• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

عولمة الإعلام.. بين تصادم الهويات وتفاعلها

د. تركي صقر*

عولمة الإعلام.. بين تصادم الهويات وتفاعلها
يتفق غالبية المفكِّرين والباحثين أنّ العولمة بمعناها العام ليست ظاهرة حديثة العهد، فهي قديمة قدم البشرية ويضربون على ذلك مثلاً: الحضارات القديمة التي تعاقبت على المجتمعات المختلفة والتي أنتجت إمبراطوريات امتدّت إلى ساحات هائلة خارج مركزها وطبعت أقوام وأجناس متنوّعة بطابعها. يقول المؤرِّخ أرنولد توينبي، الذي درس حضارات العالم الإحدى والعشرين، أنّه لم يبق من تلك الحضارات سوى خمس حضارات تشترك كلها في أنّها كانت تنطوي على عقيدة دينية أو اقتبست تلك العقيدة إقتباساً من خارج ترتبها، مما جعلها قادرة على بث روح التسامح في إتباعها وخلق الحماس الروحي أو النزوع الأخلاقي لتجديد تلك الحضارات كلما نضب معين الإبداع لدى أهلها[1]. ويضع توينبي في مقدّمة الحضارات الخمس المستمرة: الحضارة الغربية المسيحية والحضارة الشرقية الإسلامية. وفي العصر الحديث تتجه الرياح صوب فرض الثقافة الغربية بصورة أشد وأقوى حتى أنّنا بتنا نرى أجيالنا المتعاقبة في نهايات القرن الماضي وبدايات هذا القرن قد رُوّضت على إستيعاب كل ضروب الحداثة والعصرنة إلى حد أنّها رُوّضت مع أكثر الظواهر خصوصية في ثقافتنا كالشعر والفن[2]. وهذا التحديث الذي كان يُسمّى حتى الأمس القريب بصيغة مهذبة "الأوربة" أخذ اليوم صيغة جديدة هي "العولمة"، أو كما يطلق عليه الكثير من الباحثين "الأمركة". والفرق كبير بين "الأوربة" و"العولمة" أو "الأمركة". ففي حالة الأوربة كانت الهوية العربية أو الثقافة العربية الإسلامية تواجه الثقافة الأوروبية وكانت المواجهة بين ثقافتين لكل منهما هوية مؤسسة على قيم لحياة الإنسان، لكن مع حركة العولمة أو الأمركة التي نعيش مفاعيلها منذ نصف قرن أو أقل، لا نرى أنّها تحمل أي هوية ثقافية ولا تنطوي على عقيدة أو فلسفة أخلاقية، بل هي تهمش كل ثقافة ذات طابع إنساني وهي في طغيانها الكاسح تنفي الآخر وتبث منطق القطبية الواحدة في الحياة الإنسانية. في ما يمكن تسميته بظاهرة العولمة القديمة لم يكن هناك تطور كبير في وسائل الإعلام، فكانت هناك الوسائل البدائية التي لم تستطع أن تدمج المجتمعات بعضها مع بعض إلا بصورة بطيئة جدّاً وفي مراكز التجمّعغات البشرية المكتظة وليس في الأطراف التي بقيت بعيدة عن التأثيرات الجديدة، إلا أنّ الأمر اختلف جذرياً في العصر الحديث الذي أضحى يُسمّى بحق عصر الإتصالات والثورة المعلوماتية وهذا التواصل التقني الهائل حوّل الكرة الأرضية إلى حارة صغيرة يرى كل فرد فيها نفسه وكأنّه يقف أمام المرآة، بخاصة بعد التطور الأخير المسمّى الإعلام التفاعلي والواقعي الذي يسمح لكل كائن بشري على وجه الأرض أن يشترك به. وبهذا الخصوص يقدم انتوني كيدينز، الإجتماعي في جامعة كامبريج ببريطانيا، مثالاً حول الشعور الجديد للعولمة، فيقول: "إنّنا نعيد تعريف المسائل السوسيوعسكرية بالإعتماد على النظام العالمي ونفسِّر القضايا الإقتصادية بالإعتماد على المنتجات العالمية –مثلاً السيارة العالمية- ونعلل الشؤون الدينية بأسلوب مسكوني أو المواطنة بالكلام عن حقوق الإنسان أو ننتقد التلوث وندافع عن النظافة بحجة حماية الكرة الأرضية"[3]. ونتيجة الثورة الإعلامية الطاغية، بات يتحكّم منتج التقنيات الإعلامية بوعي الناس. فلأوّل مرّة في تاريخ البشرية أصبحت عملية تشكيل الوعي رهناً بصناعة التكنولوجيا لوسائط الإعلام الحديثة. فبحكم الهوة التكنولوجية بين العالم المتقدِّم والعالم المتخلِّف، بات في إمكان شطر البشرية أن يتحكّم في تشكيل وعي البشرية بأسرها[4]. وفي هذا البحث، نود أن نرصد واقع العولمة الإعلامية ومضمون خطابها في ظل صعودها المتواتر وأثر العولمة الإعلامية في تصادم الهويات وتفاعلها دون التخلِّي عن فكرة الإستفادة من هذه العولمة التي أصبحت قضياً مقضياً نتيجة التطور الهائل في تقنياتها وكونها إنتاجاً عالمياً اشتركت في تكوينه كل الحضارات وليس حضارة بعينها.   1-واقع العولمة الإعلامية: لأوّل مرّة في التاريخ تزول حدود المكان والزمان وتصبح مع وسائل الإعلام والإتصال متجاوزة لحدود الدول والمجتمعات، وأصبح بمقدور كل فرد في أي مكان من العالم وفي أيّة لحظة من اللحظات أن يرى ويسمع ويشاهد ويتكلّم مع غيره، فالعالم في أربع جهات الأرض أصبح مرايا عاكسة يشاهد الناس بعضهم بعضاً في أي مكان وفي أي زمان في البحار والمحيطات وفي الفضاء والأجواء وعلى سطح الأرض، وهذه المعجزة الإعلامية التي ينعم بها إنسان اليوم لا يدرك أهميّتها إلا مَن يعود إلى الوراء عشرات السنين فقط ليرى كم كان هناك من حواجز ومسافات تفصل بين الإنسان والإنسان حتى لو كان قريباً منه جغرافياً. فمنذ أن حقق الإبداع البشري تقدماً تكنولوجياً هائلاً قبل بضعة مئات من السنوات بإختراع الحروف المتنقلة تتابعت الإختراعات من صنع الورق إلى الإنتاج الطباعي إلى إستخدام الطاقة البخارية في طباعة الصحف إلى ظهور التلفزيون بعد الراديو وصولاً إلى الأقمار الصناعية والمحطات الفضائية، والأهم في عالم الإعلام الراهن أن وسائل الإعلام والإتصالات أصبحت جماهيرية بمعنى أن فعل الإنتشار والتعميم هو السائد فيها، فالإتصال الجماهيري أضحى يشكِّل جوهر الحياة المعاصرة وروحها بعد أن ارتقت وسائل الإتصال العالمية إلى الذروة في التطور التقني، ويمكن إيجاز السمات الغالبة على العولمة الإعلامية بما يلي: أ‌)     وجود الوسيلة الإعلامية التي تتخطى حدود الزمان والمكان وقادرة على الإنتشار السريع وتتصف بالسرعة اللحظية والتعميم في كل الإتجاهات، فهي لم تعد تنقل رسالة إلى المرسل فقط، وإنّما لمن يشاء أن يلتقطها عبر الفضائيات وشبكات الإنترنت والدخول لهذه القنوات للتفاعل معها بما يعرف حالياً الإعلام العولمي التفاعلي، فالمشاركة الواسعة للناس هي السمة الواضحة للإعلام الحديث إذا لم يعد الفرد مجرد متلقي فقط أو منفعل بالحدث، وإنّما هو مشارك وفاعل ومقرر أحياناً وصاحب وجهة نظر يقولها على الفور، فالإجابة للتو هي الفرصة المتاحة للجميع. وبإختصار، فإنّ العولمة الإعلامية قد نقلت العالم إلى مرحلة جديدة متقدمة في الإتصال وبث المعلومات التي أصبحت متاحة لمن يريد دون قيود أو حدود، فالرسالة وعلى عكس ما كان سابقاً تصل إلى أبعد من مرمى نظر المراسل وأبعد من المسافة التي يصل إليها الصوت البشري والوسيلة الإعلامية تحمل ما يريد صاحبها إلى كل أنحاء العالم خلال أجزاء من الثانية. ب‌) إنّ الميزة الثانية للعولمة الإعلامية هي أنّ لغتها الأساسية هي اللغة الإنكليزية التي كادت أن تحول لغة العالم إلى اللغة الإنكليزية وأضحى مَن لا يتكلم بها أو يستخدمها في عداد الأُميّين ويكفي أن نورد الأرقام والنسب التالية للتأكد من هذه الظاهرة: "إنّ 88% من معطيات الإنترنت تبث بالإنكليزية، مقابل 9% بالألمانية، و2% بالفرنسية، و1% يوزع على اللغات الغربية"[5]. ت‌) إنّ العولمة الإعلامية هي الحامل والرافعة الأساسية للعولمة الإقتصادية وهي لا تتحرّك ولا تتنفس إلا بأوامر من أصحاب الشركات الإقتصادية العالمية الكبرى، ومعروف أنّ العولمة الإقتصادية تحتاج إلى عولمة إعلامية من أجل الإعلان عن السلع والمنتجات وفتح أسواق في مختلف أرجاء العالم وإشاعة نظام التحرر الرأسمالي العالمي، فلقد اتّسع حجم عولمة الإقتصاد مع بداية التسعينات نتيجة الترابط الذي أحكم بين رؤوس الأموال العالمية من جهة وبين أسواق المنتوجات والخدمات العالمية من جهة ثانية وبرزت منظمة (الغات) لتنظيم حرِّيّة تنافس رؤوس الأموال والإلغاء التام للحواجز والقيود والتي تعترض تنقلها وتدفقها على الأسواق. وبات العالم وليس وسائل الإعلام فقط تحت رحمة مئتي مؤسسة إقتصادية هي شكرات متعددة الجنسيات تتحكّم في الإقتصاد العالمي كله. ث‌) إنّ العولمة الإعلامية بما تمثله من وسائل الإختراق إلى كل مكان وإلى كل عقل، قادرة على عولمة الإنسان في كل مجال، متحدية قدرة خصوصياته القومية والفردية على الصمود في وجه مدها الواسع واضعة مناعته الذاتية موضع إختبار عسير. وعليه، فإنّه "على سمع العالم وبصره وفي غفلة من بعض فصائله المهمشة تجري عولمة الإعلام والعلم والتكنولوجيا والثقافة والملكية الفكرية تواكبها محاولة عولمة القيم والأخلاق وأنماط العيش ومناهج التفكير، وفي ظل هذه العولمة الشاملة يُراد أن تتعولم الهويات والخصوصيات كذلك"[6]. ج‌)   إنّ العولمة الإعلامية لم تعد خياراً قابلاً للتبني أو الرفض، بل هي حتمية لا مناص منها ولذلك نجد أنّ أصحاب النظام العالمي الجديد يضعون البلدان النامية أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا القبول بهذه العولمة وتلقي معطياتها أو البقاء على حالة التخلُّف والجمود. فالعولمة بمعناها العام بحسب نظريتهم هي أقرب الطرق وأجداها لتحقيق الحداثة الإجتماعية والسياسية والفكرية للعالم المتخلِّف، وهي أنجع الوسائل للوصول بسرعة إلى التنمية الشاملة لأنّها وحدها القادرة على تأهيله إقتصادياً، وبالتالي فكرياً وإجتماعياً وثقافياً. ويؤكِّد هؤلاء: "إنّ العولمة هي السبيل الوحيد إلى تنمية عالم بلا حدود إقتصادية عالم لا يسود إلا قانون السوق. ويضيفون: إنّ الدول الصغرى لم يعد بإمكانها أن تستغل تناقضات الكبار كما كانت تفعل أثناء الحرب الباردة، وإنّ الإنفتاح السياسي الذي تحقق بين العالم بعضه على بعض لا ينفصل عن الإنفتاح الإقتصادي، فهما معاً أساسيان في مفهوم العولمة، لذلك تربط الولايات المتحدة بينهما ربطاً عضوياً وترهن تعاونها مع الغير بمدى إحترامه والتزامه بالإنفتاحين معاً"[7].   