• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

خلافة الإنسان لله.. ماذا تعني؟

غالب حسن

خلافة الإنسان لله.. ماذا تعني؟

◄يتطرّق الفكر الإسلامي الحديث بإسهاب إلى خلافة الإنسان لله في الوجود، ويركِّز على الجنبة التشريفية لهذه الخلافة، ويتعدّاها أحياناً بحدود معيارية للإشارة إلى دور الإنسان الإنمائي والإعماري للكون.. فالإنسان مسؤول عن إشاعة السلام والبناء والثراء، ذلك معيار كونه خليفة للخالق جلّ وعلا، ولكن غالباً ما يتجمّد هذا الفكر عند هذه النقطة بالذات، ليجعلها ذروة الإشراق، وطالما يُلبسها ثوب الحماس المنتعش بحرارة التوحيد. والحقيقة أنّ الخلافة ساحة رحبة في الأفكار والمفاهيم والتصوّرات، وهي بعيدة جدّاً عن عقلية الاتجاه القيمي، وإنّما هي صميم العقلية الجادّة التي تعطي للعمل والخلق أولوية السيادة في حياة الإنسان، فالخلافة هنا سعة حضارية، بل هي رؤية حضارية متكاملة الأبعاد.

والنظرة التقليدية ليست قاصرة في حدود الأفق فحسب، بل كذلك في حدود العلائق الداخلية بين الخلافة ومهماتها المزعومة، أي الإعمار والبناء، لأنّ العلاقة المطروحة تقريرة وذات طرح تصويري بحت، فهناك ترادف ساذج بين الرقمين، فيما العلاقة جدلية ساخنة بالحركة، تنفي صفة التقابل القار، لتؤكِّد صفة التداخل الحاد.

- حوليات الآية الكريمة:

قال الله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/ 30).

إنّ طبيعة النص القرآني يجمَعُ بين صَرامة المعنى وآفاق من الإيماءات التي لا تنفك عن انبثاقاتها الهادرة، فليس في النص الحيوي جموداً رقمياً يجاور وفق العقلية الفلسفية الإغريقية، بل هو جوهر تترسَّم حوله هالات من الفضاء الفكري، كلٌّ يصيب منها قسطاً ليوفّر على الآخرين إضافات جديدة. وتفسير القرآن التقاطات وليس إصابات إلّا ما بيَّنه أهل البيت (ع).. وهذه الآية أو مقطع الآية يشعُ بروافد الأفكار والتصوّرات، ويعطي المباني تلو المباني.. قد يُقال: إنّ هذه هي طبيعة اللغة العربية ذات الوفرة في المعاني المكتنزة، ولكن الفكرة قد تكون دائرة مغلقة، وقد تكون شعاعاً يتدافع من داخله بقوّة هائلة، كلّ ذلك قبل اللغة وبعدها، ولا أنكر أنّ لغة الضاد تؤثّر في الفكر، ولكنّها كأي لغة ليست هي التي تخلق الفكر.. والآن ماذا يستجمع التأمُّل الأوّلي من هذه الكلمات القرآنية الخمس؟!

أوّلاً: إنّ الخلافة في هذه الآية قضاء إلهيّ نافذ، وإرادة ربّانية لا يجوز عليها التردّد أو التخلّف، الأمر الذي يشير إلى أنّها خيرٌ وحقّ وجمال، لأنّ إرادة الله تأبّى التعلُّق إلّا بما هو من جنسها في الجمال والحقانية والخيرية. والبلاء الذي تزامن مع هذه الخلافة (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك/ 2) على امتداد هذا النور اللاهب.

ثانياً: ليس لهذه الخلافة كحقيقةٍ وطبيعةٍ وهُويّة، ليس لها بداية ولا نهاية، وإنّما هي إنسيابية من الصيرورة الدائمة، تبدأ لتنتهي، وتنتهي لتبتدئ، ليس في حركة دائرية، لأنّ هذه الحركة ليست أكمل الحركات كما يقول أرسطو، بل في ديمومة صاعدة ما تلبث أن تشتد وتشتد (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الانشقاق/ 6).

إنّ اسم الفاعل يُوحي بأنّ الفعل ليس فقرة تامة، وإنّما تنطوي على قابلية التمام والكمال.

إنّ الخلافة في هذه الآية إمكانات وتوقعات وآمال ومآسي وطموح وفرح وألم، وكلّ ما هو توكيد للذات، وتجذيرٌ لها، ليس في أُفق المادّة، بل في صميم الحياة أيضاً. وبالفعل، فإنّ خلافة الإنسان كنتائج وإفرازات كانت كمّاً هائلاً، ونوعاً زاخراً بكلّ ما يطرأ على الخيال، وأحسب أنّ المستقبل سيشهد ما هو أكثر غرابة، بل سيشهد الصعقة التي تعلن نهاية الحياة الدُّنيا.

ثالثاً: إنّ هذه الخلافة (في الأرض) وليست على الأرض، فهي رحمة وتسيير وخير وبركة، وليست سلطاناً وفوقية إنّ الحرف (في) ينسجم مع معاني التداخل والتآلف والتحابب فيما إنّ الحرف (على) فيوحي من طرفٍ خفي إلى السلطنة والقهر والغلبة. (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ) (فاطر/ 39).

 إنّ الخلافة هنا مسؤولية (عن) وليست مسؤولية (على) أي أنّها تكليف وليست تشريفاً، ولكن لا نعدم الرأي الحصيف الذي يرى أنّ التكليف يفرز التشريف والعكس ليس ضرورة.

رابعاً: إنّ الأرض هنا كناية عن كلّ الوجود، عن كلّ الكون، عن كلّ الحقائق العينية المعروفة والمجهولة، بل هي ليست كناية وإنّما إشارة، لأنّ الإنسان موجود في الأرض، وينطلق من الأرض، وحياته لا تطيقها غير الأرض، على أي حال إنّها إشارة إلى خَلق الله الناطق والصامت، دونما فرق بين ماضٍ وحاضر ومستقبل (سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) (لقمان/ 20).

خامساً: إنّ الإنسان خليفة منذ أن سجّل وجوده نقطة فعل حقيقية، أي منذ أن أبدعه الله، وليست الخلافة مكسباً جاء من بعد. والآية صريحة بهذا المعنى الجبّار.

سادساً: إنّ هذه الخلافة وحدة واحدة لا تقبل التجزئة أو التبعثر أو التشتت، والإنسان يمارس الخلافة بكلّه.

هذه بعض إيحاءات النص القرآني العظيم.

- المعنى الظاهر والمعنى الباطن:

الإنسان خليفة الله في الأرض.. في الكون.. في الوجود.. هذه هي المقولة بعنوانها العريض، ولكن هو خليفة عن الله وخليفة في الأرض، وإذن هناك حقيقتان كبيرتان في الآية، الأُولى صلة بين الإنسان والله، والثانية صلة بين الإنسان والنص، والعلاقة بين الصلتين تتمحور حول هذا المخلوق الكريم، بل إنّ الإنسان هنا هو نقطة الالتقاء بين الله وخَلقه الرحيب. هو الحدّ الأوسط بين الكبرى والصغرى حسب القياس الأرسطي، ولكن لا ليُفنى بل ليتجلّى، لا ليذوب في الأرض، بل ليظهر ويتجوهر ويتبلور.

إنّ خلافة الإنسان عن الله تعني أنّه يحمل سرَّ الله الأكبر. ويختزن في ذاته قبس الوجود الإلهيّ، ويحتوي على كلّ ما يتجلّى من خلاله خالق السموات والأرض، فالإنسان مُريدٌ، حرّ، مُبدع، مسؤول، فالخلافة هنا ذات مدلول باطني عميق، يتصل بشكل مباشر بحقيقة الكينونة البشرية، وتعطي صورة مفصَّلة عن واقع هذه الكينونة باعتبارها تجليات وظهورات، فالإنسان طاقة وفعل وقدرة، لماذا؟! لأنّه خليفة عن الله. إنّ الله لا يمكن أن يُنيط خلافته بوجود يفتقر إلى سرِّه المقدس، ولا ينطوي على قبسٍ من مُطلقة الذي لا يُحد ولن يُحد.

والإنسان خليفة (في الأرض)، هذا هو المعنى الظاهري، فهو يمارس عملية الخَلق والإعمار والتكوين في هذا العالم المتشعِّب المساحات والأبعاد، وليس من ريب أنّ الخلافة في الأرض متفرعة أو منعكسة عن الخلافة عن الله، فالإنسان أبدعه الله وهو متحدٌ بسرِّ الله، فإذن هو جدير بأن يقود سفينة الحياة، ويصنع التاريخ، ويستلم زمام الإشراف على الوجود.. إنّ البُعد الظاهري للخلافة يعتمد على البُعد الباطني.. بمثابة الامتداد المادّي والتمثيل الحسِّي للخلافة المعنوية، تلك التي تعني أنّ الإنسان نفحة ربّانية تتمتع بالقدرة والخيال والفكر والإرادة.. ولا يرتاب العقل المستنير أنّ هذا الامتداد طبيعي وحقّ، وهو النتيجة المنطقية والحاسمة، إذا كان الإنسان حقّاً وحقيقة يُجسِّد السرَّ الإلهي الخلّاق والمُبدع.

- نقطة الالتقاء:

الإنسان نقطة التقاء بين الله والوجود، ولكن كيف؟! إنّ هذا المخلوق يمارس حرّيته وقدرته في الأرض بما منحه الله من سرِّه المقدّس (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم/ 34). فهذا العطاء لم يكن من بعد، ولم يكن استجابة لدعاء، وإنّما هو قرار بموجبه تمّت الخِلقة الإنسانية بما يؤهلها للفعل الواعي، وعلى امتداده هيّأ الله تعالى المادّة الحاضرة والجاهزة والمستعدّة لإعمال هذه المؤهلات، ولإبراز القدرة الكامنة وتحويلها إلى القدرة الشاخصة المتشخصة، والله سبحانه يريد الطبيعة عامرة جميلة مزيَّنة ورافلةً بالخير، يريدها زاخرة بالنماء، وهاهو الإنسان يؤدِّي هذه الرسالة بجدارة جيَّرت عقله بالذات. فهو يحقِّق إرادة الله بما وهبه الله على أرض الله، وبهذا يكون نقطة الاتصال بين الله والوجود.

- تحديث العقل:

الخلافة عن الله في أرض الله تتمخّض عن حقائق كبيرة على صعيد الإنسان، فهي تستدعي بشكل عفوي أو قاصد إدراك العلاقات المنطقية بين الأشياء، وهذه الناحية تُعتبر أكبر ثورة عقلية وأضخم انقلاب في ميدان الفكر والإدراك، وتحثّ الخلافة بقطبيها المتواصلين على ارتياد مجاهيل الخَلق بغورها واكتشافها واستثمارها، وهي قبل هذا وذاك تدعو إلى الانغماس فيما ينفع، لا فيما لا ينفَعُ، لأنّ الخلافة فعل واعٍ، ويسبقُه التقدير والاحتمال والموازنة، وإلّا تتحوّل إلى رغبة لاهية.. إنّ الخلافة والمسؤولية مترابطان متفاعلان متجانسان، وعليه فإنّ ممارسة الخلافة تتبدَّى من خلال الحضور المملوء لا من خلال الحضور الفارغ.. إنّها تمثيل كلّه على أرض الله، فليس من المعقول أن تكون حرثاً في بحر أو زراعة في فضاء. ولذلك كلّ سعي لا طائل وراءه ينبغي أن يُهجر ويُترك، ويتحوّل إلى عبرة، يوفّر جهداً يُصبُّ في سعيٍ آخر.

- توكيد الذات:

وهذه الخلافة العظيمة توحي للإنسان بشعورٍ طافح بالإحساس الذاتي، وذلك عبر مسافة طويلة، بدايتها عنوان شخصي، ولكن بُعد لأي من الزمن التجريبي الساخن، يتحوّل إلى عنوان شخصاني، من المجرَّد إلى المجسَّد، ومن العمومية الفضفاضة إلى الخصوصية المتحفّزة إزاء كلّ مبنيةٍ في هذا الوجود (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الانشقاق/ 6). توكيد الذات مهمّة اضطلعت بها كلّ الفلسفات، ولكن لم تصل في مستوى حلولها وأطروحاتها إلى ما طرحه الفكر الإسلامي في هذا الميدان. إنّ القرآن يؤكِّد الذات من داخلها لتمتدَّ إلى الخارج، يؤكِّدها لأنّ الذات مكمن السرِّ الإلهيّ، وهذا المكمن لم يبقَ طاقة مختزنة، بل طاقة محترقة بزيتها في أرض الله. إنّ الكدح هو الذي يبلور الذات الإنسانية، وينتشلها من محنة الدوران في الأُفق، ويزجها على منحى تصاعدي نحو الإحساس الخاصّ.

- الخلافة والإبداع:

قال الله تعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن/ 29).

وقال تعالى: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ) (فاطر/ 1).

ولمّا كان الإنسان يختزن سرَّ الله في داخله، وهو خليفته في هذا الوجود، فإنّه يمارس عملية تنمية الكون، ويُدخل على الحياة نماذج مبتكرة من ألوان الصيرورة، ويثري الواقع بحقائق إضافية متوالية، إنّه خلّاق، مُبدع، مُطوِّر، وهو يمارس كلّ ذلك وكأنّه يفكِّر بالخلود والبقاء.. تلك هي علامة أكيدة ودقيقة على أنّه (خليفة الله في الأرض)، أي يحمل سرَّ الله، أو أنّه قبس من روح الله. ومن الجدير بالذكر أنّ الإنسان هو المخلوق الوحيد، الذي أخبر القرآن أنّه من (روح الله)، فيما المخلوقات الأُخرى لم تتنسب هذه النسبة، وهي كما يبدو علاقة إعداد مُسبق، وتكوين مقصود، وتهيئة هادفة... أي (الخلافة). فالخلافة والإبداع صنوان يدل أمرهما على الآخر، ويؤكِّده بما لا يستدعي أي قرينة مفسِّرة على الإطلاق.

- الخلافة والزمن:

وخلافة الإنسان عن الله في كون الله هي التي تخلق الزمن وتصنع التاريخ، صحيح أنّ هناك التاريخ الكوني، ولكن نحن في صدد التاريخ المسؤول وليس التاريخ الصامت الذي تمرّ أيّامه بهدوء، إنّ لحظات التاريخ الكوني لا تعي حتى ذاتها، وهي صمتٌ يُعبِّر عن جبرية وخواء، فيما التاريخ الإنساني تأليفة من وعي متعدّد الأبعاد:

- وعي الأنا والأرض.

- وعي الذات والموضوع.

- وعي المقدّمة والقيمة.

قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3).

فإدراك السبيل قدرة واختيار وإرادة، إنّما وعي ذاتي داخلي يتصل بالأنا، وإدراك الشُّكر، والكفر وعي موضوعي خارجي. وكلاهما يؤلفان الحقيقة الإنسانية في بعض جوانبها الخطرة. وهذا الوعي المزدوج المتداخل المتلابس هو الذي يضع الزمان ويُبدع التاريخ.

- الخلافة والتجربة:

وتعطي الخلافة معنىً تجريبياً واسعاً ودقيقاً، لأنّ الخلافة ريادة إنسانية تتحدّى الجهل والغموض والإبهام، وتدعو إلى جلاية الموجودات في أقصى درجة من الإمكان على مستوى الوضوح والبيان، الخلافة ضدّ الظلام المعرفي، وتتناقض تماماً مع ألوان الحكاية المبهمة والمغلَّفة بشكليات السِّحر أو العجز أو التصنُّع، وهي لا تنسجم أبداً مع تفسير الأشياء على أساس الألغاز، فالإنسان يحمل مسؤولية إلهيّة في ممارسة الحياة العارفة بهدفها والمدركة للعالم الذي يحيط بها. وهذه الشروط أو المستلزمات تنأى بالإنسان عن الكدر الفكري والغموض المصطَنع، وتوظف الطاقة العقلية في الإنسان للاكتشاف والتبشير والمعرفة، وتبعده عن الانزواء الذي يزهَدُ بالحقيقة، ويخاف الإدراك، بل العكس هو الصحيح تماماً، أي يحفز ذاته وعقله وفكره لممارسة الوظائف الكاشفة بإلحاحٍ مستمر. فالخلافة تجربة، تجربة حيّة خلّاقة، تتوالد عن مثيلتها في سلسلة متقطعة ولا مجذوذة من سابقتها، وهذا التوالد ليس توارثاً ميكانيكياً، وإنّما هو توارث جدلي متصاعد، تتشابك في تضاعيفه وتفصيلاته ومعاناته الأخطاء والإصابات بشكل مذهل.

قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (الإسراء/ 85).

في الآية الكريمة سرّ في غاية الروعة والعمق والجلال.. إنّ كلمة (قليلاً) هنا بمثابة معيار، و(القليل) هنا ينطبق على وصفهِ تمام الانطباق بالقياس إلى علم الله تعالى المطلق، ولكن هذا (القليل) ينمو، يزداد، يتجلّى في تتابع جدائده ومستحدثاته وقدراته، دائماً في لون آخر من الوقائع التي لم تكن من قبل معروفة أو مألوفة، وهذا يعني أنّ الإنسان كائن علمي.. إنّ الله سبحانه يتحدّى الإنسان بعلمه غير المحدود ولا المحصور، وعليه يكون علم الإنسان بحدِّ ذاته شيئاً عظيماً، إنّه بالنسبة لعلم الله قليل ضئيل، ولكن في نفسه أمرٌ جليل وحالة خطيرة، ومسألة تدعو للإعجاب فضلاً عن الدهشة.

قال تعالى: (عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 5).

وقال تعالى: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن/ 4).

إذن الخلافة صيرورة تجريبية وليست حكاية خرافية أو هزل لا يعدو أن يواكب ذاته، ويعكف على حالهِ دونما جديد على بساط الوجود.

- الخلافة والكون:

الكون قبل أن يخلق الله – سبحانه – الإنسان عبارة عن صمتٍ مُطبق، كتلة صلدة من الوهم المتلبِّد، تنشر في أخاديده قسوة الغربة واللامعقولية، كهفٌ من غبار السنين التي تجري بلا اسمٍ ولا مسمّى، صدى ضائع متغلِّف بأوراق الخريف، تتساقط لتنمو من جديد، ولكن الجديد هنا مجرّد، فلا سامع ولا ناظر، فكان الجديد خدعة كافية على أحلام عارية.. وعندما أبدع الله خليفته العظيم أشرق الكون بنور ربِّه، واكتسى زاهية المعاني، وصار كوناً حقيقياً، أفضى عليه الإنسان روحه الخلّاقة المبدعة، ونفخ في صلابته من مشاعره. لقد اعتصر الإنسان وما يزال يعتصر روحَهُ وأفكارهُ وضميره وطاقاته ليصهر بها الكون، ويكفيه لمعانيه التي تتوالد في داخله بديمومة لا تنقطع.. ثمّ ماذا؟!

لقد أصبح للكون بواسطة الإبداع الإنساني لسانُ وأُذن وروح، أي أنّ الطبيعة أصبحت كائناً إنسانياً.

الجبال والأنهار والأشجار.. وكلّ مفردة كونية في هذا الوجود عبارة عن كائن إنساني.. كذلك تحوّلت بفضل الإنسان، هذا الإنسان الذي اختزن سرَّ الله، فطبع به الكون الرحيب، لم تعد الطبيعة صامتة.. ولم تبقَ جاهلة، بل هي الآن ذات لسان وذات حياة.. كانت الطبيعة قبل خلق الإنسان (متطبِّعة). أمّا بعد خلق الإنسان، فأصبحت (متأنسِنة).

قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا) (البقرة/ 31).

وقال تعالى: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن/ 4) .

لقد سَرت الأسماء وسرى البيان من الإنسان إلى الكون، إلى الطبيعة، إلى الوجود، فأضحى حقيقة إنسانية. وسيأتي اليوم الذي يشهد انقلاباً جذرياً في هذا الوجود، وذلك عندما تتشرّب كلّ جزئياته بالضمير الإنساني المتأجج، يصبح الوجود شعلة روحية يقظة، منتعشة بالحِس، فرِحة بالوجدان، منتشية بالشعور.

- الخلافة والعلم:

يتمتّع العلم في ظل الخلافة كمفهوم ومصداق بذاتية مفرطة، يعشق ذاته ويلتحم بمهمّته ككاشف وناطق، يقاوم أي محاولة لتجييره لأهداف لا تتفق وطبيعته، ويفرض معادلاته المتجلية لنفسها في مرآة العقل، يفرضها كما هي، وكما تبدو، وكما تتحرّك على لوحة الإدراك الإنساني، فالعلم والأمانة متلازمان في نطاق الممارسة الحقيقية لمفهوم الخلافة.. (العلم نور)، هذا هو الشعار الذي يكرّس الموقف الخلافي من العلم، ونوره يكمن في قابليته على إزاحة الغطاء، وتبديد الغيوم التي تُلبِّد الأشياء والمعاني والحقائق. فهو إذن رسالة، وهو إذن مسيرة.. مسيرة لأنّ طاقته لا تنفذ ولا تنضب ولا تقف عند حدٍّ معيّن، ولما كانت الخلافة مواكبة حياتية تتدفق بالموقف والعطاء، فإنّ العلم مسيرة وليس رحلة، امتداد يلاحق المجهول ليصرَعهُ، ولكن ليس لغرض القتل أو الأمانة، وإنّما أجل الإحياء والحياة، ليتحوّل المجهول إلى معروف، والمعروف إلى مألوف، والمألوف إلى مخروج، والمخروج إلى ذات المعرِّف، وهكذا يتحد العاقل بالمعقول، والعالم بالمعلوم، فتكون لدينا وحدة وجودية في غاية البساطة والعظمة في آنٍ واحد.

- العلم نور:

قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28).

وعن الإمام عليّ (ع): «بالعلم يُعرف الله ويوحَّد».

وهذان المأثوران الإسلاميان يسلّطان الضوء الكافي على قدرة العلم، وعلى إمكانات العلم، فالله الحقيقة المجردة المحيطة بكلّ الأشياء، يتجسَّد الطريق إليها بالعلم، فإذن كلّ شيء قابل للمعرفة، لأنّه دون تلك الحقيقة المطلقة، وذلك مهما بلغ من شأنٍ في الجلال والجمال والخفاء.

- الخلافة والفنّ:

الخلافة بالصورة التي مضت تنقذُ الفن من كفة التجريد الضبابي، وتنشله من ورطة التجسيد الذي يقترب من المحاكاة التقليدية التي دعت أرسطو إلى استهجانه، الفنّ في ظل الديناميكية المعرفية للخلافة، ومن خلال الحضور الممتد من الماضي إلى المستقبل، يتحوّل إلى كائن ذي بُعدين. الطين والفراغ، أو الطبيعة والخيال، أو الحاضر والأمل. ولهذا يؤدِّي الفنّ دوره الذاتي والرسالي، وتجتمع المدرستان المتناحرتان، المدرسة التي ترفع شعار (الفنّ للفنّ)، والمدرسة التي تؤمن بأنّ (الفنّ للحياة). إنّ التفاعل مع الجماهير والهموم الإنسانية يمكن أن يتم عبر التفاعل مع الذات الفردانية. لأنّ هذه الذات لا يمكن أن تكون حقيقة محضة أو عينة بحتة، إذ مهما رُزقت من قدرة التركيز على جوهرها الفردي تبقى على صلة بالواقع، صحيح إنّ ذلك يحتاج إلى مران التشوف الخارجي، ويحتاج إلى ضرورة التواصل مع العالم والمجتمع، ولكن بإمكان التربية أن تنتقل بالإنسان المتوقّد ذاتياً إلى ذرّات الكون الاجتماعي من خلال التجربة الصوفية الوحدانية. والخلافة يمكنها أن تمارس هذا النمط من التربية المركبة من الذات والموضوع، والفنّ في كنفها يحضر على الساحة وهو يتحرّك على هذين الصعيدين.

إنّ الانفصال بين المدرستين بُدعة خلقتها أزمة الحضارة المادّية التي تقوم دائماً على قاعدة التطرُّف، والتي لا تعرف إطلاقاً مبدأ التوازن والتوافق.

هذه بعض التأمّلات السريعة عن الخلافة في مفهومها الإسلامي القرآني. ولكن المسألة لا تنتهي إلى هذا الحدّ، وإنّما هناك العديد من النقاط الجوهرية التي لها صلة وثيقة بالموضوع، نتطرّق أدناه إلى بعضه بإيجاز شديد:

- سؤالان!!

يعرض الفكر الإسلامي القديم والحديث الإنسان ويسلّط الأضواء أحياناً على جملة من (نواقصه). وهي مجموعة الشهوات التي قد تحيد به عن جادة الصواب، وتقوده إلى ارتكاب أبشع الجرائم كالقتل مثلاً، والقرآن الكريم يستعرض هذه الحقيقة بصُور شتّى من خلال آياته البيِّنات، كما إنّ تراث رسول الله (ص) وأهل بيته (ع) مزدحم وزاخر بالحديث والبيان على هذا الصعيد.

والسؤال الذي يطرح نفسه من خلال هذه الزاوية.. ما هو موقع هذه (النواقص) من مفهوم ودور خلافة الإنسان عن الله في أرض الله؟!

إنّ هذا السؤال يتجاهل حقيقة أساسية في منظومة المفهوم الخلافي الذي نحن في صدده.

إنّ الخلافة هنا مسؤولية اختبارية، وليس عطاءً جزلاً يتواكل به الإنسان على اطمئنان ساذج، إنّها امتحان، تجربة.. ولذلك لابدّ أن يكون مزيجاً من قوّة وضعف.. القوّة وسيلة الظفر والتحقّق والتجذر، والضعف وسيلة الفشل والإخفاق.. ولذلك قلنا: إنّ الإنسان في إطار فلسفة الخلافة كائن تجريبي بالدرجة الأُولى، والتجربة تبدأ من داخل ذاته لتنبسط على الوجود والحياة والتاريخ.. فالإنسان مخلوق اختباري، خلق لكي يخوض معركة جبارة قاسية في هذه الدُّنيا. على أنّ الامتحان الإلهيّ هنا، لا يقوم على الاستغفال، وإنّما يقوم على الاستيقاظ، ولذلك فإنّ الإنسان قادر، بل وأكثر من قادر على أن يفوز، وأن يصل إلى الهدف، وأن يركّز وجوده كمخلوق سامٍ ورائع، ونظرة بسيطة إلى محفزات الخير في الكون، كما أنّ تأمُّلاً أوّلياً بقدرات الإنسان الذاتية، تكفيان للبرهنة على ذلك.

الخلافة إذن تطالب الإنسان بتغليب عامل الخير على الشرّ، وبسط عنصر القوّة على الضعف، وترجيح النور على الظلام، وذلك من خلال معرفة ومعاناة، ومن خلال أخذ وعطاء..

هذه المعركة تجسّد الخلافة كاختبار وامتحان، وتجسّدها تجربة فذّة، تسجل التاريخ، وتصنع الحياة.. وتعمر الكون كما مضى سرده على نحو الإجمال.. ومن هنا يتراءى لنا أنّ الخلافة ترتبط جذرياً بالحرّية، أي بالاختيار، وأنّ الإنسان كائن حرّ، هذا مع العلم إنّ الإسلام لا يهتم بالتقرير المبدئي للحرّية، بل يرسم ويصنع عوالم تحقّقها الفعلي في الخارج بفضل الإجراء التشريعي.

وسؤال ثانٍ:

لماذا يُعمِّر الإنسان الوجود؟! إنّه هنا وسيلة وحسب، ولكن هذا التصوّر مغلوط، لأنّ إعمار الوجود يعود على الإنسان بالذات، ومن هذه النقطة نفهم:

أوّلاً: إنّ الإنسان خليفة عن الله في أرض الله لذات الإنسان، فهو الوسيلة والغاية في آن واحد.

ثانياً: إنّ الأشياء كلّها في خدمة الإنسان.

إنّ الله سبحانه غنيّ، لا يحتاج الإنسان في شيء، وعندما جعل الإنسان خليفة، إنّما لقيمة ذاتية محضة تعود على الإنسان أوّلاً وآخراً. وبهذا يشخّص الإنسان أكرم المخلوقات، بل يتبلور كائناً يملأ ذاته، وهو الذي يُفسِّر خلق السماوات والأرض، ويعطيها المعاني التي تترجم كبقية إبداعها وأسرار قوانينها.. وبعد ذلك فإنّ (النواقص) التي تحدّثنا عنها تتحوّل إلى نِعمة خفية عظيمة.►

 

المصدر: مجلة المنطلق/ العدد الواحد والستون لسنة 1989م

ارسال التعليق

Top