادتين اللتين يتمّ بها إسلام المرء، علماً أنّ الشهادة الثانية هي (محمّد رسول الله). ويعتبر المسلمون التوحيد مشعلاً للدين الإسلامي؛ بل لجميع الأديان الأصيلة.

إنّ التوحيد هو الإقرار والإذعان أيضاً بالوحي المُنزل على أنبياء نبي إسرائيل وعلى المسيح، الذين يشهد المسلمون بنبوُّتهم، فالوحي - وهو يشير إلى حقيقة وحدانية الله - يؤكد على الحقيقة نفسها التي جاءت في التعاليم المسيحية؛ وفقاً لما ورد في العهد القديم والجديد: (أنا مؤمن بالإله الواحد)، والتي نقرأها في القرآن: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/ 25).

وأنا كفردٍ مسلم أتعاطى مع هؤلاء الأنبياء كما يتعاطى معظم المسلمين، وأشعر بأنّ تلك الشخصيات تمثّل حقائق حيّة في العالم الإسلامي، مع كونها مقدَّسة في اليهودية والمسيحية، كما وأدرك جيِّداً أنّهم (الأنبياء) عندما يتحدّثون عن الإله فإنّهم لا يتحدّثون إلّا عن ذلك الإله الواحد، الذي نشترك معهم في الاعتقاد به.

إنّ الله ليس بمذكِّر ولا مؤنَّث، وإنْ كنا نلمَح في بعض النصوص والمقطوعات الباطنية الإسلامية الإشارة إليه على نحو التأنيث، إذ يرمزون له بالمحبوب، كما ونلمح في مواضع أخرى الإشارة إليه بلفظٍ مذكر كما في الرازق والخالق، فالذكر والأنثى من مخلوقاته عزّوجلّ، ولابدّ من استشراف أصول خلْقِهما في ذاته المقدَّسة، تلك الذات المتعالية من هذين المخلوقين. وعموماً فإنّ صفاتِ الله التي تتجلّى في الخَلق - وهي غير ذاته - تشتمل على ماهيات المؤنّث والمذكّر، وإنّ تصوّر الإسلام عن الألوهيّة لا يقارب فكرة الأبوّة الموجودة في المسيحية، كما قد يظن البعض.

إنّ القرآن الكريم وهو عين كلام الله في نظر المسلمين والدستور الإلهي لم يكتفِ بذكر لفظ الجلالة (الله)، وإنما ذَكر أسماء حُسنى أخرى يكشف كلّ واحد منها عن بُعد وسياق من سياقات صفات الألوهية المختلفة. ووفقاً للمصادر القديمة، فإنّ عدد تلك الأسماء يصل إلى تسعةٍ وتسعين اسماً.

هذا وقد تمّ تقسيم تلك الأسماء إلى ثلاثة أقسام:

1- أسماء الكمال.

2- أسماء الجلال.

3- أسماء الجمال.

يرتبط القسم الأوّل منها بالتوحيد الذاتي، حيث تُعنى تلك الأسماء بتنزيه الله عن كلّ نقص وكثرة، فيما يرتبط القسمان الآخران بأبعاد حقيقة الذكر والأنثى في النظام الإلهي.

ومن أسماء الجلال العادل والجليل والحسيب والمميت والناصر والجبّار، ومن أسماء الجمال الرحيم والغفّار والحليم والكريم والجميل والوَدود.

إنّ المسلمين يدركون مدى تجلّي تلك الأسماء في عالم الوجود وارتباطها بحياة الإنسان، وأنّ ما يحصل من تناقضات وتجاذبات في حياة البشر، هو بفعل التناغم بين الصفات الكونية والإنسانية والتي تُستلهم بدورها من تلك الأسماء. ففي الوقت الذي يحاسبنا الله فيه على أساس عدله، ويعفو عنّا طبقاً لرحمته، فهو فوق ما نتصوّر ونتوهَّم، لكنّه في قلوب المؤمنين. وهو يحاسب المسيئين، لكنّه في الوقت نفسه يحبّ مخلوقاتِه ويعفو عنهم.