2-مضامين خطاب العولمة الإعلامية: هناك إختلاف شاسع بين خطاب وسائل الإعلام القطرية والوطنية القائم على السيادة الوطنية والإستقلال، وبين خطاب وسائل الإعلام المعولمة القائم على قيم جديدة هي قيم العولمة التي تتبنى الديمقراطية الغربية واقتصاد السوق والحرِّيّة الفردية وعقاب السيادة الوطنية أمام المد العالمي وانضواء المحلي بالعالمي، ويمكن أن نشير إلى الركائز الأساسية لخطاب العولمة الإعلامية، وهي: أ) التعددية: يقول خطاب العولمة إنّ العالم الحديث يتسم بالمنافسة بين المصالح المختلفة وبصورة متشابكة ومعقدة للغاية. ولهذا يؤكِّد هؤلاء على الديمقراطية التي يصيغونها: "بأنّها تعطي الحرِّيّة للكل وإفساح المجال لهم للعمل ضمن قوانين اللعبة الديمقراطية لسيطرة كل شخص على غيره بغية تنظيم الحياة السياسية والإقتصادية بأسلوب يعطي الفائدة القصوى للمجموعة الناجحة في هذه المنافسة، عن طريق السيطرة على السلطة لتقوم بضبط تصرفات الآخرين مع المعارضين"[8]. ولكن التعددية بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي لم تعد الخطاب العولمي المفضل، لأنّ وظيفة التعددية قد اضمحلت بعد هذا الإنهيار بسبب استخدامها وتوظيفها سابقاً للترويج دعائياً بتفوق الرأسمالية على الشيوعية ويخشى دعاة التعددية من أن تؤدي المنافسة في الإقتصاد الرأسمالية على الشيوعية ويخشى دعاة التعددية من أن تؤدي المنافسة في الإقتصاد الرأسمالي إلى التصادم المسلح، وهذا يؤذي المجتمع الرأسمالي ويضعفه في منافسة الأنظمة الرأسمالية الأخرى الأجنبية. ويخطئ مَن يظن أنّ هناك تعددية بمعنى التعددية في الولايات المتحدة، فقد أصبح الفرق بين الحزبين المتنافسين الديمقراطي والجمهوري يحتاج إلى "ميكروسكوب" لملاحظة الفرق، كما أنّ الفروق لا تذكر بين حزب بلير وحزب المحافظين في بريطانيا، ولذلك راحت صراعات الطريق الثالث أو إيديولوجية الطريق الثالث تنتشر وتحل محل التعددية، يقول البروفسور كيدينز في جامعة كيمبرج: "على الحكومة أن تتظاهر بالليبرالية وتسمِّي نفسها عمّالية وتعمل في خدمة الرأسمالية وبهذه الطريقة تصبح الحكومة ملكاً للكل.. لكل الشعب"[9]. ب) الليبرالية: من الحوامل الرئيسية لخطاب العولمة الإعلامية الحديثة بث مبادئ الليبرالية التي تعني التحررية، وهي كلمة ذات بريق خاص استخدمها السياسيون لكسب الجماهير إليهم، ويمكن تقسيم الليبرالية حسب مجالاتها في الدين والإقتصاد والسياسة. ففي الدين تظهر أكثر ما تظهر البروتستانتية وهي تؤكِّد على الحرِّيّة العقلية وعلى المحتوى الروحي والأخلاقي في المسيحية. ويؤكِّد أصحاب الحركة البروتستانتية على ضرورة السير مع الزمن والإستفادة من رأي الناس، بل رأي الشباب بشكل خاص لأنّ الأخلاق تتطور مثل أي شيء آخر. فإذا رفض المتدينون اللحاق بالعصر الحديث، فإنّ ذلك سيؤدِّي إلى إنقارض الدين. والليبرالية الإقتصادية تقوم على الحرِّيّة الفردية وعلى المنافسة الحرّة. أمّا الليبرالية السياسية، فهي كفلسفة قائمة على الإيمان بالتقدُّم وعلى استغلال الفرد الذاتي وتنادي بحماية الحرِّيّات السياسية والمدنية. في ظل العولمة تخاطب وسائل الإعلام المعولمة كل الناس للإنضمام إلى المسيرة العالمية التحررية والحد من تدخل الدولة بقصد إنجاز نمو من نمط جديد. وعلى رغم الفوارق الثقافية – التاريخية بين الأنظمة والبلدان والجهات، فإنّ العولمة تسعى إلى التقليص منها إن لم نقل إلى محوها، وهكذا "نجد أنّ العولمة الإعلامية تجمع في خطابها بين الإشتراكي الديمقراطي الأوروبي مع الليبرالي الأمريكي والعمالي البريطاني كما يتحالف الجمهوري الأمريكي والمحافظ البريطاني مع الليبرالي الفرنسي مادام الأمر يتعلق بالإستراتيجيات الكبرى التي تهم الرأسمالي العالمي"[10]. ت) البراغماتية: وهي تُشكِّل مضمون أساسي من مضامين خطاب العولمة وهي الفلسفة الذرائعية الأمريكية التي تعني فيما تعني أنّ الأُمور بنتائجها أو كما يقال الأمور بخواتمها. فالنتائج العملية هي المقياس لتحديد الأفكار الفلسفية وصدقها، والشخص البراغماتي هو شخص فضولي ومغرور وذوعلاقة بفلسفة الذرائع أو منسجم معها والتي تضع المبادئ جانباً بذريعة تحقيق الهدف أو الغاية التي يريدون. ولذلك نجد أنّ العولمة الإعلامية الحديثة تركز على إعتبار الفعل هو الحسنة العليا للفرد وليس مقدار ما يمتلك من إيمان أو طاقة نظرية أو إيديولوجية، ولذلك راح الكثيرون يرددون بزوال عصر الإيديولوجيات، أو كما قال فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ): "إنّ التاريخ هو لإيديولوجيا واحدة هي الإيديولوجيا الرأسمالية التي أثبتت إنتصارها على كافة الإيديولوجيات". ويقوم الخطاب الإعلامي المعولم على أنّ العادة هي النتيجة المؤثرة بينما المعرفة هي عبارة عن مجرد وسيلة للعملية الناجحة، يقول وليام جيمس –أحد مؤسِّسي هذه النظرية–: "إنّ أي فكرة من الأفكار تصبح صحيحة مادمنا نؤمن بأنّها مربحة كحياتنا.. وإنّ الصحيح هو النزوع إلى جر المغانم من غير إعتبار لأخلاقية الوسيلة في طريقة تفكيرنا"[11].   3-أثر العولمة الإعلامية في تصادم الهويات: يقوم منطق العولمة على القول بوحدة العقل وقطبيته في الحياة الإنسانية، بينما يقوم منطق الهوية على القول بمشروعية التنوع والإختلاف في آلية العقل الإنساني وفي مجرى الخبرة الإنسانية، ويلاحظ من هذين المنطقين أن تصادماً لابدّ أن يقوم بينهما لأنّ المنطق الأوّل الذي أنتج العولمة الحديثة تمّ دفعه بإتجاه إعتماد القطبية الواحدة الذي لا يحمل أيّة هوية محددة المعالم وتهميش كل الهويات الأخرى أو جعلها تدور في فلك العولمة أي تهميش الثقافة الوطنية واللغة القومية بفرض لغة وثقافة القطب الإقتصادي المهيمن الذي ينتج وحده ويفرض لغته وطريقته عبر وسائل الإعلام والإتصال والتواصل وحده أيضاً. وبالنسبة للعولمة الإعلامية، فقد أصبحت تقدم للمتعلِّم والمثقّف كل ما كان يقوم به. وبالنسبة للعولمة الإعلامية، فقد أصبحت تقدم للمتعلِّم والمثقف كل ما كان يقوم به أو يمتحنه بنفسه، تقدمه له جاهزاً موثقاً فتغنيه عن الإنتقال في الزمان والمكان، كما توفر عليه معاناة تطوير خبراته الجمالية والإستدلالية، فيصبح تلقيه للمعارف والخبرات تلقياً آلياً تمهيداً لجعل الإنسان في المستقبل نسخاً متكررة (فتوكبي) تفكِّر وتتذوّق وتستدل بطريقة موحدة تقريباً، والأمور التي تستعصي على التوحيد وعلى هذه الآلية من النسخ والتكرار كالشعر والفلسفة وبعض الفنون والفلكلور فسوف يلحق بها الإنقراض شيئاً فشيئاً. وهكذا تؤثر العولمة في الحياة البشرية لتشكل بمنظور أصحابها إنساناً معولماً مهمشة كل الهويات والخصوصيات القومية لتنتهي إلى فرض نموذج وحيد للحياة الإنسانية في مجالات الثقافة والإقتصاد والإجتماع. لكن هذا سوف يصطدم لا محالة بالخصوصيات أو بالهويات الثقافية الوطنية لأنّه إذا أمكن تحقيق عولمة الصناعة والإنتاج التكنولوجي ووسائل الإعلام، إلا الجوانب الروحية والمعنوية في حياة الإنسان من لغة وعقيدة وذوق وتراث حضاري لا يمكن عولمتها لأن هذه الجوانب تختص بها الثقافة وتعبر عنها الهويات الثقافية المختلفة. وسرّ التصادم هنا هو الإختلاف بين الواحدية الثقافية التي تنطلق منها العولمة وبين الثقافة بمعناها الذي يعبر عن الهويات المتعددة التي هي في نفس الوقت تعبير عن الحرِّيّة الإنسانية في أعماق معانيها. فالثقافة هنا تعارض الفكر الكلي والثقافة المركزية، وحين تدأب وسائل الإعلام المعولمة في أن تجعل الثقافة ثقافة عالمية ومن وحدة العقل ووحدة مفهوميته منهجاً واحداً فمعناه تغييب حرِّيّة الإنسان وتزييف هويته وتحويله إلى قطيع واحد يقوده راع واحد، ومن مراجعة التاريخ الإجتماعي للإنسان وفي كل الحضارات السابقة كان واضحاً عدم صدقية هذه المقولة وكانت الغلبة في النهاية للتعددية والتنوع. نحن لا ننكر تأثير وسائل الإعلام العالمية في التقليل من شأن الهوية الوطنية المنغلقة على نفسها وغير القابلة للإنفتاح، إلا أنّ محو الهويات غير ممكن على الإطلاق فقد تنتصر العولمة في مجالات الحياة المادية، ولكن العولمة تظل دون تحقيق انتصار في مجال إقصاء الهويات الثقافية ولاسيما الهويات التي تقوم على منظور شمولي للكون والحياة. وخلاصة القول إنّ العولمة الإعلامية تؤثر في الحياة المادية إلى درجة عولمتها ولكنها في الجانب المعنوي والروحي غير قادرة حتى الآن على عولمته.   4-أثر العولمة الإعلامية في تفاعل الهويات: تستطيع عولمة وسائل الإعلام أن تؤثر في الهويات الثقافية المتنوعة بإتجاه تفاعلها وتكاملها لأن هناك قاسم مشترك بين الحضارات التي كسبت واكتسبت من بعضها البعض وشكّلت تياراً جامعاً متلاحقاً من المكتسبات نقل البشرية في بعض المراحل نحو التلاقي والخروج من عهد الصراعات إلى عهد توحيد الإنسانية وأصبح جلياً بعد كل التصادمات السابقة أنّ هناك مسلّمات فلسفية ومثل واحدة كوحدة النوع الإنساني واستعداد كل المجتمعات للحضارة، كما أنّ هناك تمازج بين الحضارات أوصلت البشرية في الوقت الراهن إلى تشريعات مدنية متماثلة مع بقاء الحلم بتوحيد البشرية في حضارة واحدة. إنّ الإعلام المعولم يلعب دوراً إيجابياً إذا أخذ من كل حضارة وكل ثقافة إيجابياتها وقام بالتعميم والإنتشار وتعريف الآخر بما يملكه غيره فيفيد ويستفيد وتتكامل الثقافة وتتلاقى الهويات بدلاً من أن تتصادم وتتحارب ويغزو بعضها بعضاً. فالعولمة لن تتحقق لمحو الهويات المختلفة وإدخالها قسراً في هوية الأقوياء، بل أصبح ضرورياً أن تتسم المكتسبات المدنية والأخلاقية بالإجماع العالمي مع محافظة الحضارات الوطنية المختلفة على ذاتيتها وخصوصيتها. يقول ماك لوهان: إنّ عولمة الإعلام عن طريق وسائل الإتصال والتواصل جعلت من الكرة الأرضية قرية صغيرة وأصبح الإنسان يحيا في فضاء عالمي بلا حدود يعيش لحظات أفراحهم وأتراحهم لحظة وقوعها ويشاهد بعينه كل يوم صورة واضحة المعالم والقسمات عن نظيره في كل مكان. ومما لا شك فيه أنّ دور الإنترنت أساسي في هذه العولمة، كما أنّ تطور الهواتف النقالة جعل الإنسان أسير هذه الثورة العالمية التي تتحكّم في مسيرتها شركات الإتصال والتواصل وتقوم وسائل الإعلام العولمية بدور بالغ في هذا التكامل إذا كان هناك من هدف لإبعاد شبح التوتر والحروب والتدمير رغم أنّ هذا ليس ملحوظاً في التطور الذي تشهده العولمة في مجالات الإقتصاد والثقافة، حيث أنّ القطب الأحادي يسعى لتوظيف العولمة لمزيد من الهيمنة والسيطرة وتهميش الآخرين وتغليب الطرف الأقوى على الجميع. في نهاية المطاف، تستطيع وسائل الإعلام أن تركِّز على جوانب التكامل والتفاعل، فلا العولمة قادرة مهما امتلكت من أدوات أن تقتلع من ضمائر الشعوب وفكر الأُمم هوياتها الثقافية والعالم الذي تريده الشعوب هو عالم لا تهيمن فيه ثقافة على الثقافات الأخرى ولا تطمس فيه الهويات والخصوصيات حتى لا نبدو عالماً "روبوتي" الصفات والحركات والتوجهات، يغدو فيه الفرد نسخة مكررة وطبق الأصل والبشرية فيه فاقدة لنعمة تنوع بشرتها ومتعة اختلاف طعمها وذوقها ولونها ونمط تفكيرها وعيشها. نخلص إلى القول إنّ للعولمة حسناتها وآثارها الحميدة لا يمكن نكرانها، كما أنّ هناك سلبياتها وآثارها الخطيرة إذا تركت على غاربها يتحكّم فيها الأقوياء على حساب الضعفاء، وكذلك الهوية بخصوصياتها وتميزاتها تشكل معلماً إيجابياً في حياة الشعوب وفي خدمة الحضارة الإنسانية دون أن نغفل أنّ هناك تعصباً وإنغلاقاً وتطرُّفاً بإسم الهوية القومية والوطنية مما يعني أن تتكامل العولمة مع الهوية وأن تجمع إيجابيات هذه بتلك لنصل إلى عالم متنوع وواحد في وقت واحد.   5-العولمة والإعلام العربي: من غير الجائز أن نذكر العولمة وتأثيراتها دون أن نأتي على ذكر العربي وموقعه من هذه العولمة التي أضحت سمة العصر الذي نعيش. هنا تطرح جملة من الأسئلة: أين يقف الإعلام العربي من قضية العولمة؟ هل هو منفعل بها أم أن دوره دور المتلقي والناقل لأفكارها؟ أم أنّه أيضاً دور التابع تبعية تامة لمساراتها وأهدافها؟ والسؤال الآخر: هل يستطيع الإعلام العربي أن يكون على الأقل فاعلاً ومنفعلاً في تيار العولمة يأخذ ويعطي؟ يتلقى ويرسل؟ يقدم خصوصية الأُمّة ويعرض هويّة العرب ويظهر ثقافاتهم وحضارتهم. من غير عناء في البحث والتمحيص يبدو أنّ الإعلام العربي يعيش مرحلة من العجز لأنّه طري العود وتابع ولاهث وراء إستيراد التقنيات والتجهيزات والبرامج والمنظومات. وعدا عن ذلك كله ينطلق من خطاب إعلامي مقولب ويستمد مضمونه من سلطات ليست ديمقراطية، بل معظمها وراثي وقمعي واستبدادي، وهذا يجعل الخطاب الإعلامي بارداً لا روح ولا حيوية فيه، يغلب عليه الطابع الرسمي الوظيفي وتطغى عليه اللهجة البروتوكولية حتى أنّه يُسمّى إعلام استقبل وودِّع. لكن الأخطر في تأثير العولمة الإعلامية على النفسيّة العربية هو ما تقوم به الفضائيات من تحذير وتنويم لمعظم السكّان العرب الذين بالأساس لا يقيمون وزناً للوقت ويهدرون الزمن بلا حساب ويعرقلون بأوقاتهم ولا يعرفون كيف يتصرّفون بها. وجاءت الفضائيات لتزيد الطين بلّة، فلم يعد ينام المواطن العربي أو يستيقظ إلا على أنغام الفضائيات وبرامجها التي تحتوي على مضامين تعزل الشباب عن واقعهم وتجعلهم يعيشون أوهام وأحلام خلّبية ويدخلون في واقع افتراضي بعيد عن الواقع الحقيقي. إنّ أكثر ما يشكِّل خطراً كبيراً على العرب هو أنّ العولمة الإعلامية قد أدخلتهم في مرحلة من الإجترار لمعطيات الغير وخطاب الغير وأفكار الغير وحتى إحلال ثقافة الغير محل ثقافتهم وقيم الغير محل قيمهم ما أمكن. ولا نبالغ إذا قلنا أنّ مظاهر "الببغاوية" الإعلامية القائمة على التقليد والتقليد كما هو معروف يقود إلى التبعية قد أصبحت تملأ الفضاء العربي غرباً وشرقاً، وهذا ما تهدف إليه هيمنة القطب الإعلامي الأوحد في العالم الذي يسعى إلى تنميط الشعوب وأخذها إلى حيث النمط الجديد والأسلوب الجديد في الحياة وطغيان هذا الأسلوب على كل ما عداه ومع ما يتبع ذلك من حاجة دائمة للمركز أو القطب الواحد الذي يضخ الأفكار والإعلانات وقيم العيش ونمط وأسلوب الحياة الجديدة وتحويل الجميع في النهاية إلى سوق استهلاكية يتحكّم فيها هذا القطب الأوحد.   والسؤال الكبير المطروح: ما هو الحل؟ قد تكون الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى كثير من التمعُّن والإحاطة والبحث، إلا أنّنا يمكن أن نقول أنّ على الإعلام العربي لكي يكون مؤثراً ومستفيداً من المعطيات الإيجابية للعولمة وقارداً على نبذ سلبياتها وإيضاح هذه السلبيات للمواطن العربي، أن يكون مجتمعياً وأن ينطق بلسان تعددية القوى السياسية والإجتماعية ويخدم مصالح الشرائح الأوسع للمجتمع لا أن ينحصر خطابه في التعبير عن مصالح فئة أو سلطة أو رئيس أو ملك. وعلى الإعلام العربي أن يتحرر من القيود الرسمية والوظيفية القاتلة وأن يميل دوماً إلى تحبيذ الحوار وحرِّيّة الرأي والتعبير وصوغ خطاب إعلامي متكامل يتضمّن كل وجهات النظر في المجتمع الذي يصدر عنه. وأن إعلام عربي فيكل دولة ليس بمقدوره أن يتصدى للمخاطر التي تحيط بالعرب، فلابدّ أن يكون المنطق هو إعلام عربي جماعي ومشترك، فإنحصار الإعلام العربي في البوتقة المحلية أو القطرية وعدم مد اليد لتضامن عربي إعلامي يوحد على الأقل خطاب إعلامي عربي ينطلق خارجياً ودولياً يجعل العرب الأقل وزناً في عالم العولمة الإعلامية، كما يؤدي ذلك كله إلى فشل الإعلاميات العربية واحدة تلو الأخرى، فمن غير المعقول أن توحدنا التكنولوجيا الإعلامية الجديدة ولا توحدنا الثقافة الواحدة واللغة الواحدة والتطلعات العربية الواحدة نحو الديمقراطية والحرِّيّة والمساواة ومواجهة أخطار العدوان والإحتلال والإجتياحات العسكرية وغير العسكرية المحيطة بالوطن العربي من كل جانب. ·       كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري      الهوامش:  
[1] - كتاب العولمة والهوية الصادر عن مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية عام 1997/ ص70. [2] - نفس المصدر/ ص82. [3] - العولمة والديمقراطية/ كمال مجيد/ دار الحكمة/ ص27. [4] - الإعلام العربي وتحديات العولمة/ د. تركي صقر/ وزارة الثقافة/ ص146. [5] - العولمة والهوية الصادر عن أكاديمية المملكة المغربية عام 1997/ ص125. [6] - نفس المصدر/ ص123. [7] - نفس المصدر/ ص129. [8] - العولمة والديمقراطية/ دار الحكمة/ كمال مجيد/ ص144. [9] - نفس المصدر/ ص114. [10] - العولمة طور هائج اللرأسمالية/ جريدة الحياة اللندنية/ 9/4/1999/ ص16.

[11] - العولمة والديمقراطية/ دار الحياة/ كمال مجيد/ ص120.

      المصدر: مجلة المعرفة/ العدد 504 لسنة 2005م

ارسال التعليق

Top