• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

قيم الحوار والتعايش في الرؤية الثقافية/ ج2

الشيخ محمد علي التسخيري

قيم الحوار والتعايش في الرؤية الثقافية/ ج2

◄5 - مكان الحوار: عدم وجود أي نوع من المؤثرات التي تنعكس سلباً على أحد الأطراف أو مجموعهم أو على المراقبين، هو ما ينبغي أن يكون عليه مكان الحوار. وقد يتمثل هذا المؤثر في أجواء استفزازية أو انفعالية أو صاخبة، أو مؤثرات ناتجة عن أجواء التهويل؛ فيكون المتحاورون منساقين حينها وراء تأثيرات العقل الجمعي، ومن أمثلة ذلك ما ذكره القرآن الكريم من أجواء الانفعال والاستفزاز التي كان المشركون يخلقونها للتأثير على مسير الحوار الذي يقوم به الرسول (ص)، ولا سيما بعد اتهامه – والعياذ بالله – بالجنون، فدعاهم الرسول (ص) إلى نبذ هذا التهويل والصخب، والتأمل في التهم التي وجهوها له بغية استئناف الحوار في إطار الموعظة الحسنة:

(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) (سبأ/ 46).

ولا شك أنّ التطور التقني أضاف للتأثيرات البشرية في المكان تأثيرات أخرى سمعية وبصرية وضوئية وهندسية، لا تقل أهمية وتعقيداً في خلق أجواء خاصة وتأثيرات نفسية هائلة على المتحاورين أو الحضور أو المراقبين.

6- زمان الحوار: وهو عنصر مهم في اختيار الموضوعات والأهداف وينبغي في تحديد زمان الحوار مراعاة ظروف أطراف الحوار من النواحي الاجتماعية والنفسية والاستعداد العلمي، وظروف انعكاس الحوار على الآخرين، وأهمية موضوع الحوار زمانياً؛ فربما يكون لموضوع بعينه أهمية خاصة في زمان ما، ثمّ تعدم هذه الأهمية في زمان آخر.

7- منهج الحوار: وهو النظام الذي يسلكه الحوار وفقاً لمجموعة من القواعد العامة. ومن بديهيات الحوار العلمي أن يكون منهجه واضحاً ومرسوماً، ويفترض بأطراف الحوار أن تكون متفقة على قواعده؛ لكي يكون ملزماً لها جميعاً، كما تذكر الآية الكريمة: (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) (الأعراف/ 71)، فهذه الأسماء أراد المشركون أن يفرضوها جزءاً من منهج الحوار، ولكنها لا يمكن أن تكون ملزمة لمن لا يؤمن بهذا الجزء من المنهج.

ونطرح هنا أهم معايير منهج الحوار العلمي في إطار الرؤية الثقافية الإسلامية.

أ‌-       التعارف والتوعية والمقصود منه تعرف كلّ طرف على حدود معينة من حقائق الطرف المقابل ومعتقداته وآرائه، من مصادرها نفسها وليس من مصادر غيره، ولا سيما أعدائه، بهدف التمكن من إلزامه ما ألزم به نفسه والاحتجاج عليه بمصادره نفسها. وكذلك مبادرة أطراف الحوار إلى التعريف بمعتقداتها ووجهات نظرها ويدخل في هذا الإطار مبدأ التوعية؛ فالإسلام دين التوعية والتربية، وهو بمقتضى واقعيته وفطريته يقرر لزوم القيام بتوعية كلّ إنسان يراد له أن ينضم إلى معسكره، وكلّ مجتمع يراد للإسلام أن ينفذ إلى عمقه.. إنّه يعرض جوهرته الثمينة؛ لأنّه يعلم أنّ قيمتها ستنكشف بكلِّ وضوح للجميع، ولذا فهو يرفض التقليد في العقيدة، ويرفض عملية الإكراه العقائدي، ويدعو أتباعه إلى أن يكونوا أقوياء في البصر والبصيرة ويأمر – في مجال التعامل مع الآخرين – بالدعوة البينة الواضحة قبل كلّ شيء".

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت/ 33)، (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف/ 108)، وبالنسبة إلى الحوار مع غير المسلمين، فإنّ البداية بحقائق الرسالة ومعالمها الرئيسة، معززة بالحجج والبراهين، وفي إطار النقاش المنطقي السليم. وتنقل كتب الحديث أنّ الرسول (ص) حين بعث الإمام علي (ع) إلى اليمن قال له "يا علي لا تقاتلنّ أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام، وأيم الله لأن يهدي الله عزّ وجلّ على يديك رجلاً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس وغربت".

ب‌- الوضوح: أي استخدام المنهج الصحيح بصورة واضحة دون لبسٍ أو تورية أو التواء، وعدم الخلط بين الحقِّ والباطل، حتى من أجل الوصول إلى الحقِّ كغاية تسوغها الوسيلة! يقول الإمام الصادق (ع):

"لا تمزج الحقَّ بالباطل، وقليل من الحقِّ يكفى من كثير من الباطل".

ومن أساليب الإبهام في الحوار كما يقول الإمام الجويني:

الاحتيال على المحاور حتى يخرجه عن محل تساؤله، وتوجيه كلامه إلى وجوه محتملة إضافة إلى استخدام المغالطات واسطة في المنهج.

ج- الموضوعية: ومن أبرز عناصرها: التجرد ونبذ التعصب والابتعاد عن القناعات السابقة والمواقف المبيتة والأحكام المعدة سلفاً خلال تنفيذ الحوار، حتى لو كانت أطراف الحوار على يقين مطلق بمعتقداتها ووجهات نظرها، فهذا التجرد يخلق جواً من الصدق في الوصول إلى الحقيقة كهدف نهائي للحوار، مهما كانت هذه الحقيقة، على النحو الذي يدعو فيه النبي (ص) النصارى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ/ 24).

وهذه الدعوة هي قمة التجرد والاستعداد لتقبل نتائج الحوار مهما كانت وأينما كانت، رغم اليقين المطلق للرسول الأعظم (ص) بصحة معتقداته. يقول الفيض الكاشاني في حديثه عن شروط الحوار:

أن يقصد بها إصابة الحقِّ وطلب ظهوره كيف اتفق، "ظهور صوابه وغزارة علمه وصحة نظره، فإنّ ذلك مراء منهي عنه بالنهي الأكيد".

ويضيف:

أن يكون في طلب الحقِّ كمنشد ضالة، يكون شاكراً متى وجدها، ولا يفرق بين أن تظهر على يده أو يدي غيره، فيرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرّفه الخطأ وأظهر الحقِّ.

وهذا يعني أنّ الموضوعية لا تتلاقى مع هدف استعراض القابليات العلمية خلال الحوار، أو القدرة على امتلاك أدوات الجدل، والتنكيل بالخصم ومن شروط الموضوعية في منهج الحوار تقديم الدليل على الرأي والفكرة برهاناً على صحتها وصدقها: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة/ 111). والشرط الآخر هو التقيد بالحقائق والأفكار التي يعتقدها الطرف الآخر، والإحتجاج بها، وفقاً لقاعدة "الزموهم بما الزموا به أنفسهم"، وعدم الإحتجاج بما يفهم المحاور من حقائق الآخر، أو الاعتماد على ما ينقله الخصوم والأعداء. وهذا الشرط هو تتمة لمعيار التعارف.

د- اعتماد المشتركات: فلابدّ، ابتداءاً من اكتشاف الحقائق والمرتكزات المشتركة بين الطرفين؛ لتكون قاعدة رصينة يقف عليها المتحاورون، ومقدمات واقعية ينطلقون منها للوصول إلى حقائق كلية: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (آل عمران/ 64).

8- أسلوب الحوار: ويقصد به آداب الحوار وسلوكيات المتحاورين. وقد قدّمنا في الحديث عن أطراف الحوار قسماً من المؤهلات السلوكية التي ينبغي أن يكون عليها أسلوب الحوار، كاللين والمرونة وضبط النفس والتوازن في المشاعر وغيرها، إضافة إلى الانفتاح السلوكي المدروس على الطرف الآخر، واحترام مشاعره ومعتقداته، ومحاورته بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن، فهذه الأساليب كافية لتترك في نفسه انطباعاً جيِّداً عن شخصية المحاور وطبيعة أهدافه ومعتقداته أما الأساليب السلبية، كالتحريض وإثارة الفوضى والشغب، والتحامل والتشنج والتعصب الأعمى والتكبر، واستخدام أسلوب المغالطة، والانكماش والتهرب، والاستهزاء والسخرية، فهي مرفوضة في الحوار المنشود، وقد نهى الإسلام عن ذلك: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت/ 46)، فكيف بالحوار بين المسلمين أنفسهم!؛ فقيمة الحوار في الرؤية الإسلامية لا تعرف المهاترات والسباب؛ لتسببها في انعكاسات سلبية حادة. يقول تعالى:

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام/ 108)، وتدخل هنا قيم سلبية أيضاً، كالإتهام والافتراء والتفسيق والتهديد بالإخراج عن الدين والرمي بالإرتداد، دون تمحيص وبحث عقيدي وفقهي واف، فللارتداد والتفكير معايير وقواعد دقيقة جدّاً بحثها الفقه الإسلامي بعناية، بالصورة التي لا يكون فيها هضم لحق أحد وسلب لحقوقه الاجتماعية والإنسانية فالتسرع في إطلاق الأحكام خلال الحوار، لتحقيق أجواء غير موضوعية، تتقاطع تماماً مع الرؤية الإسلامية، فضلاً عن أنّ هذه الأساليب (لا سيما التهديد بالعدوان وسلب الحقوق الاجتماعية والحكم المتسرِّع وغير المدروس بالردة والكفر) تؤدي إلى وضع عكسي، وتجد أنها تسببت في بروز ردود فعل عنيفة ضد الدين، بالصورة التي حدثت حيال أساليب الكنيسة في التعامل مع الآخرين خلال عصور أوربا الوسطى، ثمّ أدت إلى ظهور ألوان فاقعة من الإلحاد والانحراف والعلمانية والسقوط والتطرف.

والإسلام يأمر بعدم مواصلة الحوار عند تجاوز الطرف الآخر حدود الحوار وآدابه كممارسة الاضطهاد والتهديد والافتراء والتهريج: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) (النساء/ 63)، أو إصراره على عدم قبول الدليل والحجة والبرهان، رغم وضوحها وقاطعيتها: (وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (هود/ 53)، حينما يدخل الحوار مرحلة العبث وتضييع الوقت، ويستحيل خلالها تحقيق فائدة بالصورة التي يصف فيها القرآن الكريم حوار رسول الله (ص) مع الكافرين: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) (البقرة/ 6-7).

من جهة أخرى ينبغي الاتفاق بين الأطراف على لغة حوار مشتركة، وعلى مستوى علمي وفكري معين من اللغة؛ لكي يحصل التكافؤ في إيصال الرأي والرأي الآخر، كما في الحديث الشريف: "نحن معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم" والواقع إنّ الخطاب الإسلامي الجديد المتطور، ينبغي أن يسود لغة الحوار الإسلامي المعاصر؛ فلكلِّ مرحلة خطابها ولكلِّ مرحلة لغتها وأساليبها الفنية الناجحة في الحوار، على اعتبار أنّ هذا الجانب متجدد ويدخل في إطار المتغيرات، شرط أن لا يخرج التجديد عن الثوابت الأسلوبية في الحوار الإسلامي، وهذا التجديد تعبير عن حركية الإسلام وقدرته المطلقة على استيعاب كلّ متطلبات الزمان والمكان وتلبية حاجاتهما.

9- نتائج الحوار: وهي ما يترتب على الحوار بعد انتهائه من حقائق وأرقام جديدة تعلن عن تفوق أو انتصار أو براءة أحد أطراف الحوار، وتؤدي بالطرف الآخر إلى التحول في الرأي كلياً أو جزئياً أو تدفعه لمراجعة ذاتية لآرائه ومعتقداته التي عُرِّضَتْ للنقد والاهتزاز والهزيمة، وكذلك مراجعة أخرى لأساليبه ومنهجه وخطابه. وقد ينتهي الحوار بتراضي الطرفين وتفاهمهما أو تساويهما في النصر والهزيمة، أو إقدامهما على حالة وسط جديد، والمهم هنا هو قبول كلّ أطراف الحوار بالنتائج مهما كانت، وعدم التعصب والاعتزاز بالخطأ. وبديهي أن يكون لجهاز الإدارة والتحكيم الدور الأساس في حساب النتائج، بالوسائل الموضوعية التي سبقت الإشارة إليها.

  التعايش في الرؤية الإسلامية:

في أجواء الاختلاف يكون التعايش على أساس التعددية التي يرتضيها الإسلام، هو الحل الكفيل بتجنب مشاكل الصراع والتضارب في الرؤى والأفكار والمعتقدات بشتى ألوانها. ولا يعني التعايش القبول بنسق واحد من التفكير والسلوك، وصهر الجميع في بوتقته، كما لا يعني التنازل عن الحقِّ أو توزيعه على المتعايشين بنسبة متساوية، وفقاً لمفهوم التعددية Pluralism الذي يفهمه الغرب، بل يعني أن يحتفظ كلّ طرف بوضعه الخاص، ويمارس نشاطه الديني أو المذهبي أو الفكري أو السياسي، في إطار الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الإسلام بمضامينها المتوازنة والمرشدة، والتي لا تسمح لأيِّ طرف بسلب حقوق الآخرين أو الإخلال بأمن المجتمع، مهما بلغت قوة هذه الطرف عدّة وعدداً والصورة المثلى للتعايش هي صورة دولة المدينة التي كان اليهودي والنصراني يعيشان فيها بأمان إلى جانب المسلم وفي كنف الدولة الإسلامية، وكان الحبشي والرومي والفارسي يتمتعون فيها بكلِّ حقوق المواطنة كالعربي تماماً، وهكذا تعايش المهاجرون إلى جانب الأنصار، وتعايش الآوس والخزرج معاً، بل كان يعيش فيها أتباع التيارات الفكرية والسياسية التي تشكل لوناً من المعارضة، وفي المقدمة تيار المنافقين والمشركين: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (سورة الكافرون)، لقد كان الجميع يدركونَ حقوقهم وواجباتهم، ويمارسونها بالصورة التي قننها الإسلام.

وتستند الرؤية الإسلامية في مجال التعايش مع الآخرين إلى أساسين رئيسين، هما:

1-   المصلحة الإسلامية العليا على ضوء الواقع القائم.

2-   الصلاة والرحمة الإنسانية والعلاقات الأخلاقية.

ويستقي التشريع الإسلامي في كلِّ مجالاته من هذين المعنيين فيعتبران من أهم سمات التشريع الإسلامي في شتى جوانبه. أما العناصر الرئيسة التي تحدد نوعية العلاقة بين المسلمين وغيرهم كآلية للتعايش، فأهمها:

1-   الأمة المثال: يصف القرآن الكريم الأُمة الإسلامية بالوسطية، ويريد به المثال الأسمى والأُمّة الشاهدة التي كانت خير أمة أخرجت للناس، وهذا العنصر يدفع الأُمّة باتجاه السمو والتكامل في كلِّ المجالات، والاستفادة الأكمل من تجارب الآخرين، ويعني ذلك الانفتاح على كلِّ مجالات الحياة، وحمل رسالة إنسانية حضارية كبرى.

2-   المبدئية: وتقضي بنوعين من التعايش: الأوّل بين المؤمنين، وهو تعايش أخوي، ويعني وحدة الأفراد في مجمل الشؤون. والنوع الثاني مع الآخرين، ويحدد طبيعته مقدار قرب أو بعدهم هؤلاء عن المبدأ الإسلامي الذي يحدد مضمون التعايش معهم، كأن يكون ودِّياً حسناً أو يشوبه القلق.

3-   نفي السبيل على المؤمنين: ويعني أنّ أيَّ تصرفٍ أو وضع معاهدة تؤدي إلى تفوق الكافرين على المسلمين يعد ملغياً من أصله (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا) (النساء/ 141)، وهذه القاعدة تعد من القواعد الثانوية التي تستطيع الحكم على الأحكام الأولية بمجموعها. وهذا التوجه لا يعبِّر عن نوع من التكبر، إذ تعمل هذه القاعدة على أساس معايير إنسانية.

4-   التوعية والدعوة: فالتعايش لا يعني تجاوز حقائق الإسلام التي تؤكد استمرار التوعية والدعوة. ويقتضي التعايش المتوازن والعلاقات السلبية بين فئات المجتمع أن تركز النوعية على أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (الشورى/ 15).

5-   العدالة: يشكل العدل أهم أصول التصور الإسلامي للواقع، وأهم الأسس عند التعامل الاجتماعي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) (النساء/ 135)، ولعل الآية الكريمة: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة/ 8)، تعبر بدقة عن أهمية العدل في معادلات التعايش، حتى في حالات التوتر التي يكاد أن ينسى فيها العدل. ومن خلال النظر إلى طبيعة تعامل دار الإسلام مع غير المسلمين، ندرك البعد الإنساني في عنصر العدل. وهو ما يفسر أيضاً وقوف الإسلام إلى جانب المستضعفين والمحرومين في كلِّ مكان.

6-   تأليف القلوب: في الأجواء التي يحكمها تأليف القلوب، تنفتح النفوس على الحقيقة وتتقرب إلى الواقع. ويعود هذا العنصر إلى تشريع سهم المؤلفة قلوبهم في مصارف الزكاة، والذي فتح المجال للوقوف إلى جانب المستضعفين والدفاع عن قضاياهم واجتذابهم نحو الإسلام، والإنفاق عليهم بما يحققه مصلحة الإسلام العليا، وتعميق التعايش الإيجابي بين مختلف إتجاهات المجتمع.

7-   الوفاء بالعهد: ويقصد به الوفاء بكلِّ العهود والاتفاقات التي تعقد بين المسلمين وغيرهم (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا) (الإسراء/ 34). ومن هذه العقود ما صرّح به الإسلام وحدّد لها قوانينها العامة، ومنها ما يرى ولي الأمر ضرورتها لتحقيق مصلحة إسلامية عليا. ومثال الأولى: عقد الهدنة وعقد الأمان، ومثال الثانية: العقود الاقتصادية والعسكرية وغيرها.

8-   التعامل بالمثل: مبدأ جزاء الإحسان بالإحسان، ومبدأ القصاص: مبدءان واقعيان يرتضيهما المنطق الإنساني والتعامل الفردي والاجتماعي، وهدفهما ردع الاعتداء واستقطاب القلوب. يقول تعالى:

(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة/ 194). وهو يعني باختصار التعامل مع الآخر بالمثل: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة/ 8).

 

المصدر: مجلة آفاق الحضارة الإسلامية/ العدد 7 لسنة 2001م

ارسال التعليق

Top