إنّ الاعتقاد بوحدانية الله على أساس الآيات القرآنية مسألة لم تؤكّد على الله تعالى محضاً، - وإن وُجدت بعضُ التعابير التي تُثبت ذلك مثل (الله أكبر) - لكنّ مفهومها يرجع إلى أنّ الله أكبر من كلّ شيء يمكن تصوّره، الأمر الذي جاء في تعاليم الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية، وتعاليم اليهودية أيضاً، كذلك يؤكد القرآن على جانب القرب الإلهي منّا ويصفه بأنّه أقرب إلينا منا، وهو موجود في كلّ مكان: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة/ 115).

إنّ الحياة الدينية للفرد المسلم تتحرك على خطّ موزون بين التنزيه والتشبيه والشدة واللين، والعدالة والرحمة، بين الخوف من العقاب والرجاء في العفو والثواب.

أمّا كثرة الأسماء والصفات الإلهية المنقوشة في الآيات الآفاقية والأنفسية فهي علامات تربط المسلمين بحقيقة الواحدة الجبار، وتجعلهم لا يغفلون عنه لحظة واحدة، كالشمس التي ينكفئ عند نورها جميع أنواع الكثرات. إنّ السعي لأجل تحقُّق مثل هكذا توحيد يمثّل محوراً للحياة الإسلامية. وإنّ معيار التوفيق الديني مرتبطٌ بمدى تحقُّق ذلك التوحيد.

إنّ الدِّين الإسلامي ليس كالمسيحية التي تضع مرجعاً روحياً يقوم بتحديد إيمان الفرد، كما يحدث في الكنيسة الكاثوليكية الرومية، بل إنّ إيمان الفرد المسلم يرتبط بحجم شهادته بالتوحيد ويتعلّق بمراتب الإيمان، فليس من حقِّ أحد - سوى الله - أن يُخرج أحداً من الإيمان أو يُدخله فيه، هذه القاعدة عامّة في الإسلام، مع وجود حالات شاذّة في التاريخ من قَبيل مجموعات أو تيارات دينية سياسية أعطت لنفسها الحقّ في إبداء الرأي والنظر في أصل إيمان أفراد معيَّنين أو مذهبٍ خاص.

هذا والتاريخ الإسلامي شاهِدٌ على وجود الحرّية في اعتناق العقائد المختلفة، وخصوصاً العقائد الباطنية والعرفانية، أكثر من وجودها في الدِّين المسيحي قبل سيطرة التيار التنويري عليه.

وبما أنّ الدِّين الإسلامي يؤكد على حقيقة الله الواحد في مقام الذات، يخاطب الإنسان أيضاً انطلاقاً من حقيقته الذاتية، فلا يعتبر الإسلامُ الإنسانَ تلك الكلمة التي تعادل (MAN) في الإنكليزية و(HOMO) في اليونانية، - والتي تُطلَق على المذكَّر والمؤنَّث على حدٍّ سواء - إذ لا يعتبره موجوداً عاصياً ومذنباً حتى تكون الرسالة التي وصلت من السماء وَصْفةً يُكفِّر فيها عن سيِّئاته ومعاصيه، بل ينظر إليه بوصفه موجوداً فطرياً مهمّاً احتجبت وتلوثت تلك الفطرة فيه نتيجة الغفلة والنسيان والذنوب: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/ 4). إنّ المخاطَب الحقيقي لرسالة الإسلام هو الفطرة، وهذه الرسالة بمثابة الدعوة لاستذكار المعرفة المغروسة في جوهر وجودنا، حتى قبل أن نضعَ أقدامنا في هذا العالم.

وهذا الكلام ليس جزافاً، بل إنّ القرآن الكريم في مَعرض وصفِ العلاقة بين الله والإنسان يشير إلى الحوار الذي جرى قبل وجود عالم الدنيا بين الخالق والمخلوق بقوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) (الأعراف/ 172).

فالضمير (واو) في (قالوا) مرجعه إلى بني آدم كلِّهم من ذكر وأنثى، والجواب (بلى) تأييد على إقرارنا - منذ نشوء حقيقتنا التكوينية الأزلية - بتوحيد الله، ولا يزال الناس، من ذكر وأنثى، يتحسسون ذكرى تلك الشهادة، ويشعرون بها في أعماق نفوسهم، وخطاب الإسلام لتلك الفطرة الأزلية في محلِّه، بعد أن لبَّت نداء الله بالإقرار والشهادة على توحيده سبحانه.

