• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

النفع.. سنّة كونيّة

أسرة البلاغ

النفع.. سنّة كونيّة

الإضرار بالناس وإلحاق الأذى بهم، والعدوان عليهم، ليس خلاف المروءة فقط، بل ضدّ الطبع الإنساني السليم.. هو الخروج على الطبيعة الإنسانية السويّة.. وإلّا فالإضرار (إصابة الآخرين بالضرر) وإن كان خصلة أو طبع بشريّ، أو غريزة مودعة في أصل الخلقة، لكنّ الله أراد للناس أن يكون أقوى من قوّة الشرّ فيه.. أن يكون نافعاً يغلبُ خيرهُ شرّه، فلا ينجم أو يصدرُ عنه ضرر أو إضرار بالآخرين.. ولأنّه خالقه يعرفُ أنّه قادرٌ على ذلك.

هذه النصوص الشريفة تؤكِّد هذا المعنى:

"المُسلم": "مَن سلم المسلمون من يده ولسانه".

"المُؤمن": "الخيرُ منه مأمول والشرُّ منه مأمون".

إنّ كلَّ ما في الوجود مخلوقٌ لما أعدّه اللهُ له، أي ما من مخلوق أو كائن إنساني أو غير إنساني إلّا وأودع اللهُ تعالى فيه القابلية على (النفع) إذا لم يكن بطبعه (المادي) فبطبعه (المعنويّ).

الأسد، ملكُ الغابة، وهو من الحيوانات الوحشيّة المفترسة الضارية، لكنّ الأسد نافعٌ فيما يقدِّمه من دروس في مدرسته: فهو مُهابٌ لقوّته، وهو لا يأكل الجيف، أي أنّه أبيّ النفس لا تدعو نفسه على الفضلات، وهو شجاع لا يخاف عدوّاً، وهو لذلك يعرفُ قدرَ نفسه، وهو يدافعُ عن أسرته ويهيِّئ لها مستلزماتها، وهو لا يهاجمُ الإنسان إلّا إذا استفزّه.. إلى غير ذلك من الخصائص النافعة كدروس للإنسان الذي يُشبّه بالأسد بالنظر إلى هذه المعاني.

وبطبيعة الحال، فإنّ قدرة الإنسان على النفع – باعتباره أكمل وأكرم المخلوقات – هي الأوسع بين سائر الكائنات النافعة الأخرى، فهو "ثنائي النفع" أي أنّ نفعَهُ ماديّ ومعنويّ، فإذا لم يكن لديك شيء البتّة لتقدِّمه للناس، فقد تنفعهم في خُلق، أو كلمة طيّبة، أو كفّ الأذى والشرّ عنهم، يقول الشاعر وقد التفت إلى هذه النقطة:

وأسعدُ الناسِ عندَ اللهِ *** مَن ساعدَ الناسَ بفضلِ الجاهِ

حتّى "المجنون" نافع، وإن لم يقصد النفع، فقد تأخذ الحكمة من فمه حتى ولو لم ينتفع بها هو نفسه.. و"الطفل" هو الآخر نافع، وإن كان معتمداً على غيره في نفع نفسه.. هو نافع فيما أودع اللهُ فيه من البراءة والفطرة السليمة، ونقاءة السريرة، وطهارة الباطن.

نعم.. الناس يختلفون في (مستويات نفعهم)، فمنهم مَن ينفع بدرجة، ومنهم مَن ينفع بدرجات، لكنّك لا تجدُ إنساناً يخلو من النفع – المباشر أو غير المباشر – بالمرّة.

تلك هي مسألةُ النفع: (خيارات) وليست (تقريرات).

النفع (قوّة) مودعة فينا كالماء في باطن الأرض، والمطلوب منا أن نفجِّرها بالفعل، أي أن نحوّلها من (طاقة) إلى (حركة)، من (ذخيرة) إلى (عطاء).

دعونا نترجم هذا الفهم أو المفهوم بقصّة فلّاح عجوز خبرتهُ التجارب وعركتهُ الحياة:

تقولُ القصّة: إنّ الملك (كسرى أنوشيروان) مرَّ على فلّاح عجوز يغرس شجر الزيتون، فقال له: أيُّها الشيخ! ليس هذا أوان غرس الزيتون لأنّه شجر بطيء النماء والإثمار، وأنتَ شيخٌ هرم (أي قد لا تدركُ جني ثماره).

قال الفلّاح الهرم للملك المتسائل: أيُّها الملك! قد غرسَ مَنْ قبلنا فأكلنا.. ونغرس ليأكل مَن بعدنا!

زرعوا فأكلنا.. ونزرع فيأكلون.. هذه هي القاعدة التي ترتكز إليها طبيعة الإنسان النفّاع: لا ينتفع فقط، بل ينفع غيره أيضاً، وفي مرحلة متقدِّمة من مراحلُ رقيّه (ينفع وإن لم ينتفع)[1]، وما عداهُ من الذين يُلحقون الضرر بالآخرين فهم الشواذّ، والشواذّ ليس قاعدة، بل خروجٌ على القاعدة.. أي أنّهم خارج إطار الإنسانية الحقّة.. هم وحوش ضارية، بل هم أضلّ.

الهامش:



[1]- لا ينتفع من الناس، لكنّه ينتفع من الله.

ارسال التعليق

Top