• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

بين القدوة والمسؤولية

بسيمة جهاد الأيوبي

بين القدوة والمسؤولية

يستيقظ الإنسان المتفكر كلّ صباح، فيرى بوارق ضوء أو إشراقة شمس ويسمع صياح ديك أو هدير آلة ويشمّ رائحة زهور أو روائح احتراق، ويتذوق طعم العسل أو مرارة الحنظل فيلمس لمس اليد أنّ الدنيا لا تصفو لأحد، ولا يرتاح فيها مخلوق حتى يمضي إلى جوار ربه.. فهو هناك في نعيم مقيم أو عذاب أليم. وقد لا يستيقظ المرء على كلّ ذلك، فتكون موتته الكبرى في موتته الصغرى، ولا ينتبهُ إلا إلى حياة البرزخ...

وهكذا تغدو الدنيا مفاجآت لا يتوقعها أحد. واللبيب اللبيب هو الذي يخرج منها ببراءته ونصاعته كما دخلها بريئاً ناصعاً. ولكن أنى له ذلك؟! كلّ الطرق التي يسير فيها الإنسان متشعّبة في كلّ الإتجاهات، وعلى كلّ سبيل شيطان يترصده أو عفريت ينتظره، ويتمثل هذا في أشكال مغرية وصور جذابة، تقول للمفتون: "أقبل أقبل.. اليّ اليّ" فإذا ما أتى ورمى نفسه على صدرها يلتمس الدفء والحنان، شعر بأنّ صدرها لهيب من مارج ودخان، ثمّ تعتصره – بغمرة الأم الرؤوم – بل بدوران الرّحى على الحبّ المطحون!!

عجيب أمر تلك الفتن ورهيب.. رهيب جدّاً وقاس في غاية القسوة ويذكرنا بحديث الصادق المصدوق (ص): "ستكون فتن كفظع الليل المظلم".

والأعجب إن كان المفتون المغرور غيرَ عاميّ جاهل أو أعرابيّ ذاهل... إن كان من أهل الوجوه المعروفة التي ترى نفسها من أهل الخير والبر والفلاح ويراها الناس قدوة يتمثلون بها في سلوكهم ومعاملاتهم.. إن كان المفتون داعياً إلى الله، أو عالماً بحفظ الأحاديث والآيات ويعلمها، أو رجلاً مطلقا للحيته دليل وقار ورزانة واتباعاً للسنة المباركة الكريمة. أو امرأة متجلببة بالخمار تحمل (مسبحة) طول الحبل تسبح بها وتحوقل وتكبّر وتدعو ربها ليلاً ونهاراً في ذكر طويل... أو مؤسسةً تحمل شعاراً للتعليم والتربية والبر والإحسان...

كلّ أولئك قد يحبون الخير الظاهر القريب ويميلون إلى العطاء والإحسان وفعل الخيرات فتشدهم كلمات مدح وإطراء فتنفتح الصدور والأوداج فتطير النفس مع النفس، ويتمثل الغاوي الخبيث يقول له: "إنفتح قد بلغت الجبال طولاً!" فيقيس الجبل على قامته، ويرى نفسه أعلى وأرقى، فيمشي في الأرض ليخرقها، ويجد ذاته مسمرة في التراب مشدودة إلى الأدنى، وهناك يقع التناقض، والعياذ بالله تعالى...

هذا رجل في عداد الدعاة من أهل الإعلام المعروف، رأيته في السوق ويده تتأبط غانية، قيل إنها مخطوبته، "وإذا بالطيور على أشكالها تقع" وكم أشفق عليه من ماله وأشفق على الدعوة من أمثاله!!!

وذلك رجل زاهد كان يلبس ثوب "الدَروشة" ويركب راحلة مهترئة، فلما لبس الجديد وركب الحديد المصفح شمخ بمنخره، وازورت مشيته، وتغيّرت طريقته، ونسي أبناء جلدته! وتلك مؤسسة قامت على أكتاف أناس شرفاء، استغلَّ أبالسة البشر سمعتهم وصدقهم وعلمهم، فلما نهضت المؤسسة استأثر بها مارد صفيق، لا علم له ولا فضل، فورث التركة، ويرغب أن يورثها في عداد أملاكه غير المنقولة، كما رغب أن يرث كلّ المؤسسات ويتحمل أعلى المسؤوليات!!!

وهاتيك قيمة على عمل تربويّ إيماني، تدّعي العمل الخالص لله، والرغبة في الأجر والمثوبة، ثمّ أراها – بدون حرج – تستقدم مربين بلا تربية ومعلمين بلا علم ومساعدين يحتاجون إلى مساعدة. وعندما تسألها عن تلك التدابير تجيبك أنّ الساحة فارغة، وأنّ أهل الالتزام عنها مدبرون.. ألم تفكر مرة واحدة: لماذا انفضّ عنها هؤلاء؟! هل تغيروا عن جادة الصواب، وبقيت وحدها لا نصير لها في معركة التحدي؟! لماذا ننحي باللائمة على الآخرين، ونتنصل من المسؤولية، ونقول: نحن وحدنا فأين غيرنا؟!...

ويعود الراغبُ في العفاف والكفاف، فيغمض عينيه حاسباً نفسه في حلم مزعج، ولكنه يرى الشمس مشرقة، ويسمع الهديل والهدير، فيدرك أنّ شيئاً ما يتغير في النفوس.. ويتلمس قلبه وهو يخاف أن يصبح في عداد الهالكين...

لو فكر الواحد من الناس متبصراً، وسأل نفسَهُ: لمن هذا المال المجموع، والقَدْرُ المرفوع، والكلامُ المسموع؟! إلى أين سينتهي بنا المطاف، وهل تدوم لذّة الدنيا لإنسان؟!... لو دامت لغيرنا ما وصلت إلينا، فإلى متى الغرور؟! وحتام يُصاب أهل الفكر بالبلادة، وأهل النظر بالعمى وأهل السمع بالصمم؟!... كلّ المال سيتحول إلى زيف، وكلّ القوة ستتحول إلى ضعف، وكلّ الفكر سينكشف عن رياءٍ وسمعةٍ، فيزول التراب عن الحجر الصلد ويبدو على حقيقته... وسينزل الجميع في حُفَرٍ ضيّقة: لا لباسَ عليهم إلا الكفن، ولا شيء يمنع عنهم التأكل، ولا نصير من السؤال، حين يجيء الملكان، فينطلق المرء بحقيقة الإيمان...

لو فكّر الشامخ المتغطرس كيف يُجدع أنفه وتأكله ديدان الأرض وديدان الجسد لما تكبر ولا تعجرف...

لو فكّر الوارثُ غيرُ الشرعي بميراثه الذي يبقى، وبأنّه يتحوّل عليه أوزاراً لما أكل الحرام ولا أطعم عياله من السُّحت الممنوع...

لو أنّ ذلك الذي يغرّ الناس بورعه الظاهر أدرك أنّه سيُبعث حافياً عارياً، لما تكلّف في مشيته وكلامه، بل آثر أن يخفي زهده، متمثلاً بكلام أمير المؤمنين عليّ (ع): "أفضل الزهد إخفاءُ الزُّهد!".

ذلك من باب التمني والرجاء، وإنّ أصعبَ شيءٍ على النصوح أن ينصح غيره وينسى نفسه. لذلك أخبر النبي المختار (ص) أنّ العلماء سيبعثون ويسألون عن علمهم، فيجيبُ واحدهم: قد علمت العلم وعلّمْت الناس، فيقال له: كذبت، بل علّمت ليقال إنك عالم"!!... ثمّ يُلقى به في نار جهنهم...

فيا أسفاً على النفس من يوم الهول، ويا حزناً على الناس كيف يذوقون لذة المدح والإطراء، والغنى والجاه، والتسامُع والرياء والمراء، ثمّ يذوقون بعد ذلك مرارة السؤال وسوءَ المنقلب!!... عليك أيها الداعية الكريم، والوجيه السموع المطاع أن تفكر كيف ستنقلبُ، وإلى أين؟!.. فالخوف من الله وأسُ العمل الصالح، والخوفُ من الله يوقّي مقتَهُ وغضبَهُ...

والخوف على الذات يجنّبها الزلات، ويجعلها تتقي وتخاف. وأعظم نصيحة يهديها الغيور على دينه إلى أهل التقوى والمغفرة أن يرتفعوا بأنفسهم إلى مستوى القدوة. فعمامة العلماء ستنقلب جمرة يغلي منها دماغهم إذا لم تجلّل رأس سيّد كريم يتعلّم العلم ويعلّمه ويعمل به... وأنت أيتها المخمَّرَةُ المُجلْبَبهُ، إعلمي أنّ لباس التقوى ذلك خيرٌ، وأنك سوف تعرضين على الله لا تخفي منك خافية. فإياك أن تشتمل عليك ألسنة اللهب وشظاياه لاتك تشبهت في الظاهر ولم تصلحي الجوهر... أنتم أيها الظاهرون عليكم دفع ضريبة الظهور وتأدية زكاة المركز المنظور... وأنتم – على قلتكم – ضمير المجتمع ورأسه ويده...

فحذار حذار من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع. ومن دعوة لا تُستجَابُ...

وأعوذ بالله من همزات الشياطين... والحمد لله رب العالمين.

المصدر: مجلة التقوى/ العدد 1417 لسنة 1996م

ارسال التعليق

Top