النقد هنا لا يتّجه إلى الدحض والنقض، وإنما لتوليد رؤى وأفكار وصيغ جديدة، تحرك الراكد، وتستفز الساكن، وتدفع الجميع نحو المزيد من الحوار والتلاقي. وذلك لأنّ النقد هو اجتراح ممكنات للتفكير، بتشكيل موضوعات جديدة، أو افتتاح حقول جديدة تتغير معها علاقتنا بالمسائل المطروحة، بقدر ما تُفضي إلى فتح علاقات مغايرة مع الحقيقة، أو إلى استخدام أدوات معرفية تغير تعاملنا مع المعرفة بالذات. بهذا المعنى، فإنّ النقد أبعد ما يكون عن النفي لأنّه لا يقوم على دحض المقولات واكتشاف الأخطاء، بقدر ما هو فاعلية فكرية تتيح، عبر استنطاق الخطابات وتأويلها، أو عبر الحفر في طبقات النصوص وتفكيك أبنيتها، تجديد القول ومضاعفة النص، بإشعال بؤرة للأسئلة، أو بافتتاح منطقة لعمل الفكر، أو بانتهاج منحى مغاير في التفكير، أو بابتداع ممارسة فكرية جديدة.
وهكذا لا يتحوّل النقد إلى ممارسة عشوائية، قوامها النقض والاستفزاز، وإنما هو عملية قصدية وواعية، تتّجه إلى اكتشاف مساحات جديدة للنظر والتفكير، وحقول مميزة للعمل والحركة، وآفاق راهنة للتطلع والتحشيد وبلورة الطموح.
وبهذا، فإنّ الحوار والنقد يتكاملان، فلا نقد بنّاء من دون حوارات مستديمة ومتواصلة، تتجه إلى تبديد الجهل المتبادل، وتعميق أسباب الفهم والمعرفة. كما أنّه لا حوار جاداً ومفضياً إلى الحيوية والفاعلية، من دون عملية نقد، تسائِل السائد، وتناقش الموروث، وتبدد الرَين النفسي والفكري.
فالحوار يُكسِب الإنسان التعدد والتنوع في القناعات والأفكار والخيارات، والنقد يؤسس لعملية انفتاح خصبة سواء على مستوى المعاملة أم التجربة وكلاهما (الحوار والنقد) يفضيان إلى غِنى في الشخصية على مختلف المستويات. وأنّ العلاقة بين مختلف التعبيرات والأطياف، لا يمكن أن تُبنى بعقلية الإقصاء ومنطق التحطيم والمحو، لأنّها العلاقة مآلها الأخير المزيد من القهر والعُنف والأحقاد المتبادلة.
لذلك، من الأجدى لنا جميعاً، أفراداً وجماعات، أن تُبنى علاقاتنا بمنطق التواصل والحوار، وبفتح أفكارنا وعقولنا ونفوسنا جميعاً على حقائق التنوّع والتعدد. لأنّ هذا المنطق هو الكفيل بإزالة ما تراكم من سوء في الخطابات والممارسات، في المواقف والقناعات، في الرؤية إلى الذات وإلى المختلف والمغاير.
إنّ المطلوب دائماً، هو الانخراط في مشاريع حوارية، وذلك من أجل إرساء تقاليد للحوار والتعايش والتساكن الحضاري، وحتى يتعمّق خيار المنافسة السليمة وبوسائل ديمقراطية، لا تُلغي ما عدانا، ولا تضخّم ذواتنا، بحيث لا نراها إلّا هي على مستوى الوجود والممارسة المتميزة. وبالتالي فإنّ مفهوم الحوار، ينطوي على قدر من المراهنة على تأسيس لواقع جديد لحياتنا الاجتماعية والسياسية. والإنسان الذي لا يُحسن الحوار مع غيره المختلف أو المغاير، لن يستطيع أن يطوّر علاقاته وأنماط إنتاجه مع المتفقين معه. وذلك لأنّه يفتقد للقدرة المؤهلة لترتيب علاقته مع كلّ الدوائر المحيطة به. ما يجعله فاقداً للإمكانية اللازمة لتنمية أسباب العلاقة وعوامل التعاون بينه وبين نظرائه على مستوى الفكر والمعرفة، وعلى مستوى الفعل والممارسة.
والتعصّب الأعمى للأفكار والقناعات الذاتية، ليست هي الوسيلة الإسلامية والحضارية للدفاع عنها وحمايتها. وذلك لأنّ هذا التعصّب ينطوي على مخاطر وتهديدات، تناقض في كثير من الأحيان جوهر الأفكار وماهية القناعات التي تعصب من أجل الدفاع عنها. فالأفكار بحاجة إلى اختيار وإيمان وقناعة طوعية بها، وكلّ هذه العناصر لا تتحقق بالتعصّب الأعمى لها، وأنّ هذه الوسيلة تزيد من نفور الناس من هذه الأفكار والقناعات. ويشير إلى هذه المسألة أحد المفكرين المعاصرين بقوله: "أما ما هو مشروع، بل ضروري، بشأن العلاقة بين الأفكار وأصحابها فهو: الإيمان بهذه الأفكار، والإيمان شأن آخر يختلف جوهرياً عن التعصّب، ونلاحظ أنّ كلمة التعصّب مشتقة من العصب والعصبية. والعصب جهازٌ في الكائن البشري يستنفره الغضب والخوف والشهوة وما إلى ما هنالك من الأحاسيس ذات المرجعية العصبية. أما الإيمان فمرجعيته العقل – جهاز الوعي والتدقيق والمراقبة والتحليل والحسابات المتأنية. ولا يقلل من مرجعية الإيمان العقلية كونه (الإيمان) يستقر في القلب والوجدان والأحاسيس. لأنّ الإيمان بالدرجة الأولى هو من مقولة العقل. وحتى عندما يستقر في القلب أو الوجدان أو العاطفة، فليس قبل أن يمحصه العقل".
