• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تفسير المعرفة وعلاقته بنظرية الكون

د. راجح الكردي

تفسير المعرفة وعلاقته بنظرية الكون

إنّ تفسير المعرفة يرتبط عند فلاسفة المسلمين ارتباطاً وثيقاً بتفسيرهم للوجود أو لنظرية الكون. وإذا كنا قد رأينا عملهم التوفيقي في تفسير الكون قد انتج مدرستين: مدرسة الفيض، ومدرسة الخلق المستمر لا في زمن، فانّنا نجد عملاً فلسفياً موازياً بالنسبة لتفسير المعرفة. ويمكننا أن نميز في تفسير المعرفة بين مدرستين كذلك، مدرسة أصحاب الفيض في الوجود وتتسم بصبغة اشراقية في المعرفة، ومدرسة الخلق المستمر،  وتتسم بصبغة الإتصال في المعرفة، ذلك انّ نظرية الفيض كانت أساساً بنى عليه الفارابي وابن سينا ومن تبعهم اراؤهم. في النفس والعقل، العقل الفعال والعقل المادي والهيولاني والعقل المكتسب كما كانت كذلك منبعاً لنظرتهم في تفسير المعرفة. بينما كانت نظرية الخلق عند ابن رشد مصدراً كذلك لتفسير المعرفة في شرح إتصال العقل الهيولاني بالعقل الفعّال خلافاً لأسلافه من فلاسفة المسلمين. "إذ انّ المعرفة تتناسب مع الوجود أو هي صورة منه بعبارة أدق" فكما تصدر الموجودات المختلفة الكثيرة عند الواحد بطريق الفيض فانّ المعرفة كذلك تصدر عنه بطريق الاشراق، عند الفارابي وابن سينا. وكما "ترتبط جميع الموجودات على نحو ما بالموجود الأول، فانّ الوجود العقلي للموجودات، هو الذي يربط بينها برباط يجعلها على هيئة كائنات متدرجة في كمالها، حتى ينتهي هذا التدرج الصاعد إلى الموجود المطلق" وهذا ما عرف بنظرية الإتصال عند ابن رشد.
وفلاسفة المسلمين مسبوقون في تفسير المعرفة تبعاً لتفسير الكون، بالقطبيين الرئيسيين لكل توفيق بين المذاهب الفلسفية: قطب الافلاطونية التي عرفت بالفيض، وقطب الارسطوطاليسية الذي يرد الوجود إلى الواقع الطبيعي، وما تبع هاتين المدرستين من شروح وتوفيق، ولعل أظهر مدرسة سارت على التوفيق هي الأفلاطونية الحديثة التي مالت إلى الفيض بل وزادت عليه.
وفكرة الفيض عند إفلاطون وأفلوطين تعتبر مصدراً رئيسياً للمعرفة الاشراقية ذلك انّ النفس التي تمثل مرتكزاً أساسياً في الكون والمعرفة،  تمثل عندهما نقطة إتصال بين عالم المثل أو المعاني الكلية الدائمة الثابتة التي هبطت منه وبين عالم الحس أو الجسد، الذي حلت النفس فيه وتحاول الخلاص منه، إذ انّها جوهر روحاني، من طبيعة عالم المثل، ولقد لحقها التشويه بسبب اتصالها بالبدن، ومن ثم فلابد لها من التطهر حتى تترقى وتعود إلى طبيعتها غير متلبسة بالمادة، أو حالة فيها. وهذا التطهر للنفس لا يكون بغير الفيض الذي يغمر النفس دفعة واحدة فتشرق عليها المعرفة الحقة وتسمو بها. وقد تسربت هذه الفكرة الاشراقية إلى فلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا وكانت موجهة لهم تماماً في نظرية المعرفة الاشراقية.
كما انّ إمكان المعرفة أصلاً مرتبط بفكرة خلود النفس عند إفلاطون، ذلك لأنّ المعرفة لا يمكن تفسيرها عنده إلا إذا تأملت النفس المثال في حياة سابقة على الجسد. فأدراكنا للمحسسوسات لابد وأن تسبقه معرفة عقلية موجودة فينا منذ ميلادنا وهو علم خالص يكون تذكره اساس نمونا كله. وعلى هذا النحو فالمعرفة التي لدينا عن الأشياء تفترض انّ حياة النفس الحاضرة ليست حياتها بأكملها قط، كما تفترض وجود المثل. لقد وجدت النفس قبل دخولها إلى حياة الجسد وإذن فليس مصيرها مرتبطاً قط بمصير جسدها، وفضلاً عن ذلك يمكننا أن نكون على يقين بأنّها ستوجد من جديد بعد هذه الحياة الأرضية طليقة من الجسد، ونتيجة هذا كله ليست المعرفة ممكنة إلا إذا كانت النفس خالدة.
ومن ثم فأنّ المعرفة الحقيقة عند إفلاطون هي معرفة النفس بالتأمل العقلي الخالص لعالم المثل. والبدن يعيق النفس عن المعرفة ويشوشها، ذلك انّ البدن مبدأ الشهوات ولا بد للنفس من التخلص من هذا البدن ومن شهواته وان تحل الروابط التي تربطها به. وتتحرر لتبلغ معرفة المثال بعودتها إلى طبيعتها الحقة، "فالنفس لا تعرف أبداً ما تعرف إلا حين تفكر من تلقاء ذاتها خالصة من كل تماس بالبدن".
وتأتي الافلاطونية الحديثة لتركز كذلك على إشراقية المعرفة لدى النفس وإن كانت تقسم إدراكات النفس إلى ثلاث درجات: الإحساس والنظر والوجد.
فالإحساس: درجة دنيا من المعرفة يقول عنه افلوطين: إنّه كالرسول الذي يأتي من العقل لإيقاظ النفس. والإحساس له قيمة إذ هو صورة للمعقول ويدرك الصور كما هي مفصلة بالإستعانة بالنظر إلا انّه لا يرتفع بالإحساس إلى درجة اليقين أو إلى درجة المصدر الذي يجب أن تبدأ منه المعرفة، ذلك لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يتعلق بالمحسوس ما دام المحسوس مصدر التغير والكثرة والتعدد.
أما درجة النظر: فهي درجة أعلى من درجة الإحساس، يرتب فيها الإنسان بين التصورات، ويربط بينها من أجل البرهان وهنا توجد ثنائية قائمة بين الذات العارفة والموضوع المعروف ولابد من التخلص من هذه الثنائية بالدرجة الثالثة وهي درجة الوجد.
درجة الوجد: يرتفع في هذه الدرجة للتعارض بين الذات العارفة والموضوع المعروف لأن كل معرفة تقوم على اساس ادراك الذات لوجود خارجي مقابلها، ومن ثم لا ننظر إلى المعرفة على انّها تحصيل أو كسب أو ملك وانما نحسبها فقط وجوداً أو إتحاداً أو هوية، حيث تعود النفس لوحدة المطلقة أو الاتحاد بالله، وفي هذه الحالة يسقد كل شيء من الموجودات وتفنى النفس للوحدة المطلقة أو الإتحاد بالله وفي هذه الحالة يسقد كل شيء من الموجودات وتفنى النفس وتمحى الآثار الخارجية وتحصل الوحدة وتصبح الذات العارفة هي الموضوع المعروف والموضوع هو الذات وتزول التفرقة بين العاقل والمعقول.
وقد سار فلاسفة الفيض المسلمين على هدى هذه الفلسفة الاشراقية، فوحدوا بين فعل المعرفة وفعل الإيجاد إلى الفيض كما ردوا المعرفة إلى الاشراق.
ولئن إتجه الفارابي وابن سينا أكثر ما يكون الإتجاه إلى الافلاطونية والافلاطوينة الحديثة فأنّ ابن رشد قد اتجه بصورة أكبر بل حتى وبصورة كلية إلى أرسطو إذ أخذ مبادئه في تفسير عملية الخلق، كما أخذ رأيه في تفسير المعرفة، بل وزاد وضوحاً عن مذهب أرسطو، إن لم نقل حل ما جعله أرسطو معضلاً.
إتجه أرسطو بالنفس إتجاهاً واقعياً بعيداً عن المثالية الافلاطونية وإهتم بدراسة الوظائف النفسية دراسة تكاد تكون علمية، إذ عنى عناية كبيرة بدارسة الإحساسات المختلفة، وكيفية حدوثها بسبب وجود بعض المؤثرات الخارجية، كما بذل جهداً كبيراً لبيان طبيعة كلّ حس من الإحساسات الظاهرة والباطنة.
وذهب إلى انّه لا وساطة بين الله والنفس وأنّ النفس مسؤولة عن وحدة الجسم واتساق وظائفه. ومن ثم فلا وساطة بين العالم المحسوس والعالم المعقول. والعقل عنده قوة صرفة يستطيع أن يتعقل لموضوع كما هو، أي تتحقق الصورة المعقولة فيه. وهو ليس نوعاً من الحس، أي ليس قوة جسمية وإن كان يدرك الجسيمات وهو يختلف عن الحس لأنّ الحس يدرك الجزيئات بأعراضها، والعقل يدرك الماهيات بإنعكاسه على الحس. والمعقولات موجودة بالقوة في الصور المحسوسة سواء المجردات الرياضية أو الكيفيات الجسمية.
وهذا يجعل عملية الفهم أو العلم قائمة على كل من الحس والعقل، وهذا إبراز لدور الحواس في المعرفة، إذ انّه لا يمكن التعلم أو الفهم من غير الإحساس، فانّ المحروم حاسة محروم من المعارف المتعلقة بها.
وتفسير المعرفة عنده هو إخراج ما بالقوة إلى ما بالفعل ذلك انّه لابد للعقل وهو بالقوة من شئ هو بالفعل يستخلص المعقولات من الماديات ويطبع بها العقل فيخرجه من القوة إلى الفعل أي "يجب أن يكون في النفس تمييز يقابل التمييز العام بين المادة وبين العلة الفاعلية التي تحدث الصورة في المادة، وفي الواقع نجد في النفس من جهة واحدة العقل المماثل للمادة من حيث انّه يصير جميع المعقولات. ومن جهة أخرى العقل المماثل للعلة الفاعلية لأنّه يحدثها جميعاً. وهو بالإضافة إلى المعقول كالضوء بالإضافة إلى الألوان بالقوة في الظلمة إلى ألوان بالفعل.

- الكندي وتفسير المعرفة
إنّ الكندي وإن ابتدأت فلسفة المسلمين تتخذ طابعها العقلي، عنده سواء في الوجود أو المعرفة إلا انّ نظريتي الفيض والخلق المستمر لا في زمن  لم تظهرا عنده بوضوح بل انّه في حديثه عن هاتين المسألتين كان ما زال قريباً من التصور القرآني إذ وصف عملية الخلق والإبداع بأنّها " إظهار الشيء عن ليس" أي إخراج الشيء إلى الوجود من العدم كما عرّف النفس تعريفاً آخر بالإضافة إلى تعريف ارسطو الذي اشتهر بعد ذلك عند فلاسفة المسلمين، عرّفها بأنّها جوهر عقلي متحرك من ذاته بعدد مؤلف، وهو بهذا يقرر روحية النفس ويصرح بخلودها ولا يتعرض لمسألة وجودها قبل البدن أو معه، ولكنه يؤكد انّ علاقتها بالبدن علاقة عارضة مع انّها لا تفعل إلا به متحدة به رغم انّها تبقى بعد فنائه.  وحقيقة الأمر انّنا مهما حاولنا أبعاد الكندي عن نظرية الفيض والإشراق بصورة تفصيلية، إلا انّنا نجد شرحه للوجود والمعرفة كان متأثراً إلى حد ما بالفلسفة اليوناينة، موفقاً بينها وبين الدين، وهو يفرق بين نوعين للوجود، وجود الواجب ووجود الممكن. ومن ثم يجعل المعرفة لهذا الواجب هي المعرفة اليقينية كما يجعل هذا الواجب موضوع المعرفة. ويجعل العقل طريقاً لمعرفة الواجب اليقينية ويجعل الحواس طريقاً لمعرفة العالم المحسوس المتغير ومن ثم فهي لا تتصف بالثبات واليقين بل بالظن، ولكن فكرة العقول العشرة وفيضها وإشراقها بصورة تبدو فيها الروح الافلاطونية، لم تتضح تماماً إلا بعد الكندي وعلى وجه الخصوص عند الفارابي وابن سينا، إذ جعلا العقول العشرة أساساً لتفسير نظرية الخلق ونظرية المعرفة.
أما الكندي بعد أن جعل الخلق إظهاراً لوجود الشيء بعد عدم، جاء ففسر المعرفة على أساس ما أعطى الإنسان من استعداد وطرق لها بعضها ظاهرة هي الحواس والعقل والبعض الآخر داخلية هي القلب. ومن ثم فالمعرفة عنده لا تحصل بطريق الإشراق المعرفي وانما تحصل بثلاث طرق:
أولها: الحواس
وهي موجودة في الإنسان منذ أن خلقه الله والإنسان يباشر حواسه في وجوده مباشرة قريبة جداً منه ومن ثم فهي مرحلة وجود إنساني أولي.
والمحسوسات لها وجود خارجي عنده منفصل عن الذات العارفة إذ يقول: "فالمحسوس أبداً جرم" ويجعل في النفس الإنسانية بالإضافة إلى الحواس ما يطلق عليه القوة الحساسة وهي تلك التي تشعر بالتغيير الحادث في كل واحد من الأشياء في الخارج العيني. واعتراف الكندي بالوجود الخارجي على هذه الصورة يجعله مخالفاً لأرسطو الذي جعل الأسبقية للوجود المنطقي بينما جعلها الكندي- بدافعه الديني - اسبقية في الزمن. وإذا كان الحس يؤكد الوجود الخارجي عند الكندي فانّه بحاجة إلى أن يعمل مع العقل الذي هو الطريق الثاني للمعرفة.
ثانيهما: العقل
وهو مباين للحس والوجود الخارجي يحتاج العقل لإعمال الفكر فيه ومواصلة معرفته بعد الحواس لتبين حقيقته وكشف قوانينه ويوجد في هذا العقل الأوائل العقلية المعقولة اضطراراً.
وحقيقة الأمر انّ العقل والحس يعملان معاً في المعرفة عنده. يقول الكندي: ".... والأشخاص الجزية الهيولانية واقعة تحت الحواس واما الأجناس والأنواع فغير واقعة تحت الحواس ولا موجودة وجوداً حسياً بل تحت قوة من قوى النفس التامة اعني الإنسانية هي المسماة العقل الإنساني".
ثالثهما: القلب
وهو طريق للإيمان عنده يعمل فوق حدود العقل والحس من الغيبيات وإن كان لا يتعارض مع العقل إلا أن يتجاوزه فيما يعجز عنه هذا العقل. فالعقل يثبت الغيبيات والقلب يؤمن بما جاء به الرسول ويؤمن بالنبوة على هذا الأساس دونما إشراق.

 - تفسير المعرفة لدى المدرسة الإشراقية
اتضحت النظرة الإشراقية للمعرفة عند الفارابي وابن سينا بصورة كبيرة، حتى أصبحت عندهما مرجعاً لكل من جاء من الإشراقيين بعد ذلك.
والمعرفة الإشراقية لا ترفض الحس والعقل طريقاً للمعرفة، ولكنها تجعل العقل مصدراً للمعرفة بالإضافة إلى كونه طريقاً. إذ هي تبني الموجود والمعرفة على أساس عقلي. وترد كليهما إلى العقل الفعال واهب الصورة والمعرفة ذلك انّ ما في العقل من صور عقلية انما يعود إلى فيض العقل الفعال والعقل الإنساني وإن كان يعرف الواقع المحسوس عن طريق الحواس انما يقوم بذلك ويترقى من كونه عقل هيولانيا أو بالقوة إلى عقل مكتسب أو بالفعل، ويقوم بعملية تجريد وانتزاع للصور العقلية بإبعاد ما يلابسها من المادة حتى يصل إلى درجة العقل المستفاد الذي تكون الصور العقلية فيه مجردة وتأخذ قيمتها المعرفية من عقل مجرد مفارق و هو العقل الفعال، أو عقل الفلك العاشر أي القمر.
ويشرح الفارابي فكرة الوسائط في المعرفة كما كانت الوسائط في عملية الكون أو الخلق فيقول: "قد يظن انّ العقل تحصل فيه صورة الأشياء عند مباشرة الحس للمحسوسات بلا توسط ليس الأمر كذلك، انّ بينهما وسائط وهو انّ الحس يباشر المحسوسات فتحصل صورها فيه. ويؤديها إلى الحس المشترك حتى تحصل فيه، فيؤدي الحس المشترك تلك الصور إلى التخيل والتخيل إلى قوة التمييز ليعمل التمييز فيها تهذيباً وتنقيحاً ويؤديها منقحة إلى العقل، فمبدأ معرفة الأشياء هو الحس إلا انّ المعقول من الشيء وجود مجرد، وهذا الوجود لا يدرك بالحس بل يدرك
بالعقل ".
فالنفس بترقيها من الحس إلى الخيال انما تستعد بعملية تطهير أو تجريد أو انتزاع أو كما تسمى شجاراً حتى تصل إلى مرتبة تستعد فيها لقبول المعاني التي تفيض عليها مع العقل الفعال على هيئة الإشراق. فعملية التجريد والانتزاع هنا ليست العملية الوحيدة في المعرفة كما عند أرسطو وانما هي تمهيد نحة قبول ما يشرق به العقل الفعال على العقل الإنساني في درجة المستفاد من معانٍ أو صور عقلية.
والمعرفة عند الفارابي قد تكون بالحس والتخيل وبالقوة الناطقة أو بالعقل. لكن مرد ذلك كله سواء أكانت الماديات أم المتخيلات أم المعقولات إلى العقل الفعال.
ومن الواضح جداً انّ الفارابي قد أرجح المبادئ الأولية للمعرفة أو الأولويات إلى فيض العقل الفعال بعملية صعود بين قوى النفس أو العقل، وتدرج حتى تكون مستعدة لهذا الإشراق. ومن ثم فالسعادة عنده "هي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود إلى حيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة، وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام، في جملة الجواهر المفارقة للمواد، وأن تبقى على تلك الحال دائماً أبداً إلا أن رتبتها تكون دون رتبة العقل الفعال، وأنما تبلغ ذلك بأفعال ما أرداية بعضها أفعال فكرية وبعضها أفعال بدنية".
ويوجد تقابل تام بين مراتب المعقولات ومراتب الموجودات، ذلك أنّ الأدنى من الموجودات ينزع به الشوق إلى ما فوقه والأعلى منها يرفع الأدنى إليه، وكذلك العقل الإنساني فهو ينزع إلى العقل الفعال، كما انّ العقل الفعال يهب الصور لجميع الموجودات الجسمانية ويفيضها على العقل المستفاد، فلا غرو إذا جاءت المعرفة العقلية مطابقة لموضوعها الخارجي، لأنّ العقل الفعال يجمع في ذاته كل الصور فيرسلها إلى عالم الحس ليكسو بها المادة، كما يرسلها إلى العقل الإنساني ليولد فيه المعرفة. وبين الصور التي في العقل الإنساني والصور التي في عالم الحس مطابقة تامة تجعل المعرفة يقينية. مرد هذه المطابقة إلى صدور جميع الصور الحسية والعقلية عن العقل الفعال، وغاية العقل الإنساني أن يتصل بهذا العقل المفارق ويتشبه به، ومعنى ذلك أن المعرفة اليقينية لا تحصل إلا بفيض من العقل الفعال الذي هو واهب المعرفة وواهب الصور، ومن أجل هذا الإتصال بالعقل الفعال يقوم العقل بالتخلص والتجرد من المادة والتكثر والتجزؤ وبالعودة إلى وحدته وكليته، فتعود بذلك للمعرفة وحدتها وكليتها، وبقدر ما ينجح العقل في هذا التوحيد يحصل له الكمال الذي يستتبع قربه من العقول المجردة.
ويحذو ابن سينا حذو الفارابي في تفسيره للمعرفة تفسيراً إشراقياً، بل ويزيد هذا التفسير شروحاً وتأكيداً. وهو يعترف بالحس طريقاً للمعرفة،  تصل النفس به إلى المحسوسات لتأخذ عنها صورها. وظل بتشبهها بالمحسوس وهذا وهو الإدراك الحسي عنده، وهو يعرف الإدراك بأنّه" أخذ صورة المدرك، فإن كان المادي فهو أخذ صورة مجردة عن المادة فقط تجريداً ما لأنّ أصناف التجريد مختلفة ومراتبها متفاوتة".
ومن ثم فليست المعرفة تذكراً،وانما هي إنتزاع لصورة المدرك بطريق التجريد ولكن الإدراك الحسي لا يكفي في المعرفة لأنّه لا يجرد الصورة عن كل لواحق المادة أو كما يقول ابن سينا: "فالحس يأخذ الصورة عن المادة مع هذه اللواحق، ومع وقوع نسبة بينها وبين المادة، وإذا زالت تلك النسبة بطل ذلك الأخذ، وذلك لأنّه لا ينزع الصورة عن المادة مجردة من جميع لواحقها ولا يمكنه أن يستثبت تلك الصورة وإن غابت المادة فيكون كأنه لم ينزع الصورة عن المادة نزعاً محكماً، بل يحتاج إلى وجود المادة أيضاً في أن تكون تلك الصورة موجودة له". ومن ثم فلابد أن تأتي مراحل أخرى تابعة للإدراك الحسي وذلك بأن تتجمع هذه الصورة في الحس المشترك ثم تذهب إلى المخيلة، والخيال يبرئ الصورة المنزوعة عن المادة بحيث لا يحتاج في وجودها فيه إلى وجود مادة. لأنّ المادة وإن غابت أو بطلت، فانّ الصورة تكون ثابتة الوجود في الخيال ... فانّه - الخيال - قد جردها عن المادة تجريداً تاماً ولكنه لم يجردها عن لواحق المادة، لأنّ الصورة في الخيال هي على حسب الصور المحسوسة وعلى تقدير ما وتكييف ما ووضوع ما".
ثم تأتي مرحلة الوهم، فتكون الصورة قد اقتربت كثيراً من حدود المعقول، ولكنها تظل بطابعها الجزئي متعلقة بصور المحسوسات يقول ابن سينا: "واما الوهم فانّه قد تعرى قليلاً عن هذه المرتبة في التجريد، لأنّه ينال المعاني التي ليست هي في ذواتها مادية" ولكن هذه الصورة قبل أن تتخطى مرحلة الإحساس بما حصل لها من عملية انتزاع وتجريد تتلقى نوعاً من الإشراق من مصدر عقلي، يقول: "اما الخير والشر الموافق والمخالف، وما أشبه ذلك فهي أمور في نفسها غير مادية وقد يعرض لها أن تكون في مادة" وبعد ذلك تبدأ مرحلة الإدراك العقلي وهي كذلك مرحلة متدرجة بحسب اقسام العقل، وعمليات الانتقال من حالة إلى أخرى انما يكون بما يهبه العقل الفعال من إخراجه لما هو بالقوة إلى ما هو بالفعل. أي انّ فعل التعقل يكون بسند خارج عن العقل الإنساني هو العقل الفعال واهب الصور.
والنفس في سبيل الوصول إلى إتصال بالعقل الفعال، انما تقوم بعملية تطهر تعود بها إلى طبيعتها الروحية أو إلى جوهريتها العقلية، حيث انّ كمال الجوهر العاقل: "أن تتمثل فيه جلية الحق الأول قدر ما يمكنه أن ينال منه ببهائه الذي يخصه ثم يتمثل فيه الوجود كله على ما هو عليه مجرداً عن الشوب مبتدأ فيه بعد الحق الأول، بالجواهر العقلية العالية، ثم الروحانية السماوية والأجرام السماوية ثم ما بعد ذلك، تمثلاً لا يمايز الذات فهذا هو الكمال الذي يصير به الجوهر العقلي بالفعل".
ويزيد ابن سينا المعرفة الإشراقية تفصيلاً حتى يظن به انّه متصوف يتحدث بلهجة الصوفية، وليس الأمر كذلك بل انّ العبارة الصوفية التي تلمح عنده ليست إلا تعبيرا عن التعليل العقلي للوجود، والتفسير الإشراقي للمعرفة، وليست تلك الصوفية العملية القائمة على تزكية الروح بالعبادات والرياضات الجسمية، وانما هي صوفية عقلية  أو إشراقية طريقها التفكير العقلي أو الرياضة العقلية. ذلك انّ طبيعة الوجود - في نظره - في أكمل صورتها عقلية مجردة وطبيعة المعرفة في أكمل صورتها لذة عقلية بإتصال العقل الإنساني بالعقل الفعال بطريق التطهر من أدران المادة وكدورات الحواس والتجوهر بالتجرد عن كل ما يلابس النفس حتى تعود إلى عالم القدس.
وقد وضح ابن سينا هذا النوع من التصوف المعرفي - الإشراقي - الذي أراده، بأنّه ليس تصوف التقرب بالأعمال، فميز بين كل من العابد والزاهد والعارف، فقال: "المُعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد، والمواظب على فعل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد والمنصرف بفكره إلى قدس الجبروت مستديماً لشروق نور الحق في سره يخص باسم العارف" والعارف عنده أعلى هذه المراتب ويمرّ فيها ولكن الزهد والعبادة عنده غيرها عند غير العارف، ذلك "انّ الزهد عند غير العارف معاملة ما، كأنه يشتري ويبيع متاع الدنيا ومتاع الاخرة، وعند العارف تنزه ما عما يشغل سره عن الحق وتكبر على كل شيء غير الحق. والعبادة عند غير العارف معاملة ما،  كأنه يعمل في الدنيا لأجرة يأخذها في الآخرة هي الآجر والثواب، وعند العارف رياضة ما لهممه وقوى نفسه المتوهمة والمتخيلة ليجرها بالتعويد عن جانب الغرور إلى جانب الحق، فتصير مسالمة للسر الباطن، حينما يستجلي الحق لا تنازعه فيخلص السر إلى الشروق الساطع ويصير ذلك ملكة مستقرة كلما شاء السر اطلع إلى نور الحق، غير مزاحم من الهمم، بل مع تشييع منها له فيكون بكليته منخرطاً في سلك القدس".
ويتحدث عن المراحل التي يمرّ فيها المريد من أجل الوصول فيقول: "أول درجات حركات العارفين ما يسمونه بالإرادة وهو ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني، من الرغبة في اعتناق العروة الوثقى فيتحرك سيره إلى القدس لينال من روح الإتصال فمادامت درجته هذه فهو مريد ثم انّه ليحتاج إلى الرياضة.

 - تفسير المعرفة لدى مدرسة الإتصال
يعترف ابن رشد كسائر فلاسفة المسلمين بالوجود الحسي والعقلي، وانّ المحسوس أو الواقع مصدر للمعرفة. وانّ الحس والعقل كلاهما يشاركان في عملية المعرفة.
وتفسير المعرفة من جهة المحسوس مبتدئة من الحواس إلى المخيلة إلى العقل في مراحل ومراتب من التجريد والانتزاع، وكل مرتبة أعلى فهي أعلى وأشرف في الوجود والمعرفة. ولا خلاف لابن رشد مع سابقيه من فلاسفة المسلمين في مسألة الانتزاع والتجريد من حيث هي عملية تنتقل بها الصورة من المحسوس إلى المعقول، ذلك لأنّهم جميعاً أخذوا هذه الفكرة من أرسطو، ولكن الخلاف بينه وبين مدرسة الإشراق السابقة له في مصدر الصور العقلية وطريق حصول العقل الإنساني عليها فبينما كان مصدر هذه الصور عقلاً مفارقاً خارجاً عن النفس الإنسانية،  وبطريق الجذب والإشراق أو الفيض من هذا العقل المفارق على العقل الإنساني عند مدرسة الإشراق، فأنّ هذا المصدر عند ابن رشد قائم في العقل الإنساني نفسه من جهة ما هو هيولاني مستعد، ومن جهة ما هو فعال ينقل العقل الهيولاني من القوة إلى الفعل بعد عملية التجريد وبطريق اتصال العقل الهيولاني الانساني بالعقل الفعال الذي هو مظهر من مظاهر النفس الاننسانية وليس خارجا عنها ولا مفارقا لها . وبعبارة اخرى انّ نظرية الإتصال بالعقل الفعال طريقاً لتفسير المعرفة عند ابن رشد، ليست في حقيقة الأمر إلا "نظرية تجريد المعاني الكلية التي تنتهي بإنتقال العقل المادي من القوة إلى الفعل، وإلا نظرية مثالية في الحدس العقلي الذي تستطيع النفس الوصول إليه عندما تعلم انّها ذات مستقلة عن البدن وفي هذه المرحلة الأخيرة، تعرف النفس ذاتها على انّها صورة مفارقة، أي ذات قائمة بنفسها تحدد للجسم كيانه ووجوده.
ونظرية الإتصال في المعرفة ترد المعرفة إلى الإنسان أو إلى وحدة العقل الإنساني الذي هو في أحد مظهريه فعال. وتقيم بناءها على إمكان معرفة الإنسان لذاته. بما فيه من عقل فعال هو من طبيعة عقليه تشبه عقول الأفلاك أو مبادئها، تلك التي تعقل ذاتها.
وابن رشد في نظرية الإتصال أكثر واقعية من سابقيه من أصحاب نظرية الإشراق وإن كان الواقع معتبراً لدى الجميع، ذلك لأنّ إرجاع المعرفة إلى وحدة العقل الإنساني، والإنسان من هذا الواقع عند ابن رشد، أكثر تعبيراً عن الواقع من رد هذه المعرفة إلى جوهر مفارق كما في أصحاب مدرسة الإشراق، وإن كانت هذه الواقعية قد جعلت ابن رشد يقول بأزلية أو خلود العقل الإنساني بمظهريه الهيولاني والفعال.
وابن رشد يجعل الإنسان أقرب الموجودات إلى العقول والأفلاك، بل يجعله "الواصلة التي إتصل بها الوجود لمحسوس بالوجود المعقول" ومن هنا كان الإنسان محوراً لعملية المعرفة وهو بهذا يعطي الوجود الإنساني أهمية أكبر في العالم من النظرة الإشراقية السابقة. ولعله كان مدفوعاً هنا بدافعين: دافع ديني يجعل الإنسان محود عمارة الكون والاستخلاف فيه، ودافع انتصار للإتجاه الأرسطي الذي قدس العقل الإنساني. فرد وجود الماهيات إلى الوجود العقلي القائم في الواقع معترضاً على الاتجاه الإفلاطوني الذي كان يرى مفارقة الصور أو المهايا لتكون في عالم المثل، ولعل اعتزاز ابن رشد بالنشاط العقلي الإنساني دفعه إلى التركيز أكثر من سابقيه على محاولة إثبات الإتصال بين الحكمة والشريعة من أجل اثبات وحدة الحقيقة على أساس عقلي. وقد كان يدافع بذلك على الطريقة العقلية التي يوحي بها القرآن فمثلاً دافع عن البرهان العقلي على وجود الله في وجه التقليد، كمن انتقد أدلة المتكلمين التي تركز على ظاهرة الحدوث كدليل على ووجود الله وارتضى بدلاً منها دليل الإختراع ودليل العناية الذين هما دليلان برهانيان - في نظره - لا يتزعزعان وينفعان لكل طبقات الناس، سواءاً اكانوا جمهوراً أهل جدل أم خاصة أهل برهان.
ومن مظاهر هذه الواقعية لدى ابن رشد، انّه كان يجعل كسب المعقولات متوقفاً على التجربة ذلك انّه إذا تأملنا حصول المعقولات لنا وبخاصة المعقولات التي تلتئم فيها المقدمات التجريبية ظهر انّنا مضطرون في حصولها لنا أن نحس أولاً ثم نتخيل وحينئذ ويمكننا أخذ الكلى، ولذلك فانّ من فاتته حاسة من الحواس فاته معقول ما، فأنّ الأعمى لا يعقل الألوان ولا يدركها.
وأيضاً فانّ من لم يحس أشخاص نوعاً ما لم يكن عنده معقوله وليس هذا فقط، بل يحتاج مع هاتين لقوتين إلى قوة الحفظ، وتكرر ذلك الإحساس مرة بعد أخرى حتى ينقدح لنا الكلى، ولهذا صارت هذه المعقولات انما تحصل لنا من زمان. وهو بهذا يأخذ طريقاً غير طريق الإشراقيين وغير طريق المتصوفة في تفسير المعرفة.
والنفس عند ابن رشد في تدرج وظائفها العقلية تنتهي إلى الإتصال، "وهي إذا أدركت معاني الأشياء المادية استطاعت إدراك ذاتها في آخر الأمر، وانما كان ذلك أمراً مستطاعاً لأنّها كائن مستقل على الرغم من وجود بعض الصلات بينها وبين الجسد وإذا أدركت النفس ذاتها لم يعد ثمة مجال للتفرقة بين المُدرك والمدرَك أي بين العقل والمعقول وذلك لأنّه لا يمكن التمييز حينئذ بين مظهرين مختلفين، أحدهما بالقوة الآخر بالفعل".
وهي مع هذا التدرج واحدة لأنّها تسمى عقلاً فعالاً، إذا نظرنا إليها على اعتبار انّها الجوهر الروحي الذي يصنع المعقولات أو المعاني، وتسمى عقلاً مادياً حين تقبل المعاني التي تجردها من الأمثلة الحسية الخارجة عنها.
وفكرة خلود العقل عند ابن رشد ينسجم معها رأيه في إمكان إدراك الخالد إذ ليس من المستحيل أن يدرك الخالد ذاته وغيره من الأشياء الخالدة ومن ثم فهي أساس الحدس العقلي أو الإدراك الذاتي عنده.
كما انّ هناك نوعاً من التوازي بين تدرج الوظائف النفسية من جهة الوجود، ومن جهة المعرفة، فهناك وجود يكمل شيئاً فشيئاً وهناك معرفة تسمو هي الأخرى شيئاً فشيئاً وكل مرتبة في الوجود تقابلها مرتبة في المعرفة وقد شرح هذه النظرية فيما يتعلق بالوظائف النفسية الدنيا في كتاب الحاس والمحسوس فقال: فتكون ها هنا للصورة ثلاث مراتب: الأولى جسمانية، ثم تليها المرتبة التي في الحس المشترك وهي روحانية، ثم الثالثة وهي التي في القوة المتخيلة في إحضارها إلى حضور المحسوسات.
وقد وضح هذا التدرج في الوجود والمعرفة في هذه الوظائف بمثال يقرب من الأذهان فقال: إنّ اللون الذي يحدث في الهواء ليس باللون الذي يحدث في العين واللون الذي يوجد في الخيال ليس يختلف عن اللون الذي يوجد في الحس المشترك، واللون الذي يحدث في الذاكرة شيء آخر غير الذي يحدث في الخيال.
إما فيما يتعلق بالوظائف العليا أو العقلية: فهي على مظاهر النفس الواحدة أو أقسام العقل الواحد عنده. وهو هنا يفرق بين أمرين: بين الصور المدركة في النفس وبين الصور العقلية المفارقة. إما الأولى فيريد بها الحس والخيال وإما الثانية فهي كل من العقل الهيولاني والعقل الفعال،  وهذان العقلان شيء واحد من جهة الوجود أي انّهما يعبران عن مظهرين للنفس إذا اتصلت بالبدن وكما انّ الصور المدركة في النفس بالحس والخيال تتدرج وتتوازى فيها المعرفة الوجود، فكذلك الصور العقلية المفارقة أو قوى العقل "تتصل إتصال وجود وإتصال إدراك بعضها ببعض فانّ النفس الإدراك هو نفس الوجود ونفس الوجود هو نفس الإدراك، ومعنى ذلك انّه لا فارق هناك بين الإتصال من جهتي الوجود والإدراك.
وهناك فارق هام بين الوظائف النفسية الأولى كالإحساس والخيال وبين الوظائف العقلية السامية. فانّنا إذا رأينا انّ الخيال يستكمل بالحس من جهة المعرفة. أي انّه لا وجود للخيال إلا إذا وجدت الصور الحسية قبله وليس الأمر كذلك فيما يتعلق بالقوى العقلية إذ لا تستكمل القوة الأسمى مرتبة بالتي هي أدنى منها، بمعنى انّ العقل بالقوة يسمو من جهة المعرفة فقط، فيصبح عقلاً فعالاً، دون أن يصحب ذلك إنتقال موجود إلى وجود آخر".

المصدر: كتاب نظرية المعرفة بين القرآن والسنة

ارسال التعليق

Top