• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

انهيار القيم في مواجهة مصالح السوق

كامل الهاشمي

انهيار القيم في مواجهة مصالح السوق

قال تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (الجمعة/ 11).

ستبقى قيم السوق في صراع دائم ومستمر مع قيم الدِّين والمسجد، وهي الإشكالية الدائمة التي عنى النص القرآني المبارك بالحديث عنها، معتبراً إيّاها ظاهرة يمكن أن تبرز في أكثر المجتمعات تحفّظاً وتديّناً، لأنّها تعكس طبيعة الصراع الدائم والمستمر الذي تعيشه النفس بين العقل والهوى.

ونجد في الأحاديث والنصوص الدينية حديثاً مسهباً عن اشتداد وتيرة التجاذب بين قيم المسجد ومصالح السوق في أحوال الناس في آخر الزمان، وسيفرز هذا الصراع ظواهر مستجدة تفرضها تطورات السوق وتغيرات القيم، فحينما يتحدّث الرسول الأكرم (ص) عن أوضاع ذاك الزمان، يقول لسلمان: "يا سلمان، وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة، ويكون المطر قيظاً، ويغيظ الكرام غيظاً، ويحتقر الرجل المعسر، فعندها يقارب الأسواق إذا قال هذا: لم أبع شيئاً، وقال هذا: لم أربح شيئاً، فلا ترى إلّا ذاماً لله. قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال: إي والذي نفسي بيده".

وهذه الهيمنة التي ستحظى بها السوق في إدارة وتوجيه حياة المجتمعات البشرية في عصرنا الراهن، ستعكس بطبيعة الحال هشاشة غير مسبوقة في قيم التسامح والمحبّة والإحساس بالحرمان الذي يعانيه ملايين البشر الآخرين. ومن هنا يستشرف (جاك أتالي) مستقبل السوق في القرن الحادي والعشرين بالقول: "سيشهد مطلع القرن المقبل انتصار هذا الإله الذي لا يخطئ، ثمّ سيزعم بعض اللأدريين بأنّه غير موجود، وأخيراً ستنشب حروب اقتصادية حين ترى النور أشكال جديدة من تنظيم المبادلات.

ستمتد سيطرة السوق، في البداية، على كلّ الكرة الأرضية، حيث ستقضي التخصصية على القطاعات العامّة، كما سيتيح السوق توزيع ندرة السلع المتنوعة من دون الوقوع تحت رحمة بيروقراطية فاسدة.

ثمّ ستمتد إلى مجالات هي اليوم ممنوعة عليه أو يصعب التفكير بإمكانية بلوغها؛ فالتربية والصحّة والعدل والشرطة والمواطنية والهوية والهواء والماء والدم والأعضاء المزروعة سيكون لها ثمن ما. وسيصبح المواطن والمريض والأُم والأب مستهلكين، أي أنّهم لن يقبلوا بإخضاع رغباتهم الفردية – إذا كانوا يملكون إمكانيات مالية لإشباعها – لحكم أكثرية قد لا تشاركهم فيها".

وبعبارة مختصرة - يقول أتالي -: "سيكون السوق الحكم في كلّ شيء"، نعم إنّه الإله القديم الجديد الذي سيعود بكلّ عنف ليثبت هيمنته في مواجهة كلّ القيم الإنسانية، وفي ذلك يقول الرسول الكريم (ص): "يا سلمان، فعندها لا يخشى الغني إلّا الفقر حتى أنّ السائل ليسأل فيما بين الجمعتين لا يصيب أحداً يضع في يده شيئاً، قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال (ص): إي والذي نفسي بيده".

وهو المعنى الذي يستعيد (أتالي) التأكيد عليه بعبارة حداثية تقول: "بالرغم من مظهر العصمة من الخطأ الذي يبدو عليه، وعلى الرغم من جميع الوعود التي يغدقها كهنته، فإنّ السوق لن يضمن العدالة ولا الإنصاف ولا الكرامة، ولا التربية ولا الغذاء ولا الرفاهية للجميع، ولا حتى العمالة الكاملة المطلقة لأنّه لا يحتاج إلى البشر سوى بصفتهم مستهلكين، ولا يهتم بمستقبلهم ولا بماضيهم، ولا بالطبيعة ولا بالأفكار إلّا من أجل بيعها".

 

المصدر: كتاب هشاشات القرن 21

تعليقات

  • أحمد

    للأسف نحن نعيش فعلاً في عصر الهشاشة وانهيار القيم.. وفقكم الله لكلّ خير

  • مسلم ما إنفك يعاني من اتباع الهوى

    وللصعوبة التي يلقاها المسلم من هواه في مقابل عقله المنحاز للمسجد في هذه المواجهة وصف الله تعالى مَن يعمّر المساجد بأنّهم (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) (النور/ 37)، ولهذا وغيره أيضاً وصف ترك الهوى بأنّه مفتاح للجنّة استدلالاً بقوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 40-41).

ارسال التعليق

Top