والسؤال المركزي هو: كيف يتم تطوير العقلية الإيجابية المُتسامحة، وبلورتها تعميقها في المحيطين العربي والإسلامي؟
التواصل الإنساني والثقافي: وهو يعدّ ضرورة إنسانية ومساحة حرّية وحيوية وتفاعل متبادل. وإنّ غيابه يعادل خطر غياب قيمة أساسية من قيم الإنسانية والحضارية في هذا العصر.
إنّ التواصل الإنساني بكلّ مستوياته قيمة حضارية ثمينة، ورسالة حوار وتعارف وأرضية تسامح وتعايش بين الثقافات والأفكار المختلفة.
ويجب أن يتجه هاجسنا جميعاً إلى ضرورة إرساء قواعد وأُطر للتواصل المستمر بين مختلف الأطياف والثقافات، واستكمال الشروط الضروري لإطلاق فعلٍ تواصليٍّ شامل، حتى تمارس كلّ هذه الثقافات دورها في البناء والتطوير.
والوحدة الداخلية في أي مجتمع عربي وإسلامي قائمة على احترام التنوّعات والتعدديات، وهو الوجه الآخر لتقدم هذا المجتمع وتطوّره في مختلف المجالات. بمعنى أنّه لا تقدّم اقتصادياً واجتماعياً حقيقيين، من دون وحدة داخلية توفر كلّ مستلزمات التقدم وشروطه المجتمعية.
وفي منظورنا وتقديرنا أنّ فعل التواصل المستديم، هو الذي يحرر الوعي الوطني والثقافي من كلّ التشوّهات والأوهام التي تُغذي حالات القطيعة والإقصاء.
تأصيل قيم الحوار والتسامُح والكرامة الإنسانية في المحيطين العربي والإسلامي، والعمل على تحويل هذه القيم إلى حقائق ووقائع تزيد من فرص الحوار وتعمّق خيارات البناء والعمران.
ولابدّ من الإدراك أنّ الحوار بكلّ متوالياته وأشكاله ومستوياته، هو البديل الطبيعي لعلاقات التنابذ والنفي المتبادل لجملة المدارس الفكرية والسياسية. وأنّ سيادة هذه العقلية الإيجابية ومفرداتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، هو الذي يحول دون نجاح مشاريع التفكيك الجديد للمجتمعات العربية والإسلامية.
ومن خلال هذه القيم والعناصر، نستمد وعينا الحياتي ونصيغ علاقاتنا وتحالفاتنا، ونحدد مواقفنا من مختلف الظواهر الإنسانية.
إنّ موجبات النهوض ومتطلّبات مواجهة التحديات المصيرية، بحاجة دائماً إلى تنقية الأجواء العربية والإسلامية الداخلية من كلّ ما يعكّر صفو التضامن والوحدة، والعمل معاً من أجل توفير كلّ مستلزمات النهوض السياسي والحضاري.
والوحدة الداخلية للعرب والمسلمين بحاجة دائماً إلى إطلاق عملية حوار مستديم، تزيل رُكام الماضين وتؤسس لنمط جديد من العلاقة، قوامها العزّة والحكمة والمصلحة.
لم يكن التنوع الفقهي والفكري في التجربة التاريخية الإسلامية وليد الانقسام والتشرذم والتفرق المذموم، وإنما كان تعبيراً عن حيوية عقلية وعلمية أدّت إلى تعدد الآراء والمتبنّيات المنهجية في عملية الاستنباط ودلالات النصوص، ما أتاح للمسلمين في تلك الحقبة الكثير من الآراء والأفهام وأشكال الحوار المستند إلى العلم والمنطق. ولا نعدو الصواب حين القول: إنّ العديد من منجزات الحضارة الإسلامية ومكتسباتها العلمية والمعرفية والإبداعية، كانت بفعل هذه العقلية، وبفضل هذه الروحية السامية.
لذلك فإنّه من دون تحرير الواقعين العربي والإسلامي، من تلك العقلية التي تحوّل التمايزات الطبيعية إلى مصدر للنزاع والصراع واستخدام القوة، ستبقى إرادة هذا الواقع مرهونة إلى صراعات وحروب مغلقة، لا تزيدنا إلّا ارتهاناً وضعفاً. وإنّ مستقبلنا لن يكون كما نريد إلّا إذا عمل الجميع، كلّ من موقعه وخندقه، على تأصيل قيم التسامُح والحوار وتحرير الإرادة العربية والإسلامية من كلّ القيود التي تكبّلها.
وحده الحوار المستديم والمفتوح على كلّ القضايا والأمور، هو الذي يفكك الأفخاخ الداخلية، ويعطّل دورها السلبي والخطير. وذلك لأنّ في الحوار السليم الاعتبار دائماً إلى الحجة والمنطق والرأي الموضوعي المتجرد.
وآن الأوان لنا جميعاً أن نقف مع ذواتنا، ونعرّض قناعاتنا أمام قيمنا الكبرى ومبادئنا العُليا، ونراجع ممارساتنا وسلوكنا الخاص والعام لتقويمهما ولردم الفجوة بين الواقع والمثال. ►
المصدر: كتاب حوار الأديان وقضايا الحرّية والمشاركة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق