◄الخطاب السياسي:
الخطاب السياسي وتحديده من أهم مطالب الحياة السياسية، ومن دون وجود خطاب سياسي للأُمّة، وتحديد إطاره ومضمونه السياسي لا ينعقد الموقف والقرار، ولا يمكن تحديد الشعار السياسي (الذي لابدّ منه في أية عملية سياسية).
كذلك لا يمكن تقرير المصير، وتحديد نوع الحكم، والعلاقات السياسية، ومسائل المعارضة، والجهاد إلّا بتحديد الخطاب السياسي.
وهذا كلّه يتوقف على وجود خطاب سياسي للأُمّة وتحديد المضامين التي يتضمنه الخطاب، حتى الدستور يتوقف على الخطاب السياسي، ومن دونه لا يمكن تدوين الدستور. فإنّ الدستور ملتقى السياسة والقانون.
خطاب الأُمّة والخطاب الرسمي:
ونحن نقصد بـ(الخطاب السياسي) خطاب (الأُمّة)، وليس الخطاب (الرسمي)، فقد فَقَد الخطاب الرسمي في أكثر أقاليم العالم الإسلامي أهميته وقيمته السياسية، لكثرة الكذب والتمويه، ولكثرة المفارقات في الخطاب السياسي الرسمي.
إنّ الخطاب السياسي الحقّ، الذي له دور في صناعة الموقف والقرار، والمصير السياسي، والعلاقات السياسية، والدستور... يجب أن يكون متبنّىً من قبل الأُمّة، يعيه الجمهور، ويفهمه، ويتبنّى ما فيه، عندئذٍ يمتلك هذا الخطاب القوة والفاعلية في الحياة السياسية للأُمّة.
عناصر الخطاب الإسلامي:
ولابدّ أن يعكس الخطاب السياسي وحدة الأُمّة الإسلامية، (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/ 92)، ويعكس وحدة إرادتها السياسية. ولابدّ أن يعكس هذا الخطاب عزّة الأُمّة الإسلامية وعزة الإسلام، وهيبة الإسلام، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/ 8).
(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 139).
ويجب أن يتضمن الخطاب الإسلامي استعداد المسلمين للحوار الإيجابي المفتوح مع كلّ الدول والكيانات السياسية (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).
وهذه هي الصيغة العامة، والأصل الأوّل في العلاقات السياسية الإسلامية العالمية.
غير أنّ الحوار إذا لم ينفع علاج نقاط الخلاف بين المسلمين وخصومهم السياسيين، فـ(القوّة) هي (البديل)، يقول تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال/ 60)، وليس (الحوار) هو الأوّل والأخير، ولا بديل.
ولابدّ أن يتضمن الخطاب الإسلامي دعوة الإنسانية إلى كلمة التوحيد (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) (آل عمران/ 64).
فهي الكلمة الوحيدة القادرة على أن تجمع البشرية كلّها حول محور واحد.
ولابدّ أن يتضمن الخطاب الإسلامي المرحلية السياسية، والأولويات السياسية في علاقاتها الإيجابية والسلبية وفي مواقفها السياسية.
ولسنا الآن بصدد إحصاء النقاط والعناصر التي يجب أن يتضمنها ويعكسها الخطاب الإسلامي، وإنما نقول لابدّ من تحديد علمي ودقيق لعناصر الخطاب الإسلامي وتدوينه.
فإنّ الأُمّة بخطابها، فإذا فقدت الخطاب، فقدت الموقف والقرار.
توحيد الخطاب السياسي:
كما يجب أن يعكس الخطاب السياسي الأُمّة الإسلامية بكلّ شعوبها وأقاليمها، كذلك يجب أن تتبنى الأُمّة الإسلامية جميعاً هذا الخطاب، عندئذٍ يتحول هذا الخطاب إلى (رأي عام إسلامي)، ويتحوّل الرأي العام إلى قوة سياسية هائلة، وإلى موقف وقرار سياسي، ليس من نوع القرارات والمواقف التي تتخذها الأنظمة.
ومثل هذا القرار يحتاج إلى مقومات عديدة.
منها: الوعي السياسي للأُمّة، وليس وعي النخبة فقط، وإن كان وعي النخبة هو الأساس لوعي الأُمّة.
والخطاب الرسمي النابع من هذا الوعي يكون خطاباً على مستوى الأُمّة وحجمها، وليس خطاباً للدوائر المحدودة الضعيفة.
وهذا الخطاب بهذه الخصوصيات التي تحدثنا عنها من مكونات الرأي العام الإسلامي، والموقف والقرار الإسلاميان يتمخضان عن هذا الرأي العام.
إنّ توجيه الخطاب الإسلامي السياسي، عملية شاقة في الظروف الحاضرة المتجهة باتجاه التعدديات السياسية، في ظروف ينادي الجمع بـ(التعددية السياسية) في الخطاب والقرار... من الصعب جدّاً تحقيق توحيد الخطاب والقرار السياسيين للعالم الإسلامي.
ولكنه رغم كلّ الصعوبات، فهو مسؤولية كلّ العاملين الإسلاميين من مختلف المذاهب الإسلامية، الشاعرين بأهمية وحدة الخطاب السياسي للأُمّة الإسلامية.
فليس بوسعنا إطلاقاً أن نحوّل الخطاب الرسمي في العالم الإسلامي إلى خطاب إسلامي واحد بمستوى هذه الأُمّة وبحجمها العظيم. وليس بوسعنا أن نحوّل خطابنا الإسلامي إلى قوة سياسية إلّا إذا جمعنا عزمنا على توحيد الخطاب السياسي عبر كلّ المشاكل والعقبات.
الحوار والتفاهم:
لابدّ من الحوار والتفاهم في الساحة الإسلامية الكبيرة، وإذا عجزنا عن تحقيق الحد الأدنى من الحوار والتفاهم، فأنّ مصيرنا إلى الوقوع في دائرة نفوذ دول الاستكبار العالمي، لا محالة. وليس أمامنا خيارات كثيرة.
إنّ الحالة الإسلامية المتشتّتة اليوم لا تستطيع أن تنهض بوجه المشاريع الاستكبارية.
وليس لنا أمل معقول في الأنظمة – في الغالب – أن تنهض بهذا الدور في جمع الشمل الإسلامي، وإتاحة فرصة الحوار والتفاهم للوصول إلى القدر الممكن المعقول من التفاهم والمواقف والقرارات المشتركة.
إذاً لا خيار لنا عن اللقاءات الإسلامية على مستوى الجمهور، وعلى مستوى النخبة من العلماء والمثقفين.
وقد جعل الله تعالى في هذه اللقاءات خيراً كثيراً لهذه الأُمّة، تذيب الجليد المتراكم على العلاقات، وتفتح القلوب، وتكون سبباً لتراشد العقول، واللقاء، والقوّة... ويد الله على الجماعة، وحيث تكون يد الله تكون البصيرة والقوّة. ويد الله على الجماعة ومعها.
غير أنّ هذه الجماعة لا تتحقق في واقعنا الاجتماعي والسياسي، ولا تكتسب يد الله إلّا إذا كانت جماعة موجّهة وراشدة.
أمّا اللقاءات غير الراشدة وغير الموجهة، والجماعات الغوغائية، التي يجمعها الشعار، ويفرقها الشعار، من دون وعي ولا رشد، فليست هي الجماعات التي تكتسب معها وعليها يد الله تعالى.
إنّ علينا أن نعمل ما بوسعنا لتكثيف هذه العلاقات، داخل الساحة الإسلامية بين المسلمين والمؤمنين من اللقاءات المشتركة بين السنّة والشيعة، واللقاءات الهادفة الراشدة، داخل الساحة الشيعية، وفي الساحة السنّية، على مستوى الجمهور، وعلى مستوى النخبة من العلماء، والكتاب، والخطباء، والمثقفين، والأحزاب، والحركات والمنظّمات الإسلامية.
ولكلّ من هذين اللقاءين: (لقاء الجمهور ولقاء النخبة) نكهته الخاصة به، وتأثيره الخاص، في توعية الأُمّة وتثقيفها، ونحن نحتاج إلى كلّ منهما في ترشيد مواقفنا وقراراتنا السياسية وإسنادها.
المطاوعة:
وحيث لا يمكن الوصول بالتفاهم إلى قناعة مشتركة وقرار مشترك، فلابدّ من (المطاوعة). فإنّ الساحة الإسلامية لا تحتمل الانشطارات والتحالفات.
ولابدّ من توحيد الخطاب والموقف والقرار السياسي، بأي ثمن معقول، فإذا لم نتمكن في الساحة الإسلامية من الوصول إلى قناعة مشتركة، فلابدّ من المطاوعة لتحقيق هذه الغاية.
ولو كان المسلمون يتفقون على محور واحد في طاعة أولياء الأمور، كما يقرره الإسلام، أغنت (الطاعة) عن (المطاوعة)، وكانت الطاعة هي الأصل، ولكن إذا كان لا يمكن – لأي سبب كان – تحقيق هذه الطاعة في الساحة الإسلامية الكبرى، فالمطاوعة هي البديل عن (الطاعة)، و(التفاهم) للوصول إلى القناعات المشتركة.
ولكن لابدّ أن ننبه في هذا العنوان إلى ثلاث نقاط:
1- إنّ المطاوعة تصحّ عند اختلاف الرأي والاجتهاد في المسائل السياسية، وليس في الدين وأصوله وفروعه.
2- لابدّ أن تتحول (المطاوعة) إلى مبدأ من مبادئ العمل الجمعي، يؤمن به الجميع، ويعملون به جميعاً، ولا تكون المطاوعة من طرف واحد دائماً... فإنّ المطاوعة من طرف واحد هي التبعية السياسية ذاتها.
ونحن لا ندعوا إلى التبعية، وإنما ندعوا إلى المطاوعة، ولا نعتقد أنّ التبعية توحّد الخط السياسي الإسلامي والمواقف والقرارات الإسلامية.
3- ليست المطاوعة بديلاً اختيارياً عن (الطاعة) و(التفاهم)، ولا يركن إليها إلّا عندما تتعذر وحدة الطاعة، والوصول إلى قناعات مشتركة بالتفاهم، فهي بديل اضطراري لها، وليس بديلاً اختيارياً.
الطاعة:
يبقى الكثير من مشاريعنا السياسية، في الوحدة الإسلامية، ووحدة الموقف، والقرار السياسي، والقوة، والرأي العام الإسلامي، ووحدة الخطاب السياسي، وغيره... أقول: يبقى الكثير من مشاريعنا السياسية شعاراً وحبراً على ورق، وأمنيات، حتى يتحقّق في حياة المسلمين أصل (الطاعة لأولي الأمر).
يقول تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) (النساء/ 59).
والطاعة في الإسلام طاعتان:
· طاعة لله تعالى في شؤون التشريع.
· وطاعة لرسول الله و(أئمة المسلمين) (عليهم السلام).
والطاعة الثانية غير الطاعة الأولى.
ولرسول الله (ص) طاعتان:
· طاعة فيما يُبلّغ الله عن من الشريعة والأصول والأخلاق من الصلاة والصيام، وأحكام الأحوال الشخصية، وأحكام العقود، وما يشبه ذلك من ثوابت الإسلام في الأصول والفروع والأخلاق... وهي في الأصل طاعة لله تعالى حتى لو كان التبليغ بواسطة رسول الله (ص).
· والطاعة الثانية لرسول الله (ص)، وهي الطاعة في المتغيرات من الشؤون السياسية والإدارية التي كان يمارسها رسول الله (ص) في حياته، بالولاية على المسلمين.
وإلى هاتين الطاعتين تشير الآية الكريمة: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ).
العقلانية والموضوعية في القرار:
بين (القرار) و(الشعار) فرق، فما يطلب من القرار لا يطلب من الشعار، وما يطلب من الشعار لا يطلب من القرار.
الشعار يتضمن غالباً المبادئ، ويلحظ فيه عامل التحريك والتثوير والإعلام، ولابدّ منه في العمل السياسي، ولا غنى عنه.
ولكن لابدّ إلى جانب (الشعار) من (القرار).
وفي القرار لابدّ من ملاحظة الظروف الموضوعية التي تحيط بالقرار، والضواغط السياسية والاقتصادية الموجودة في الساحة، ولا يصح تجاوز هذه ولا تلك، ولا تجاوز الواقع السياسي القائم.
وليس معنى ذلك أنّنا في (القرار السياسي) و(الموقف السياسي) نتجاوز المبادئ السياسية التي تؤمن بها. فهذا أمر لا يجوز أن يحدث بحالٍ من الأحوال.
ولكن الظروف الموضوعية والقاهرة التي نعيشها تتطلب منا المرونة في تنفيذ المبادئ في حدود قدرة الساحة والظرف السياسي على استيعاب المبادئ، وترحيل المبادئ في مواضع التطبيق، والعمل ضمن منهج علمي موضوعي.
إنّ الساحة السياسية العالميّة والداخلية ساحة معقدة، تدخل مجموعة من العوامل في تكوين هذه الساحة وفي العملية السياسية لابدّ أن تؤخذ هذه العوامل القهرية والضاغطة بنظر الاعتبار.►
المصدر: كتاب التحديات المعاصرة ومشروع المواجهة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق