تأسيس بُنى التسامح ليس عملاً إرادياً بقدر ما هي تراكم منظومة القيم.
التسامح حالة لا تبلغها إلا الحضارات المزدهرة.
الإقرار بالتنوع نابع من سموّ الروح.
"لا أحبّ التسامح، ولكنني لا أجد أفضل منه" (غاندي).
لعل أكثر انشغالات المشهد الفلسفي الحالي، تتمحور حول مفاهيم التسامح والعدالة، ومضامين الصفح، وهي محاور تؤسس لعدالة مرحلية، تُشكل انتقالاً للأُمم من مرحلة لأخرى في مسيرة تطورها الحضاري، لا سيما إذا ما تعرضت لصراعات وحروب أهلية، لأنّ أحد أهم مكونات النزاعات السياسية والصراعات الداخلية تلك التي توصف بالصراعات الدينية والإثنية والطائفية والقومية...
ولعل أحد أهم مكونات تأسيس دولة حديثة، في مرحلة ما بعد الحروب الأهلية، هو تجاوز تلك الصراعات، وبناء مساحة من التعاون، مبنية على مسامحة حقيقة بين الأطراف، فالصفح يُعد البوابة الرئيسية التي لابدّ من المرور بها لبناء ديمقراطية فعلية.
إنّ إحدى القضايا الأكثر جوهرية بالنسبة للرقي الإنساني الحقيقي، تتأسس حول ماهية وكيفية تأسيس الرؤية العقلانية عن التسامح، والسؤال الذي يُطرح دائماً حول أي منظومة قيم تلك القادرة على بناء التجانس والإنسجام الفعلي في كينونة الفرد والجماعة والأُمّة والثقافة والدولة تجاه النفس والآخرين.
وهي مهمة يتوقف تحقيقها على مستوى تأسيس حقيقة التسامح، وبما أنّ التسامح هو شكّل التعايش العقلاني للقيم، من هنا تصبح مهمة تأسيس منظومة القيم وتعايشها الطبيعي الصيغة العلمية الضرورية للتسامح نفسه.
بيد أنّ عملية تأسيس بنى التسامح ليست فعلاً إراديّاً محضاً، بقدر ما هو تراكم لصيرورة القيم بوصفها منظومة متكاملة. فلكل جماعة بشرية منظومتها الفكرية والعقديّة الخاصّة عن التسامح مما يجعل الأمر جزءاً من معاناة الأُمم نفسها؛ لذلك يبدو التسامح قيمة نسبية ومطلقة في آن، فهي قيمة نسبية لأنها تختلف من أمة لأخرى ومن دين لآخر، وهي مُطلقة داخل المنظومة الثقافية الواحدة.
والسؤال هو: هل يمكن تأسيس منظومة تسامح عقلانية قادرة على أن تكون منظومة كونية؟
إنّ التسامح بوصفه قيمة، ينبع ويتراكم في مجرى ثقافة الأُمم، وتجاربها كافّة بما فيها الروحية، وقد شهدت الحضارات مواقفاً كرست قيماً أخلاقية راقية. وإن كان الحديث عن التسامح المطلق صعباً، غير أننا يمكن أن نؤكد على أنّ القيمة المجردة للتسامح هي نسبة ضرورية، إن لم نقل حتمية في نظام السمو الإنساني، وهي قيمة أقرب ما تكون إلى فكرة الواجب الأخلاقي أو المرجعية المتسامية.
فالصفح ليس فكرة طوباوية، بقدر ما هو قوة روحية كامنة في شيفرة تراكم سيرورة الروح الإنسانية في رحلة حياتها أو حيواتها نحو انعتاقها إلى بارئها؛ ويكمن دور الكائن الإنساني في تحويل تلك القوة الكامنة فيه أصلاً من وجود كامن إلى وجود بالفعل، وترجمة قدرات الروح الصفحية والتسامحية إلى سلوك ظاهر يتجلّى من خلال إنفتاح حتى على من يُصنف انّه "عدّو".
وليس مصادفة أن تصل الثقافات العالمية الكبرى في مجرى تطورها إلى الانفتاح الداخلي والخارجي، لأنّها تدرك بفعل منطق التطور الروحي إلى ضرورة تجاوز الحدود التي تفرضها نفسية الغريزة، أو ما كانت بعض الفلسفات القديمة تطلق عليه اسم القوة الغضبية.
