• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كيف نخلق البيئة الحضارية؟

السيِّد محمّد تقي المدرسي

كيف نخلق البيئة الحضارية؟

◄هناك ظاهرة برزت في عالمنا الإسلامي في العقود الأخيرة، ألا وهي ظاهرة هجرة الأدمغة من البلدان الإسلامية إلى ‏البلدان الأكثر تطوّراً؛ فالإحصائيات تشير في هذا المجال إلى أنّ عدد الخبراء في مختلف الحقول الذين هاجروا من‏ البلدان الإسلامية إلى الغرب قد بلغ خلال عقد الثمانينات فقط مليوني خبير، في حين بلغت خسائر الدول النامية بسبب‏ نزيف الأدمغة هذا ما يقرب من ستين ألف مليون دولار خلال عام واحد .

سبب ظاهرة هجرة الأدمغة

إنّ بعض الخبراء يفسّرون هذه الظاهرة بالشلل الإداري السائد في البلدان النامية؛ فالإنسان المتعلّم إنّما بذل الجهود المتواصلة في الدراسة والتخصّص بهدف إفادة بلده وشعبه، ولكنّه عندما يتخرّج من الجامعة تراه يُزجّ في دائرة من‏الدوائر، ليجلس وراء المكتب، ويقبض مرتبه، ولكنّه في قرارة نفسه يشعر بعدم الارتياح لعلمه بأنّه لا يؤدِّي خدمة في المجال الذي تخصّص فيه، ولأنّ التخلُّف الإداري سدّ أبواب العمل في وجهه، أضف إلى ذلك أنّ وجود الديكتاتورية والاستبداد والضغط الفكري شأنه أن يمنع المتوقد الوهّاج من أن يقدِّم خدمة إلى بلده، فتراه يعيش حالة من التناقض ‏والانفصام، فيتمزّق داخلياً، ويحاول أن يستغل أيّة فرصة للهروب والخلاص من بلده إلى البلدان المتقدِّمة، حيث لا يتمتع بوضع معاشي أفضل فحسب، وإنّما الفرص متاحة هناك أكثر لتقديم خدماته، والتعبير عن إرادته وأفكاره، وثقافته.

إنّ هذه الظاهرة هي ـ في الحقيقة ـ جزء من مشكلة أكبر، هي مشكلة عدم وجود بيئة للتطوّر في بلداننا.

وعلى سبيل المثال؛ فإنّ ما أنفقته البلدان العربية خلال عقد من الزمن على المشاريع الإنمائية يفوق أربعمائة وخمسين‏ ألف مليون دولار، ولكن أيّاً من هذه البلدان لا يمكننا أن نصفه بأنّه بلد متطوّر ومتقدِّم، وهذه مشكلة لا أطرحها أنا فحسب، فهناك الكثير من الخبراء والباحثين مشغولون بمناقشة هذه المشكلة، للعثور على حلٍ لها، فتشكّلت أثر ذلك‏ الاجتماعات المكثّفة، وعقدت المعاهدات الإستراتيجية للقضاء على هذه المشكلة .

والسبب ـ ببساطة ـ هو أنّ الجوّ العام السائد في البلدان الإسلامية غير مهيّأ للتنمية الاقتصادية، فعندما ندرس الثورة الصناعية في بريطانيا ونتساءل عن سبب وقوع هذه الثورة في بريطانيا وفي ذلك العصر بالذات، نجد أنّ الظروف كانت ‏مهيّأة لذلك. فنحن عندما نريد أن ننمّي الاقتصاد في بلد ما، فإنّنا بحاجة إلى وقود رخيص، وأيدٍ عاملة، واختصاصات‏ في المجالات الفنّية والتكنولوجية المختلفة، ونحن أيضاً بحاجة إلى الخبرة المكثّفة، والنظام الإداري المتطوّر، والنظام‏ التسويقي المناسب، والتمويل الكافي، وإلى العشرات من الظروف والعوامل المساعدة لكي ينمو البلد اقتصادياً، وإذا فقدنا شرطاً واحداً من تلك الشروط المتعدِّدة، فإنّ الاقتصاد لا يمكن أن ينمو، بل إنّ الاستثمار في مجال من المجالات ‏سيعدُّ نوعاً من الحماقة والسفه .

وعلى سبيل المثال؛ ففي السودان بعض المناطق الزراعية النائية التي تسودها حالة الوفرة والغزارة في المحاصيل، ولكنّ‏ هذه المحاصيل ـ على وفرتها ـ منعدمة القيمة بسبب انعدام الطُّرق التي توصل هذه المنطقة بغيرها من المناطق التي ‏تعيش حالة المجاعة والعوز؛ وهكذا فإنّ الاستثمار في تلك المنطقة، يُعدّ أمراً لا جدوى منه .

الحاجة إلى خلق البيئة المناسبة

وبناءً على ذلك؛ فإنّنا بحاجة إلى أن نرجع إلى قضية هامّة في التطوير الحضاري لبلادنا، ألا وهي البيئة المناسبة للنمو الحضاري في مختلف الأصعدة والمجالات. ولا يمكن تحقيق ذلك إلّا أن نخلق في المجتمع الروح الإيجابية، ومن ثمّ إيجاد حالة التعاون كما يقول تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة/ 5).

وهنا لابدّ من القول: إنّ هذه التجمعات المباركة المنتشرة هنا وهناك هي نواة الحضارة، فعلينا أن نبدأ بأنفُسنا، ونشرع ‏بالعمل الجدّي من خلال خلق الروح الجماعية في أنفُسنا في جميع الأعمال التي نؤدِّيها، فنبادر مثلاً إلى إنشاء لجانٍ‏ ومؤسّسات للتأليف، ومراكز دراسات وأبحاث، وتشكيل فِرق العمل العلمي كأن تتخصّص كلّ مجموعة في جانب ما بعد أن تعيّن مشرفاً عليها ينسّق بينها وبين مجموعات العمل الأُخرى .

وهذا النوع من العمل الجماعي نحن بحاجة إلى ممارسته في جميع المجالات العملية، كالفقه والتفسير والأُصول، والفروع ‏الأكاديمية في الجامعات.. ليتوسّع إلى أن يتحوّل إلى نواة للحضارة، وهذه الحضارة إنّما تبدأ منّا، وتنطلق من نفوسنا، وتستند إلى مبادرتنا .

والإسلام يأمرنا بالتعاون، لأنّه أرضية الحضارة، فمن المستحيل أن يبني شخص من الأشخاص حضارة أو عملاً كبيراً بمفرده، وعلينا في هذا المجال أن نتأمّل حياة الشعوب المتطوّرة التي استطاعت أن تحقّق نجاحات باهرة في مجال التقدّم ‏التكنولوجي، لكي نستفيد من تجاربها وخبراتها في هذا المجال .

ففي فرنسا ـ على سبيل المثال ـ كانت واسطة النقل الوحيدة في باريس هي (المترو)، وكانت أكثر تطوّراً من ‏وسائط النقل الأُخرى، ومع ذلك فقد اجتمع الخبراء ليخترعوا واسطة نقل أُخرى أكثر سرعة، فصنعوا (مترو) آخر تحت المترو السابق، وأطلقوا عليه اسم (الخطّ السريع) الذي يقطع المسافة بين أقصى نقطة في ‏باريس إلى أقصى نقطة خلال دقائق معدودة .

السبيل إلى البيئة الحضارية

إنّ شعوب العالم المتقدّمة تحسب حساب الثواني واللحظات، في حين إنّنا مازلنا نضيّع الساعات الطويلة في الأُمور التافهة التي لا جدوى منها، والسبب في ذلك أنّ بيئة التطوّر لدينا غير مُهيّأة، فكيف السبيل إلى تهيئة هذه البيئة، وكيف ‏نصنع البيئة المتحفّزة، والإنسان الحضاري؟؟؟

إنّ علينا ـ من أجل الوصول إلى هذا الهدف ـ أن لا يمنع بعضنا البعض الآخر من التحرّك السريع، وبذل النشاط، والمبادرة إلى تبيّن مشاريع التطوير. فلابدّ من أن نتّخذ مقياساً جديداً في تجمّعنا، وهو مقياس التحرّك، لكي نسرع ‏جميعاً في تحرّكنا، فإذا ما أسرعنا معاً، وخلقنا بيئة وظروفاً مناسبة للسرعة فإنّ هذه السرعة سوف تنفعنا، لأنّ البيئة كلّها غدت متلائمة مع السرعة.

وللأسف؛ فإنّ أكثر ظواهر تضييع الوقت السائدة بيننا سببها أنّ علاقاتنا الاجتماعية غير قائمة على الأُسس الصحيحة، وفيما يلي سنذكر بعضاً من الظواهر السلبية التي يفرّط من خلالها أبناء مجتمعاتنا بأوقاتهم:

1-    مجالس البطالة التي تُقام أساساً لتضييع الوقت، في حين أنّ الحديث الشريف المروي عن الإمام الحسين‏ (ع) يقول: «يابن آدم إنّما أنت أيّام كلّما مضى يوم ذهب بعضك‏»[1].

فالوقت هو جزء من طبيعة الإنسان.. وهو خُطانا نحو الموت كما يقول أمير المؤمنين ‏(ع): «نفس المرء خُطاه إلى أجله»[2].

فلنلغِ ـ إذن ـ مجالس البطالة لأنّ هذه المجالس تسهم بشكل فاعل في تأخّرنا عن مسيرة التقدّم في الحياة، والتي ستكون ‏سبب حسرتنا يوم القيامة، لأنّنا أهدرنا أوقاتنا فيما لا طائل من ورائه، وإذا ما اضطررنا بسبب الظروف المختلفة أن‏ نشترك في مثل هذه المجال فلنمرّ عليها مرّ الكرام، أو لنحاول أن نبدّل وجهة الحديث فيه من خلال طرح بعض الأفكار والمقترحات، وإثارة جوّ النقاش في القضايا المهمّة والساخنة والمصيرية.

2- المواعيد غير المنتظمة والدقيقة، فإنّها مضيعة للوقت، كأن تواعد أحد أصدقائك بأن تأتيه إلى المكان الفلاني في‏الساعة الخامسة ـ مثلاً ـ ثمّ يأتي صديقك حسب الموعد أمّا أنت فتسوّف في هذا الموعد فلا تأتي إلّا في الساعة السادسة، أو قد ينعكس الأمر، فيكون المتأخّر هو صديقك، وهذه الظاهرة في تضييع للوقت تنتهي بالإضرار بكلا الطرفين، في حين أنّ القرآن يؤكِّد علينا في أن نكون دقيقين ومنضبطين في مواعيدنا، وقد قال اللهُ سبحانه وتعالى بشأن النبيّ إسماعيل (‏ع): ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ﴾ (مريم/ 54)، وعن سبب نزول‏ هذه الآية يقول المفسّرون: إنّ هذا النبيّ العظيم انتظر رجلاً سنة كاملة في نفس المكان الذي وعده فيه لكي يثبت ‏للآخرين أهمّية وقدسية الوعد الذي يقطعه الإنسان على نفسه بالنسبة إلى الآخرين، والمثل المعروف يقول في هذا المجال: (وعد الحرّ دين‏) أي إنّ الوعد هو بالنسبة إلى الإنسان الحر دين عليه أن يؤدِّيه .

وبناءً على ذلك فإذا أردنا أن نصوغ المجتمع المستعد للتطوّر الحضاري وإذا أردنا أن نهيّئ أرضية التقدّم والتحضّر فيه، فلابدّ من الالتزام بجميع القيم والعناصر والتعاليم الحضارية التي ذكرتها نصوصنا ومصادرنا الدينية، والتي كان ‏المسلمون الأوائل ملتزمين بها أشدّ الالتزام[3].►


[1]- نهج السعادة، الشيخ المحمودي، ‏ج7، ص398.

[2]- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج70، ص128.

[3]- الحضارة الإسلامية ـ آفاق وتطلّعات، الفصل الثالث: في البناء الحضاري.

ارسال التعليق

Top