• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المعطيات النفسية للتوقيت

علي محمد كوراني

المعطيات النفسية للتوقيت
◄الالتزام:

الالتزام بمعنى الجدية والانتظام في السلوك يكاد يكون غريزة في ضمير الإنسان كما هو غريزة في ضمير هذا الكون المنظم.

إنّ من الطبيعي للإنسان حينما ينظر إلى ما حوله فيرى كلّ شيء ملتزماً، أن ينزع إلى الالتزام.

السماء بأجرامها ملتزمة بحركة منظمة، والمياه بجريانها وتبخرها وعودتها ملتزمة بنظام، والحيوان ملتزم بأنظمته التكوينية والغريزية، بل الذرة الواحدة من الوجود ملتزمة في حركات أجزائها ونواتها بنظام جادة في أداء مهمتها. والإنسان نفسه ملتزم في تكوينه الجسدي بأدق الأنظمة وأكملها.. فلمَ لا يكون ملتزماً في سلوكه بنظام، جاداً إلى هدف، ملتئماً مع مسيرة الطبيعة السعيدة المنتظمة.

إنّ نفس الإنسان لا تطمئن إلى السلوك الفوضوي العابث ولا تستقر إلا بالانتظام مع موكب الوجود متحركة فيما خلقت له وهديت إليه..

أما ثورة الجيل الجديد على كلّ التزام وانتظام فهي ليست في عقيدتي خروجاً على (مبدأ) الالتزام. وإنما هي ثورة في البحث عن الالتزام نافع بدل ألوان الالتزام القائمة في العالم.

إنّ السبب الحقيقي في تيار الفوضى والعبث الوجودي والهيبي الذي يجتاح العالم هو شعور هؤلاء (الثوار) بأنّ التزام الناس بشكل الحياة المعاش هو التزام فارغ.. فلماذا يقيد الإنسان نفسه بقوانين؟ ولماذا ينتظم في عمل يومي مضن؟ ولماذا.. ولماذا؟ أليس كلّ ذلك من أجل أن يعيش الإنسان سعيداً هانئاً، فلماذا لا يعيش سعيداً هانئاً على الأعشاب وتحت الشمس ومع الجنس زرافات ووحداناً؟.. من يقول إنّ شكل الحياة القائم المعقد الباهظ هو أكثر هناءة من شكلها الحر الطليق؟ هذا هو لب منطق هؤلاء (الثوار) سواء استطاعوا أن يعبروا عنه بهذا الوضوح أو عجزوا.

إنّ هؤلاء الخوارج على الالتزامات غير المجدية في نظرهم ما هم إلا باحثين عن (التزام) طبيعي مبسَّطٍ مجدٍ، وليس فرقهم عن غيرهم من الباحثين إلا أنّهم رفضوا اللون الخاطىء من الالتزام وسرحوا في لون من السلوك قبل أن يعثروا على الالتزام الصحيح...

ولابدّ أن تنتهي هذه الموجات الباحثة إلى التجاوب مع الطبيعة فتتبنى ألواناً من الالتزامات الميسرة وغير الميسرة تبعاً للظروف التي تحيط بها والفلسفات التي تنمو في أوساطها.

مهما يكن من أمر فإنّ الالتزام والانتظام في السلوك هو نداء الفطرة في عمق الإنسان ونداء الحياة من حوله.. ولذلك لبّى التشريع الإسلامي هذا النداء ووضع للإنسان صيغة الالتزام اليومي محددة بفرائض يؤديها آناء نهاره وأطراف ليله.. الأمر الذي يعطي النفس البشرية استقراراً بانظباطها في مسيرتها انظباطاً يومياً، كما يعطيها انتظاماً مع ما حولها من الوجود انتظاماً واعياً متفتحاً متجاوباً مع هدفها الكبير، بعيداً عن انضباط التقاليد المبهم المملول، وعن انضباط (الحضارة) المجهد المعقد..

 

الاطمئنان:

من أصح ما وصفت به الحضارة القائمة أنّها: حضارة الرعب، فقد أبت هذه الحضارة مع كلّ منجزاتها المادية للناس إلا أن تنقل إلى نفوسهم مخاوف الحضارة اليونانية بأساطير شعبها وهرطقة فلاسفتها وفرية عداء الطبيعة للإنسان.. حتى لقد أصبح القلق النفسي مشكلة عالمية تبعث على الأسى حقّاً.

خذ إنساناً من حضارة القرن العشرين (وكذلك القرن الواحد والعشرين) وابحث عن لؤلؤة الاطمئنان في محارته فإنك غير واجدها.. إنك واجد نسخة شبيهة بإنسان حضارة الرومان واليونان الذي تتقاذفه الآلهة المجنونة من كلّ صوب ويأخذ بتلابيبه شبح القدر الأرعن، وأجد إنساناً يعيش العداء مع كلّ شيء فهو في عباب صاخب وفي غلاب دائم.. الناس في إحساسه أعداء ماكرون، والمستقبل في فهمه رعب مجهول لا يكشف عن نفسه ولا يبين، والموت فم فاغر لا يدري متى يطبق، والطبيعة عدو لدود بحرها وبردها وجميع ظواهرها..!

لقد أصبح أمل الإنسان في أن يسكن الكواكب البعيدة أملاً قريباً ولكن أمله في أن تطمئن نفسه بين جنبيه لازال أملاً بعيداً وغير معقول!

والنفس البشرية إن هي فقدت اطمئنانها إلى الوجود فليس إلّا الأعراض المخيفة تنتاب الشخصية البشرية وتهدد كيانها من عمقه كما أصبح الحال في المجتمع الحاضر.. فهل في الحياة ما يحل هذه المشكلة ويمنح هذه النفس القلقة قدراً من الطمأنينة؟

إنّه لا أقدر من الإسلام على إهداء اللؤلؤة المفقودة إلى الأنفس القلقة. يقوم الإسلام أوّلاً بتطمين الناس نظرياً فيقدم لهم مفهومه السعيد الفريد عن الوجود وعن موقعهم المطمئن فيه، وليس هذا مجال استعراض مدى الطمأنينة والموضوعية في مفهوم الإسلام هذا.

ثمّ يضع لهم فريضة الصلاة التي تجعل من الاطمئنان حقيقة يتعاملون معها في سلوكهم بعد أن استوعبوها في عقيدتهم..

ماذا أبلغ في تطمين النفس البشرية من أن تأوي في فترات نهارها إلى مليك الوجود عزّ وجلّ تتفيأ رعايته وحنانه وهداه وتستمد منه العون لحاضر أمرها ومقبله.

وللتوقيت الحكيم الذي اختاره الله سبحانه لفريضة الصلاة ارتباط واضح بدفعات الطمأنينة التي تحتاجها النفس كلّ يوم.. فما أن يرخي الليل أسداله على الأرض حتى يرتفع الأذان وتمتد يد الصلاة لتُطمئن الإنسان فتضعه بين يدي ربه وآماله مسلمة إيّاه إلى سكون مقصود..

وينهض الإنسان ليوم جديد فتوافيه الصلاة مبكرة تبارك له آماله وتبشره.. ويستغرق في العمل وملابسات الحياة فتعود اليد الرفيقة لتنتشله من حرصه ومخاوفه وتعيد إليه طمأنينته دافعة به إلى ارتياح من تعب النفس وتعب الجسم.

توقيت حكيم كتبه الله على الإنسان كي يجدد لنفسه إيمانها واطمئنانها كلما قطعت مرحلة من النهار، من أجل أن تبقى مفعمة بالهداية والسعادة، سائرة برعاية ربّها وهداه تجني لوجودها خير الحاضر المطمئن وفوز المستقبل المأمول..

(إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) (النساء/ 103).►

 

المصدر: كتاب فلسفة الصلاة

ارسال التعليق

Top