إنّ هذه الحالة لا تبلغها إلا الحضارات المزدهرة دون شك، لأنّها تكون قد ارتقت في ذروة إدراكها الروحي حيث يصبح الصفح جزء من حقيقة منظومة تكامل الإنسان الكوني.
وإذا ما تناولنا الحضارة الإسلامية مثالاً في مجرى تطورها التاريخي وإزدهارها، فإننا نرى الانتقال التدرجي والتراكم النوعي في مواقفها من النفس والآخرين؛ بمعنى أنها مرت بدروب المعاناة الفعلية في قبول الخلاف والاختلاف لتحوله في نهاية الأمر إلى "رحمة إلهية" و"حكمة ربانية"، وذلك بالإنتقال من خلال مناهج العلم والعمل وجعلها أسلوباً لترقي المعرفة العقلية والروحية؛ فارتقت بهذا الصدد للدرجة التي جعلت من قبول إنجازات الأوائل والأواخر والتفاعل معها نموذجاً شاملاً، كما نراه على سبيل المثال في الموقف من الثقافات والأديان والأقوام والملل. ففي مجال الرؤية الثقافية ارتقت إلى مصاف تصنيف الأُمم على أساس موقفها من العلوم والفلسفة، وفي مجال الأديان ارتقت إلى مصاف بلورة وصياغة نظرية التسامح الروحي في الموقف من الأديان وتوجتها لاحقاً بفكرة وحدة الأديان، لاسيما عند ابن عربي، وهي فكرة استلهمت بصورة نموذجية حقيقة الأبعاد الروحية في الوحدانية.
لعل طرح مفهوم الإنسان الكوني – من خلال استلهام فكر ابن عربي – تنطلق من إعادة اكتشاف وجد الوجود من خلال ما هو موجود بمعايير المثل المتسامية، فالله هو محور الجذب المطلق في الكون، وما وجد في الكون إلا كائنات انبثقت عن حضرة التكوين، وكل ما تولد من كائنات يدور في الفلك الرباني ويعبد الله على طريقته الخاصة به، وبما أننا كائنات إنسانية فإنّ تجليات استعدادات إمكانياتنا الروحية تبدو أكثر وضوحاً بالنسبة لنا؛ فالإنسان مجبول على العبادة لأنها مفطورة فيه ومن ثم فإنّ التعبير عنها من خلال الطقوس أو المعتقدات ليس سوى تجل لما يناسبه من استعدادات.
فما عبادة الأُمم لله وشرائعها وأديانها ليس إلا هو إبداع لوحي الأُمّة الذاتي، ونابع من تلقائية إدراكها له. وبما أنّه غير متناه، لهذا وجدت كل أمة فيه ما هو مناسب لاستعدادها الخاص.
فما تنوع الديانات إلا تجل للحقيقة الوجودية ودرجة من درجات إدراكها في الوقت نفسه، وبناء عليه فإنّ الديانات لا يُنظر إليها بمعايير المؤمنين والكفار، فالكل مؤمن أصالة، ولا تقاس الأُمم عندها بمقاييس الشرائع، فالإقرار بالتنوع نابع من سموّ الروح ومكون أساسي في هوية الإنسان الكوني، الذي يجعل القلب كياناً قادراً على التنوع في الصور واحتواءها في الوقت نفسه.
عندها تتحول الأديان وكتبها والطبيعة وما فيها إلى تجليات للمحبة، باعتبارها سر من أسرار الوجود، فهي التي تمنح لكل ذرة معناها الخاص بوصفها نسبة في نظام المطلق، وما رجوع الكائن الإنساني إلى نفسه إلا رجوعاً إلى معالم روحه المطلقة.
إنّ هذا الطرح يضع الروح في أرقى درجات التسامح فتنتفي "الأنا" المتعارضة مع "الآخر"، وهي الحالة التي تبلغها الثقافة المزدهرة عندما ترتقي في مدارج الإدراك الروحي للحقيقة القائلة، بأنّ التسامح في حقيقته هو منظومة التكامل الإنساني في دروب الحرِّية والنظام.
المصدر: مجلة ثقافة التقريب/ العدد 15 لسنة 2008م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق