• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العقل وقواه الادراكية وعلاقته بالحواس

د. راجح الكردي

العقل وقواه الادراكية وعلاقته بالحواس

أ‌- مفهوم العقل وقواه الإدراكية بين القرآن والفلسفة

1- العقل وقواه الإدراكية في النظرة الفلسفية:
يغلب على النظرة الفلسفية اعتبار العقل جزءاً من النفس، تسميها النفس الناطقة، كإحدى قوتي النفس الناطقة، وتقابل قوة النفس الحاسة. ومن ثم اصطبغ مفهوم العقل بنظرتهم إلى النفس..
أ- فالمذاهب الحسية تنظر إلى النفس نظرة مادية إذ هي جسمية ومن ثم فإنّ نظرتهم إلى العقل نظرة مادية فهو جسم وفعله جسمي كذلك، وأفكار العقل وإن كانت لا جسميات إلا أنّها أفعال الأجسام. والعقل في نظرة الفلسفة التجريبية الحديثة لدى جون لوك مثلا "عنصر أولى بسيط التكوين لا يتجزأ ولا يتحلل كما هو الشأن في الشيء المادي". إلا عند الموت. وهو في معناه أحد قسمي التجربة الحسية، إذ إنّ المعرفة عنده حسية، أو تجريبية والتجربة نوعان: تجربة حسية تعتمد على الإحساس وتقوم على تقديم الانطباعات الحسية للعقل، الذي يشبه الصفحة البيضاء. وتجربة باطنية أو هي التأمل العقلي الذي يعتمد على التفكير العقلي، الذي يربط هذه الإحساسات ويكون عنها الأفكار. وهنا نلاحظ أنّ المذاهب الحسية تجعل من العقل عضواً مادياً هو الدماغ، الذي يستقبل الآثار الحسية ويقوم بدوره المادي في المعرفة كإنعكاس لأثر الواقع. إذ الفكر عندها انعكاس الواقع المادي على الدماغ وأنّ الفكر ثمرة الدماغ والدماغ هو عضو الفكر كما تقول الماركسية.

ب-  أما المذاهب العقلية: فإنّها تنظر إليه على أنّه جوهره فمثالية أفلاطون تنظر إلى النفس على أنّها من طبيعة عالم العقل أو عالم المثل المفارق للمادة. وهي روحية تدرك الروحيات أي فيها قوة إدراك وهي بحلولها في البدن اجتمع إليها قوة الشهوة والغضب. والنفس هي واحدة وهذه قواها، وهي بسيطة. وعلى ذلك فالعقل طبيعته مفارقة ومن عالم المثل. وهو ليس بحاجة إلى المادة بل البدن كمادة يعوق تعقله، وسعادته بتعقل عالم المثل. فالبدن عائق له عن هذه السعادة. والمحسوسات إنما تذكر العقل بعالم المثل أو بالحقائق في العالم العقلي التي هي الحقيقة، والمحسوسات إنما هي ظلال وأشباح لتلك الحقائق العقلية المفارقة الصرفة.
كما أنّ أرسطو حارب الماديين في اعتبار العقل نوعاً من الحواس وحارب في الوقت نفسه اقتصار فهم العقل على أنّه قوة مفارقة، وطبق عليه مبدأه في القوة والفعل، فكان عنده قوة للنفس التي عرفها بأنّها "كمال أول لجسم طبيعي آلي" بل هو النفس الناطقة أي النفس من جهة ما تعقل. ويفرق أرسطو بين عقلين: العقل الهيولاني الذي هو بالقوة أو المنفعل أو مجرد الاستعداد الذي يمكن الإنسان من إدراك معاني الأشياء وصورها. والعقل الفعال الذي ينتزع هذه المعاني أو الصور. والعقل المنفعل أو الهيولاني في نظره، كذلك هو جزء النفس الذي يتشكل بالصور العقلية ويقبلها، ويخرجه من القوة إلى الفعل بتأثير العقل الفعال، وعلى ذلك فالعقل عند أرسطو قوة صرفة، ومفارق لكل عضو روحي بقسميه للتفعل والفعال، وإن كان يعترف بالتجربة وأنّ المعقولات للعقل موجودة بالقوة في الصور المحسوسة غير مفارقة وأنّه لا يمكن التعلم أو الفهم من غير الإحساس. والعقل عند ديكارت هو الذي يقف وراء المعرفة ذلك أنّ النفس متحدة بالبدن ولكنها ليست متجزئة منقسمة كتجزئه وانقسامه. ومن ثم فمع اتحادها به هي غير له. وهي لا تتلقى الأثر مباشرة من أجزاء البدن بل تتلقاه من المخ، إذ إنّ أصغر أجزاء المخ الذي تعمل فيه والتي يسمونها الحس المشترك. وديكارت هنا يرى أنّ الجسم متصل بالنفس اتصالاً مباشراً عن طريق جزء واحد من الجسم هو الغدة الصنوبرية، والإحساسات تنتقل من الأعصاب إلى هذا الجزء من المخ الذي تجيء منه وتنتهي إليه هذه الأعصاب وتبعث الحركة كي تجعل النفس تحس.

ج- أما فلاسفة المسلمين: فقد ساروا كذلك على النهج الفلسفي في اعتبار العقل جزء من النفس المدركة.
فقد جعله ابن سينا العقل النظري في الإدراك الذي يقابل العقل العملي في الأخلاق وظيفة للروح الإنسانية، بناء على أنّ الإنسان مزدوج في طبيعته فهو جسم وروح، فقال: "الروح الإنسانية: هي التي تتمكن من تصور المعنى بحده وحقيقته منفوضاً عنه اللواحق الغربية مأخوذاً من حيث يشترك فيه الكثير. وذلك بقوة تسمى العقل النظري وهذه الروح كمرآة وهذا العقل النظري كصقالها". وفلاسفة المسلمين كما هو معروف يبنون نظرتهم للعقل على نظرتهم للنفس وكيفية خلقها، فهو فيضي إشراقي عند الفارابي وابن سينا وقائم على نظرية الاتصال كما عند ابن رشد.

2- العقل في القرآن الكريم:
لقد أخطأت الفلسفة عموماً في فهم العقل، حيث قررت أن تبحث في مكان المعرفة العقلية أهي في العقل أو لا؟ وأين موضع هذا العقل هل هو المخ أو الدماغ؟ وهذا الخطأ مترتب على تعريفهم للنفس وعلى القول بجوهرية العقل سواء كان مفارقاً أو متصلاً بالبدن أيما الاتصال.
والقرآن في نظرته للمعرفة العقلية، أو للمعرفة الإنسانية المميزة للإنسان عن الإدراك الغريزي في الحيوان، لا يجعل العقل جوهراً بل يجعله عرضاً أو صفةً مميزةً للإنسان ذلك أنّ الإدراك وظيفة الروح سواء كان الإدراك عقلياً أو حسياً، ولا يمكن حصر الإدراك بصورة دقيقة في جزء معين دون غيره في الإنسان، لن الإنسان مخلوق من مادة وروح، وتعمل كينونته الإنسانية بشكل متكامل ومتناسق وبسر لا يعلمه إلا الله سبحانه. وإن كان لنا ثمة علم فلا يعدو أن يكون وصفاً لهذا الإدراك بحسب المدركات، المحسوسات والمعقولات. وبحسب ما بيّن القرآن من أوصاف وعمليات.
فالقرآن مثلاً لم يتحدث ولا في كلمة واحدة عن العقل بصيغة العقل وإنما ذكر التعقل أي الوظيفة أو العملية التي هي: تعقلون ويعقلون وعقلوه ونعقل، وقد ذكرت هذه الوظيفة للإنسان في القرآن في تسعة وأربعين موضوعاً، ولم يعن بها أبداً عضواً أو جوهراً اسمه العقل بل نجد أنّه لم يعز التعقل إلى عضو في الرأس وانما عزاه الى جهة أخرى سماها القلب وهي ليست طبعاً تلك الغدة الصنوبرية المادية وإنما هي الوظيفة المدركة فقال سبحانه: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) (الحج/46).
كما ذكر القرآن كذلك وظائف للعقل مثل: التذكر والتفكر والنظر والذكر والفقه والتدبر، لتدل كلها على ما يدل على التعقل، من وظائف للإنسان، بما هو إنسان مميز على سائر المخلوقات، ويقوم بدور القيادة والاستخلاف في هذا الوجود المحسوس أو في عالم الشهادة والحياة الدنيا.
كما ذكر القرآن أعضاء نسب إليها هذه الوظائف. كالقلب والفؤاد وذكر ألفاظاً تدل على حقيقة الإنسان كاللب، والحلم وتدل على أنّه فيه قوة رادعة، كالنهي والحجر. ومدح أولي الألباب وأولي النهي، وإن كانت الكلمتان تدلان على ما يتميز به الإنسان على غيره، وعلى ما يطلقه جمهور الناس من وقار وهيبة وهيئة محمودة للإنسان، وعلى ما يحسنون اكتسابه من علم ينفع وعلى ما يدل على صحة الفطرة واستقامتها. ولا أظن أنّ نسبة التعقل والفقه إلى القلب، وجمع الفؤاد إلى البصر والسمع، يدل على نسبة مادية فيكون المقصود من القلب هو العضو المادي ومن الفؤاد هو وسط القلب كموضع مادي كذلك، بل إنّ لذلك توجيهاً مفاده أنّ القلب موضع أعمق الأفكار وأصدقها وأوثقها، ودلالة على المعرفة العميقة، ولاحتمال أنّ حركة القلب بالدم الذي ينبض يدل على الحياة، فترتبط المعرفة أو الإدراك أو عمل الكينونة الإنسانية بحياة القلب. وأنّ التعبير بالفؤاد الذي هو "وسط القلب وهو من القلب كالقلب من الصدر"، كما قال تعالى: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج/46)، إنما يدل على عمق المعرفة وأنها راجعة إلى حقيقة الإنسان المميز بها. أو كما قيل من أنّ مادة الفؤاد في اللغة تدور على حمى وشدة حرارة، إذ قالوا فأد اللحم فأداً: شواه فهو فئيد. ومنه الفؤاد لحرارته وتوقده. ويطلق على قلب كل حي ذي قلب إنسانا كان أو غيره وجمعه أفئدة. ولكن القرآن لم يستعمله إلا في الإنسان في مواضعه الستة عشر التي ذكره فيها، ومن ثم جمع الله بينه وبين السمع والبصر لما فيه من الحرارة والحركة أو التوقد الذي يجعل هذه الحواس تعمل، فتؤدي مهمتها معه في الإدراك، ولذا فقد جاء الجمع بين الحواس والفؤاد في القرآن في معرض الامتنان بالنعمة المذكرة لنا بأنّ الله سبحانه هو الواهب لنا ما يميزنا عن سائر الحيوانات فقال سبحانه: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل/78).
أما المتكلمون، فقد كانوا أكثر حيطة في معنى العقل إذ عرفوه بأنّه مناط التكليف. وفسر الأشعري مناط التكليف بأنّه العلم ببعض الضروريات. كما عرفه القاضي: بأنّه العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات ومجاري العادات أما الرازي فقد فسره بأنّه صفة غريزية يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات. فاعتباره عندهم صفة أو ميزة غريزية فيه ابتعاد عن اعتباره عضواً أو تسميته جوهراً. إلا ما كان من متأخريهم إذ سموه بالجوهر وإن شرحوا مقصودهم بالجوهر فقال السيد الجرجاني عنه أنّه "موجود ممكن ليس جسماً ولا حالاً في جسم ولا جزءاً منه بل هو جوهر مجرد في ذاته مستغن عن الآلات الجسمانية".
نعود فنقرر أنّ القرآن حينما تحدث عن المعرفة العقلية لم يكن يعنيه أن يعطينا نظرية في العقل، وإنما همه أن يعطينا العقل من جهة وظيفة الإنسان العقلية أو القلبية، أو حتى نكون من أولي الألباب وأولي النهي. ولذلك فإذا ما جئنا لوظائف الإنسان بصفته مفكراً وعاقلاً ومنوطاً به وظيفة الاستخلاف في الأرض، وجدنا أنّنا إذا عبرنا عنها باستعمال العقل فإنّها لا تنحصر في العقل الذي هو مناط التكليف، وإنما تتجاوزه إلى العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب القرآني كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة.
فمن دعوة القرآن إلى التعقل عامة قوله سبحانه:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة/164).
(وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت/43).
ومن خطابه إلى التعقل بمعنى أن يكون للإنسان عقل وازع يردعه عن الشر: قوله سبحانه: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك/10).
(وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الأنعام/151).
ومن خطاب القرآن الذي يريد به وظيفة الادراك قوله سبحانه:
(وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ) (آل عمران/7).
أما خطابه الذي يريد به التعقل بمعنى التفكير والاستنتاج، فقد ورد بعبارات التفكر والفكر والنظر والبصر والتدبر والفقه والذكر والعلم وسائر العمليات الذهنية ذلك قوله سبحانه: (هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (الأنعام/50).

ب- علاقة العقل بالحواس بين القرآن والفلسفة
وعلى ضوء مفهوم العقل وطبيعته، يمكن بيان الاختلاف بين القرآن والفلسفة في علاقة العقل بالحواس:
1- فالمذهب الحسي التجريبي: يجعل العقل نوعاً من الحواس كما في الاتجاه القديم، ويجعله انعكاسا أو أثراً للمادة، كما في الاتجاه الجديد. وعلى ذلك فانّ الأهمية إنما هي للحواس والتجربة، والعقل جزء من هذه التجربة الحسية، ومعنى من معانيها. وترجع عمليات العقل إلى تداعي المعاني القائمة على الآثار الحسية في التجربة. ولعل نظرية الظاهرة الثانوية تتفق مع هذا المذهب. تلك النظرية التي مفادها أنّ العلاقة بين الذهن والجسم أو بين العقل والحواس علاقة سببية، غير أنّ هذه السببية ليست متبادلة بينهما، وإنما يكون التأثير فيها من جانب فحسب، أي أنّ الحواس تؤثر في العقل أو التغيرات الجسمية تؤدي إلى حدوث تغيرات ذهنية. ومن ثم فليس النشاط العقلي إلا نتاجاً ثانوياً لعملية فيزيائية أو حسية بحتة.
2- أما العقليون: فيقدمون العقل على الحس وإن كانوا يعترفون بأنّ الحس يقدم صورة عن العالم الخارجي ولكن هذه الصورة لا قيمة لها عند أفلاطون أكثر من أنّها تذكرنا بمثالها في العالم العقلي والحواس، فالعلاقة علاقة مصاحبة وليست علاقة تأثير، ولكن يتميز العقل بأنّه هو الإدراك السليم، ذو المعرفة الواضحة المتميزة بينما تتميز الحواس بإدراك غامض ومبهم.
ويرى أرسطو كما تبعه في ذلك فلاسفة المسلمين: أنّ العلاقة بين العقل والحواس تقوم على التأثير المتبادل فالحواس تقدم للعقل صوراً عن الأشياء من خلال الحواس الظاهرة والباطنة، ويقوم العقل بتجريد وانتزاع الصور العقلية من معطيات الحواس بإشراق العقل الفعال عند ابن سينا والفارابي، وباتصال العقل الفعال بالعقل الهيولاني عند ابن رشد. والفكرة قائمة على نظرية اتحاد النفس بالبدن، فالعقل والحواس متحدان كذلك ومن ثم فإننا لا نستطيع التفكير دون صورة حسية، كما أنّ الإحساسات تبقى متفرقة دونما عقل يجمعها ويجرد منها الصورة العقلية.
3- أما القرآن الكريم: فإنّه ينظر إلى أنّ ثمة علاقة واضحة بين العقل والحواس، إذ إنهما مشمولان بطبيعة الإنسان المزدوجة، المادية والروحية المخلوقة لله سبحانه والتي تحيا بقدرة الله وتؤدي دورها المعرفي بما آتاها من استعدادات وطاقات.
والعلاقة بين العقل والحواس في القرآن تقوم:
أ- على عدم الاقتصار على كل واحد منهما بعينه، وعدم تفسير الآخر به، فلا الحس عقلاً، ولا العقل حساً، وإنما كلاهما مخلوق لله في طبيعة الإنسان المخلوقة لله سبحانه، والمشمولة برعايته وعنايته.
ب- يجتمع على الحس والعقل معاً، فالحس ليس طريقاً وحيداً، كما أنّه ليس طريقاً مستقلاً، وإنما تعمل الحواس والعقل معاً. كما يقول الله سبحانه: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/36).
ج- الحواس والعقل معاً في مجال المحسوسات فحسب، وإن كان العقل منفرداً بقوانينه في معرفة ما وراء عالم الشهادة. وفي مجال عالم الحس تنتهي المعرفة الحسية أو التجريبية أو العملية القائمة على الملاحظة والتجربة إلى معرفة عقلية. وهذا يعني أنّ الحس بإدراكاته لا معنى له إلا بالعقل، وليس هذا إلغاء للحواس ولا لدورها في المعرفة. أما كيفية انتهاء المعرفة الحسية إلى معرفة عقلية أو كيفية العلاقة بين الحواس والعقل، فلا يدخل في نطاق مهمة القرآن ومنهجه في إثارة القضايا، إذ إنّه ليس كتاباً لعلم النفس أو الفيزياء أو التشريح. وإن كان لا يرتضي النظريات الفلسفية التجريبية والعقلية المتطرفة ولا تؤدي إلى تصوره النزعة النقدية ذلك أنّها وإن اعترفت بالعلاقة بين الحس والعقل معاً إلا أنّها حصرت دور العقل النظري في الظواهر الحسية. بينما جعل القرآن لهذا العقل قدرة الاستدلال على وجود عالم الغيب من خلال قوانينه في عالم الشهادة سواء بالنظر إلى المحسوسات وتحويل هذا الإدراك الحسي إلى إدراك عقلي (حس وعقل معاً) أو باستدلاله بالقوانين العقلية التي ليس منشؤها الحس أو لا تتعامل مع الحس وإنما بالاستنتاج أو الفكر.
يقول الله سبحانه:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) (الأنعام/46).
ففي هذه الآيات اعتبار بطريقين هما الحس والعقل معاً كما نقل الرازي قولاً في تخصيص القلب والسمع بالختم مقالة: "قالوا وإنما خص القلب والسمع والبصر بذلك لأنّ الأدلة السمعية لا تستفاد إلا من جهة السمع والأدلة العقلية لا تستفاد إلا من جانب القلب".

 المصدر: كتاب نظرية المعرفة بين القرآن والسنة

ارسال التعليق

Top