من هنا، دعانا الإسلامُ وقبل كلّ شيء إلى استحضار تلك المعرفة المغروسة في أعماق نفوسنا، وبسبب أهمية تلك المعرفة في رسم السعادة الإنسانية فإنّ الإسلام خاطب الإنسان بوصفِه صاحبَ عقل لا صاحب إرادة فقط، فإذا كان التمرد على الله وهو الذنب الأكبر عند المسيحية ناشئاً من الإرادة، فإنّ الغفلة تُشكّل الذنبَ الأكبر في الإسلام، والتي تكون نتيجتُها عدمَ قدرة العقل على تشخيص الطريق الذي رسمه الله للناس، ولأجل ذلك، فإنّ الشرك من أعظم الذنوب التي لا تُغفر، وهو بعبارة أخرى يساوي إنكار التوحيد.

إنّ الغرضَ من الخطاب الإلهي لمخلوقاته في ذاك المقام الأزلي هو إحكام الحُجَّة بالتسليم المحضِ لله عزّوجلّ، فالمضمون القريب لهذا الخطاب هو الحكاية عن التسليم لله، أمّا مضمونه البعيد، فهو عبارة عن التنبيه والتعريف بحقيقة وجودنا، وأنّنا نَفنى مقابله جلّ وعلا: (كُلُّ مَن عَلَيْها فَانٍ) (الرحمن/ 26).

وكلمة الإسلام نفسها تتضمن تلك الحقيقة، لأنّ الإسلامَ يعني التسليم والإذعان الحقيقييَّن للعزيز المتعال، والتسليم الحقيقي هو التسليم لله بكلِّ وجودنا، لا التسليم على مستوى الإرادة فقط، فإذا لم نُحِطْ بدائرة هذا التسليم فسوف نقع في مطبَّاتِ مخالفَة الشريعة والتعاليم الإلهية، في حين أنّنا ندّعي أنّنا في دائرة التسليم.

في الحقيقة، إنّ الدِّين الإسلامي وبوذا (إذا اعتبرنا أنّ بوذا اسم اُخذ من (Budd) بمعنى العقل والحكمة الإلهية، لا بمعنى (Buddha) من الأديان الكبيرة التي لم ترتبط بشخص أو قوم معينين، بل اتسمت هاتان الديانتان بالشمولية والسّعة، على مستوى طرح المفاهيم والأفكار).

والحاصل: إنّ الدين الإسلامي يؤكد على أنّ الأديان الأخرى لابدّ أن تتكئ على هذا المفهوم من التسليم، على نحوٍ لا يُفهم من كلمة (الإسلام) فقط الدِّين الذي نزل على النبيّ محمّد (ص) عن طريق القرآن، بل إنّ الأديان جميعها تتصف بهذه الحالة وهذا المعنى، وعلى هذا سمى القرآن نبي الله إبراهيم (ع) مُسلِماً: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران/ 67). إنّ التسليم الحقيقي لابدّ أن يكون بكلّ وجودنا، وليس فقط بإرادتنا.

إذن، لابدّ للإنسان أن يكون عبداً حقيقياً لله، يأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه، فنِعْمَتا العقل والاختيار الممنحوتان له تحتِّمان عليه أن ينصاع ويسلم لله تمام الانصياع والتسليم، وإلّا، فليس بعيداً أن يؤدّي عدمُ ذلك إلى تبنّي أفكار ورؤى باسم الدِّين تكون سبباً في اقتراف بعض الأعمال التي تأتي من ورائها المصائب، وشواهد تلك الأعمال واضحة في الماضي والحاضر، إنّ القاعدة الحاكمة في حياة المسلمين على طول الخطّ، هي التسليم لله بتمام الوجود والاستقامة على شريعته، والالتزام بالتعاليم الأخلاقية الدينية، والرضا بالقضاء والقدر، وتعبير (المكتوب) الاصطلاح الشائع في لسان العرب يعني التسليم للحوادث والوقائع الناتجة عن أعمالنا.

ولاشك في أنّ هذا التسليم ليس ضرباً من ضروب الجَبر، ولا قناعةً فردية اشتُقّت من المفاهيم الإلهية، بل - على العكس من ذلك - إنّه يحصل نتيجة السعي الباطني والظاهري مع الرضا والسكون بما قدَّر الله وقضى. وهو من ملامح الحياة الإسلامية في مقابل المَدِّ الأصولي والتيار التجديدي في الإسلام.►

 

المصدر: كتاب قلب الإسلام.. قيم خالدة من أجل الإنسانية

ارسال التعليق

Top