إسلامية المعرفة: تعني منهجية إسلامية قويمة شاملة تلتزم توجيه الوحي ولا تعطل دور العقل، بل تتمثل مقاصد الوحي وقيمه وغاياته، وتدرس وتدرك وتتمثل موضوع اهتمام الوحي وإرشاده، وهو الفرد والمجتمع الإنساني والبناء والإعمار الحضاري وما أودع الله في هذه الكائنات والعلاقات من فطرة ومن طبع، وكيفية توجيه تلك الطبائع وتفاعلها وكيفية تطويعها واستخدامها. كل ذلك من أجل تفهم هذه الكائنات وعلاقاتها حتى يمكن تسخيرها لتوجيه الإسلام وغاياته.
والمعرفة الإسلامية: تعني وتتمثل بالضرورة القدرات والإنجازات العلمية والحضارية الصحيحة كافة، تلك التي توارثتها البشرية وأنتجتها بعد أن تمحصها وتزنها بميزان الإسلام وشمولية قيمه وتوجيهه وغاياته. وهي تعني أيضاً معرفة ناقدة بصيرة تتمثل وتتمكن من كل معرفة صحيحة وتعني كذلك أنّها تصدر عن قيم الوحي وغايات الرسالة، وتتصل بكل صحيح ونفيس من تراث الأمة وفكر علمائها ومفكريها على مرّ العصور والقرون.
ومن الواضح أنّ أسلمة المعرفة تتركز بشكل مؤكد على العلوم الإنسانية والاجتماعية. وليس ثمة موضع لها في العلوم الطبيعية إلا قليلاً، فليس ثمة مشكلة كبرى في هذه العلوم إلاّ في الغايات النهائية والمقاصد الأخيرة، فعلى سبيل المثال لابد من أخذ الضوابط الشرعية في موضوع خطير كالهندسة الوراثية، أو في علم نقل الأعضاء. وهذا الأمر مرتبط ـ كما هو واضح ـ بتطبيقات هذه العلوم وبأهدافها. أما في مجال البحث العلمي. فلا يبدو مشكلة كبرى.
إلا أنّ المعضلة تبرز بوضوح في العلوم الإنسانية، إذ أنّ هذه العلوم لم تنفصل عن البيئة الغربية وتأثيراتها وتصوراتها وجذورها الفكرية ورؤيتها للإنسان والكون، ومن هنا كان المسلمون يحاولون تنقية هذه العلوم وتهذيبها أو أسلمتها أي جعلها ذات جذور إسلامية وعلى صلة وثيقة بالواقع الإسلامي والرؤية الإسلامية. أي أنّ ميدان أسلمة المعرفة يتصل بالعلوم الإنسانية والاجتماعية التي جاوزت خارطتها العشرين علماً من علوم النفس والإنسان والاجتماع والتربية والاقتصاد والسياسة والإعلام... وهي كلها بدون استثناء من مولدات العقل الغربي الذي صاغها وبنى مقدماتها بما يلائم فلسفته وفكره ونظرته المركبة المعقدة إلى الكون والإنسان والحياة. وبسبب هيمنة هذه العلوم وتطبيقاتها الناتجة بدورها من هيمنة الحضارة الغربية ومناهجها وبسبب تصادمها حتى مع الحقائق والمعتقدات الدينية الإسلامية الصحيحة، فإنّ الأخذ بهذه العلوم على ما هي عليه يصنع ازدواجية ثقافية أو معرفية، ويؤدي إلى تشطير الإنسان المسلم بما يدفعه إمّا إلى هجران دينه والتمسك بهذه العلوم بكل ما تحمل كلمة علم من إيحاءات الثبوت والقدرة على البرهنة والإثبات بعكس الحقائق الدينية التي لا تخضع للاختبارات والإثباتات الحسية، أو رفض هذه العلوم والمعارف، والتمسك بالمنطق الإيماني والأخلاقي وحده. وكلا الخيارين لا يؤديان وحدهما إلى نهضة الأمة المسلمة، فالخيار الأول يؤدي إلى التبعية المنهجية والثقافية وضياع شخصية الأمة والفرد وهويتهما مما يقضي على إمكانيات نهوضها، إذ لا يمكن لعملية النهوض هذه أن تنطلق بدون مقومات ذاتية وشعور بالاعتزاز والثقة بالهوية والاعتماد على الثقافة الذاتية، أي الوعي الكامل بالذات ووعي الأهداف التي تصبو إليها والتي تحقق من خلالها ذاتها وتوقها إلى العالمية وعدم التخلف عن الركب الحضاري.
أما الخيار الثاني، فأنّه يؤدي ولاشك إلى إهمال عنصر أساس من عناصر النهضة وهو المعرفة المنتجة والخلاّقة والمبدعة القادرة على تحقيق النتائج السريعة والانتصار على عنصر الإيمان بالغيب وحده، أي الإيمان بدون العلم.
إنّ هدف مشروع أسلمة المعرفة، هو إخراج العلوم الإنسانية من الاتجاه المادي الوضعي، ومن انحصارها في المحسوسات، ومن دورانها في حلقة الذاتية والتمركزإلى رحاب العالمية، ولذلك يكون طرح المعرفة الإسلامية في العلوم السلوكية خدمة للبشرية عامة، وهدفاً إسلامياً ضرورياً.
المصدر: جداليات الفكر الإسلامي المعاصر
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق