ترتبط الأوضاع الإقتصادية ومدى صلاحها أو فسادها بالنظام الاقتصادي الحاكم في المجتمع من حيث مبادئه وقيمه وقوانينه وتشريعاته، تنظيماته وبرامجه المانعة للفساد، ويتأثّر كل ذلك بفلسفة الحياة والنظرة إلى المادة، كونها وسيلة أو غاية، وقيمة الملكية والثروة والمال في الحضارة الإنسانية ودورها الاجتماعي.. وبالتالي، تأثير كل ذلك على الفرد وسلوكه الإقتصادي والحوافز المُحرِّكة له والغايات التي يسعى لتحقيقها والوسائل التي يستخدمها للوصول إلى غاياته.
ولكل مفردة ممّا ذكرناها إرتباط بالتي بعدها، فحوافز الفرد وأخلاقياته الإقتصادية، تلعب دور المُحرِّك أو الموجِّه لسلوكه الفاسد أو دور المقيّد والمهذّب له، وكذلك النظام الذي يعمل بتشريعاته إلى تعديل السلوك الاجتماعي العام وتوفير العدالة وتكافؤ الفرص أو إنّه يُسبِّب عكس ذلك فيُوفِّر الإمكانات ويُسخِّر الثروات لطبقة دون أخرى ويُسهِّل عملية نهبها للمال العام وإفسادها في الإقتصاد. وأخيراً، يأتي دور الحدود والمحرمات والعقوبات كقوّة ردع وإعاقة للفساد وصدّ للفاسدين وإعادة الأموال المسروقة إلى أصحابها الشرعيين. ولسنا هنا بصدد التفصيل في النظام الإقتصادي الذي يرسي الإسلام مبادئه ويُنظِّم مناهجه وغاياته، فذلك يستحق لوحده بحثاً مستقلاً، بل أبحاثاً عديدة، ويمكن الرجوع إلى أفضل ما كتب بهذا الباب: كتاب "إقتصادنا" للإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ولكن نهدف إلى إعطاء صورة أوّلية تساعد في بيان منهج الإصلاح الإقتصادي في الإسلام، خصوصاً بعد أن عرفنا فيما سبق خطورة الفساد الإقتصادي، ومدى المواجهة الكبيرة للإسلام، من خلال دستوره القرآن، مع هذا الفساد وملاحقته لأسبابه ونتائجه، لتكون الصورة متكاملة.. فمن جانب يلاحق الإسلام الفساد ويكافحه، ومن جانب آخر يضع الأُسس والبرامج التي تصلح الأوضاع وتحول دون الفساد، ونبدأ أوّلاً بدراسة المبادئ الأساسية للمنهج الإقتصادي في الإسلام والتي تعتبر بدورها مبادئ وأسس عامّة للإصلاح الإقتصادي فيه. 1- إرساء النظرة الأخلاقية للمال: في نظر الإسلام: الحياة ليست فرصة عابرة لكي تقوم العلاقات الإقتصادية على أساس المنفعة الشخصية والأنانية دون مراعاة لحقوق المجتمع ومنافعه.. والدنيا ليست داراً للبقاء، فالآخرةُ تستحق التضحية والعناء، والمال ليس له قيمة ذاتية، ولا هو هدفٌ مطلقٌ ليصل له الإنسان بأيّة صورة، وتكون قيمة الإنسان بأرقام فلكية وبحجم مدخراته. إنّ كل الأفكار الحاكمة في المجتمعات المادية تُحوِّل العالم إلى غابة يسيطر فيها الأقوياء ويضيع فيها الضعفاء ويفترس القوي فيها الآخر قدر ما يستطيع دولاً وشعوباً، من دون إلتزامات أخلاقية ولا مبادئ سامية، ليحيا مَن يحيا في ترف وإسراف يلعب بالمال ويتلاعب بالإقتصاد العالمي، دون أي إهتمام بملايين الناس الذين يتضوّرون جوعاً ويموتون لنقص الغذاء وفقد الدواء.. ويفقد بذلك الإنسان إنسانيته، ولا يحس بآلام إخوته الذين يعيشون على نفس هذه الأرض بأسوأ حياة، دون تكافل أو تضامن من دول أخرى لا يعنيها سوى زيادة قوتها وثرواتها، ولا يهمّها إلا التخطيط لمزيد من السيطرة والإستعمار ونهب الثروات. ولذلك كلّه فالإسلام يبدأ بالإصلاح من ألف باء النظرة إلى الحياة ومهمّة الإنسان ودور المال ووظيفة الإقتصاد، فالنظرة والفكرة هي التي توجِّه السلوك وتقود المناهج، فإن صلح الإنسان صلح العالم، وإن فسد أفسد كل شيء من حوله. ولذلك ركّز الإسلام من خلال الرؤية القرآنية، والتي جاءت السنّة مبينة ومفصلة لها على إرساء تفسير خُلقي للملكيّة في الإسلام، يُوجِّه السلوك ويُنظِّم البرامج الإقتصادية في المجتمع بإتجاهٍ بنّاءٍ وصالح، والمقصود بذلك: التصوّرات المعنويّة التي أعطاها الإسلام عن الملكية ودورها وأهدافها، وعمل لإشاعتها بين الأفراد لتصبح قوّة موجّهة للسلوك ومؤثرة على تصرفات الأفراد التي تتصل بملكياتهم وحقوقهم الخاصة. ويمكن لنا بإيجاز أن نلخص تلك التصورات بما يلي: أوّلاً: إنّ الله تعالى هو خالق الكون وباعث الحياة، وهو صاحب كل شيء فيه، فهو مالك الوجود ورب العالمين، والمال ماله، وإليه ترجع أصول الملكيات، يتصرّف فيها كيف يشاء، وتمضي فيه إرادته. ثانياً: إنّ الناس خلفاء الله في الأرض وأمناؤه عليها وعلى ما فيها من أموال وثروات، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا) (فاطر/ 39). فالإنسان، وكيل لله تعالى على الملكية التي أؤتمن عليها، وأمين على الثروة التي جُعِلَت بإختياره وسخّرت له. والله تعالى هو الذي منح الإنسان هذا الدور وأهّلهُ للخلافة، ولو شاء لإنتزعها منه، قال تعالى: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (الأنعام/ 133). ثالثاً: طبيعة خلافة الإنسان أن يتلقّى تعليماته بشأن الثروة المستخلف عليها وكيف يتصرّف فيها ممّن منحه تلك الخلافة، وهو الله تعالى، قال تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد/ 7). ومن نتائج ذلك أن يكون الإنسان مسؤولاً عن تصرفاته، فيما استخلف فيه وما أؤتمن عليه، قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (يونس/ 14). رابعاً: الأصل في الخلافة أنّها للجماعة الإنسانية كلّها، والتي خلق الله تعالى الأرض وأعدّ الثروات الكونية وجَعلها لخدمة الإنسان، النوعي، الذي يشمل كل أفراد البشرية، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا) (البقرة/ 29). وكان من أهدافه تعالى أن يُعمِّر الأرض، ويُحافظ على صلاحها للحياة، لتعمّ خيراتها الجميع، كما قال تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود/ 61)، (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) (الأعراف/ 56). لذلك كان حقّاً عليه أن يتصرّف بما لا يضرّ بالوجود البشري والوضع الطبيعي، وأن تكون حركته بإتجاه إعمار الأرض وخير البشرية. خامساً: إنّ الإنسان مسؤول عن الملكية والثروة والمال وسائر النعم التي أنعم الله تعالى عليه، من حيث تصرُّفه وسلوكه فيها وأدائه لرسالته في إعمار الكون وإستثماره، ومسؤوليته عن إصلاح المجتمع وسعادة البشرية من حوله، وما منح البعض دون بعض، واختلاف درجات الناس في الملكية والثروات والأرزاق.. كل ذلك للإبتلاء وهو ضرب من الامتحان الإلهي لمدى تحمُّل الإنسان لمسؤولية الخلافة وأدائه للأمانة التي حُمِّلُها، قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام/ 165). فالملكية الخاصّة والأموال والثروات ليست ملكيات فردية تورث في الإنسان العلوّ والإستكبار والأنانية والإستئثار، بل هي مسؤولية إجتماعية ليعلم هل يحسن أو يسيء، وهل ينفع الناس أو يغتر بماله. سادساً: ولمّا كانت خلافة الله في الأصل للجماعة البشرية والنوع الإنساني، وكانت الملكية والثروات الوسيلة لأداء هذا الدور الجماعي، فإنّ امتلاك الفرد للمال لا يمنع من مسؤولية الجماعة عن ذلك المال ولا صلتها به، لأنّ للمال رسالة اجتماعية وكونية في الإعمار والإستخلاف، ولذلك، كان من واجب الجماعة أن تحمي المال من سفه المالك وتصرُّفه اللامسؤول إذا لم يكن رشيداً، لأنّ السفيه لا يمكن أن يقوم بدور صالح في الخلافة، وقد يستنزف المال ويصرف الطاقة المخلوفة لخدمة كل الناس في غير محلّها، لذلك قال الله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا) (النساء/ 5). وقد وصفت الآية الكريمة الأموال قائلة: (أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا)، إشعاراً بأنّ الأموال قد جعلها الله للجماعة، يعني أنّه استخلف الجماعة، لا ليُبذِّروها أو يُجمِّدوها، بل ليقوموا بحقها ويستثمروها ويحافظوا عليها، لخير الإنسان والبشرية، فإذا لم يتحقق ذلك عن طريق الفرد، فلتقم الجماعة بمسؤوليتها. سابعاً: لمّا كان الإنسان مسؤولاً عن تصرّفاته المالية أمام الله لأنّه المالك الحقيقي لجميع الأموال، ومسؤول أمام الجماعة لأنّ الخلافة لها بالأصل، فالملكية للمال مظهر من مظاهر الإستخلاف.. كان من حقّ الجماعة أن تمنعه عن التصرُّف في ماله بشكل يؤدِّي إلى ضرر بليغ بسواه وأن تحجر عليه إذا لم يكن أهلاً للتصرُّف في ماله لصغر أو سفه، وأن تضرب على يديه إذا جعل من ماله مادّة للفساد والإفساد، كما ضرب رسول الله (ص) على يد سمرة بن جندب وأمر بقطع نخلته الخاصّة ورميها حين اتخذها مادّة فساد، وقال له: "إنّك رجل مُضارّ". ثامناً: حين أعطى الإسلام للملكية الخاصّة مفهوم الخلافة، فالمال مال الله، والإنسان مسؤول أمامه عنه.. جرّدها عن كل الامتيازات المعنويّة التي اقترنت بوجودها عبر الزمن، ولم يسمح للمسلم بأن ينظر إليها بوصفها مقياساً للإحترام والتقدير في المجتمع أو أن يقرنها بنوع من القيمة الاجتماعية في العلاقات المتبادلة. والقرآن يُنكِّل علانية بمن يرى لنفسه الفضل على سواه بالمال، وينقل لنا قوله متهكماً عليه: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) (الكهف/ 34-36). وفي المقابل، يُبَجِّل القرآن موقف المؤمن الذي قال: (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) (الكهف/ 39-42). والآيات الذامّة لمنهج التفكير المادي القائم على الإكتناز وجمع المال للشعور بالزهو والفخر والقيمة كثيرة. تاسعاً: الملكية في الإسلام أداة لا غاية، فهي وسيلة لتحقيق الهدف من الخلافة العامّة وإشباع الحاجات الإنسانية المتنوعة، وليست غاية بذاتها تطلب بوصفها تجميعاً وتكديساً شرهاً لا يرتوي ولا يشبع، كما هو حال الكافر (الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ *يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) (الهمزة/ 2-3)، بل الذي يبقى ويخلد ما يخلفه الإنسان من عمل صالح وما ينفقه في سبيل الله، كما قال رسول الله (ص): "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له". وقال أيضاً: "يقول ابن آدم مالي مالي، هل لك من مالك إلّا من تصدّقت فأبقيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت". عاشراً: لم يُلغِ الإسلام الإنتفاع بالمال، ولكنه ألغى أن يكون غاية له، ولكنّه فتح أُفقاً آخر أمام الإنسان لتتحوّل الثروة إلى نعمة باقية، وذلك من خلال الإنفاق في سبيل الله وفي ما ينفع البشرية، ليدخّر ما ينفقه عند الله تعالى ولحياته الآخرة الخالدة، فلا يجد ما ينفقه خسارة، بل هو ربح وفائدة وإدخار ليومٍ هو (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 88-89). ويكون ما يعمله من عمل صالح وما ينفقه من الخير موافقاً لفطرته ورضا لنفسه، وإعماراً لآخرته، فهو في الحقيقة إذ ينفق في سبيل الله والآخرين، ينفق لنفسه وسيجد ما أنفقه حاضراً بزيادة وأضعاف مضاعفة. قال تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة/ 110). وقال تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ/ 39). وقال أيضاً: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) (البقرة/ 245). وفي المقابل حين تكون الحياة قصيرة والفرص محدودة والنفوس شرهة وخسيسة، والإثراء ليس إلا هدفاً، فإنّ هذا الإنسان الذي يعيش هذه الروحية، يشعر دائماً بالقلق على مستقبله والحرص على حياته والبخل والشحّ في ماله، والخوف من الخسارة والإفتقار.. وينسب القرآن هذه النظرة المادية الضيقة إلى الشيطان الذي يوسوس في صدر الإنسان ليبعده عن الخير والإيمان. قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 268). 2- تنظيم الملكية والمال والثروة في الإسلام: لم يقتصر الإسلام في مكافحة الفساد ودعوته إلى الإستفادة الخيرة من المال على تصحيح الإعتقاد في المال وبناء الأخلاق الفاضلة في الإقتصاد وتنمية روح الخير والعطاء.. لم يقتصر على ذلك فحسب، بل عمل على تثبيت مبادئ لتنظيم الملكية وتوزيع الثروة على أساس من العدالة والتوازن، والتي تحفظ للحياة الإقتصادية حيويتها ودورها البنّاء في تحريك أسواق العمل وزيادة الإنتاج وتوفير الرفاه والرخاء، وفي نفس الوقت تحديد الضوابط التي توزع الثروة وتُقسِّم الإمكانات على أساس عادل ومنصف لجميع الطبقات، وأهم هذه الشرائط هي: أوّلاً – مبدأ الملكيّة المزدوجة: فالإسلام اختلف في ذلك عن النظامين الرأسمالي والإشتراكي، واللذين تَصَرّفا على طرفي نقيض في التعامل مع الملكية، فالمجتمع الرأسمالي الذي آمن بالملكية الفردية أو الخاصة، كقاعدة عامّة وسمح بمختلف أنواع الثروة للناس تبعاً لنشاطاتهم وظروفهم ولم يعترف بالملكية العامة إلا حين تفرض الضرورة الاجتماعية، وهي حالة إستثنائية، فكان المجتمع ميداناً رحباً لحركة رؤوس الأموال وباتت تسيطر بذلك على كافة المجالات، حتى على السياسة والاجتماع، بل الثقافة والمعرفة والإعلام، بما تمتلكه من إمكانات هائلة وإستغلال للفرص المثمرة لأصحاب المال وبات الفرد العادي مستهلِكاً ومستهلَكاً في هذا العالم المادي الصرف. والمجتمع الإشتراكي ألغى الملكية الخاصّة وجعل الملكية الإشتراكية هي المبدأ العام وليست الملكية الخاصّة إلا إستثناء، وبذلك ألغى الحوافز الفردية والميول الطبيعية للإنسان نحو التملّك وحرم الناس المتميِّزين والنشطين من تحصيل المكافآت والأرباح التي يستحقونها.. وانسحب الغاء الحرِّية الإقتصادية على سائر الحقول الأخرى، فألغيت أيضاً الحرِّيات السياسية وحرِّية الصحافة والإعلام والفكر والنشر.. لئلا يظهر صوت معارض لهذا القمع والكبت المطلق. أمّا المجتمع الإسلامي فكان وسطاً، لا هذا ولا ذاك، إذ قرّر الأشكال المتعدِّدة للملكيات، فهو يؤمن بالملكية الخاصّة والعامة وملكية الدولة، ولكل حقّه الخاص الذي يعمل به، كوضع عام، لا كحالة إستثنائية أو خاصّة، وضمن بذلك الحرية الفردية وتحفيز العامل الذاتي لتطوير الإقتصاد وتنشيط سوق العمل في نفس الوقت الذي ضمن فيه ملكية الدولة ومركزيتها ووجود ملكيات عامّة لسائر المجتمع، كمجال يضمن وجود القطاع الخيري والعام، الذي يعود بالنفع على الناس لأجيال مستقبلية، فلا يدخل في نطاق ملكية الدولة فتستأثر به، ولا في الملكية الفردية فتحتكره. وكان من صحّة النظرية الإسلامية، القائمة على أساس الملكية المزدوجة، أن كُلاً من التجربتين الرأسمالية والإشتراكية اضطرّت إلى العدول عن فكرتها الأساسية واللجوء إلى الشكل الآخر للملكية، فأخذ المجتمع الرأسمالي بفكرة التأميم وإختصاص قطاعات معيّنة من الملكية بالدولة.. ولجأت الإشتراكية إلى السماح ابتداءً بالملكيات الخاصّة المحدودة، ومن ثمّ رفعت اليد وأطلقت المجال للملكية الفردية، كما في روسيا والصين. ثانياً – مبدأ الحرِّية الإقتصادية المحدَّدة: سمح الإسلام للأفراد بالتحرُّك بحرِّية في المجال الإقتصادي، لضمان نمو المجتمع واضطراد التقدّم فيه، ولكنه حدَّد هذه الحركة بحدود من القيم المعنوية والخلقية، التي توجه حركة الإقتصاد للخير العام وتبعده عن الشرور والإنحراف، ضمن المعايير التي يؤمن بها الإسلام. وهذه الحدود، يظهر عملها وتثبت فاعليتها من خلال مسارين: الأوّل: التحديد الذاتي الذي ينبع من أعماق النفس وإيمان الفرد والتزامه الشخصي. الثاني: التحديد الموضوعي، الذي يُعبِّر عن قوّة خارجية، تُحدِّد السلوك الاجتماعي وتضبطه، ضمن المقررات العامّة. وإذا ما ضعف العامل الاجتماعي وغابت الضوابط القانونية، فإنّ العامل الذاتي يبقى حياً، وآثاره مستمرة، وهو ما نلاحظه في أعمال البر والخير التي قام بها المسلمون عبر مختلف العصور وفي سائر الأماكن، بإخلاص ذاتي وفي سبيل الله. أمّا جانب الضوابط الاجتماعية، فيتمثّل بأمرين: الأوّل: النص على منع النشاطات المضرّة – بنظر الإسلام – كالرِّبا والإحتكار وغير ذلك. الثاني: إقرار مبدأ الإشراف العام لولي الأمر على النشاط الاقتصادي العام وتدخل الدولة لحماية المصالح العامة وحراستها، وتحقيق العدالة الاجتماعية عملاً بقوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) (النساء/ 59). فالسلطة الإسلامية الشرعية لها حقّ الطاعة والتدخل لحماية المجتمع وتحقيق التوازن فيه، ضمن دائرة الشريعة وحدودها. وقد طبّق الرسول الكريم (ص) هذا المبدأ.. ومن أمثلة ذلك أنّه قضى بين أهل المدينة في مشارب النخل: أنّه لا يمنع نفع الشيء، وقضى بين أهل البادية: إنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كَلأ، وقال: "لا ضرر ولا ضرار". ثالثاً – مبدأ العدالة الاجتماعية: في توزيع الثروة والإستفادة من الامكانات والفرص الإقتصادية، وهذا المبدأ الإسلامي يقوم على أساسين: الأوّل: مبدأ التكافل العام لتوفير حدّ الكفاية – لا الكفاف – من لوازم الحياة الإقتصادية الضرورية ومتطلِّباته لسائر الناس لغرض توفير حياة كريمة لهم كهدف أساس ومسؤولية أولى للدولة في الإسلام. الثاني: مبدأ التوازن الاجتماعي، الذي يعمل لكسر إنحصار المال ومجالات الإستفادة والاستثمار بيد طبقة خاصة من الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال والمتنفذين، بل يعمل لكي تكون الفرص متكافئة بين سائر الطبقات، ومجالات الإستفادة موزّعة بشكل عادل بين الأغنياء والفقراء على السواء، من دون تمييز، ولكي تقلّ الهوة بينهم وتتحسّن أوضاع الناس كلّما تحسّنت الظروف الإقتصادية، لا أنّها تصب في خدمة طرف دون آخر. ويتم جزء كبير من التوازن أيضاً بإعادة توزيع الثروة من خلال فرض الضرائب وأخذ الزكوات وصرفها على المتستحقين لها والصالح العام من مصارف الدولة، وبذا يتم إرفاد القطاع العام من القطاع الخاص، دون إعاقة نشاطه وإرتقائه، قال تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات/ 19). ويعمل الإسلام لكي يكون تحقيق هذين الهدفين، من خلال رفع الروح الأخلاقية والإحساس بالمسؤولية الدينية والاجتماعية، حتى يكون هناك تعاون طوعي لأفراد المجتمع للعمل الخير والبرّ والإحسان إلى بعضهم البعض.. بروح بنّاءة خيرة لا روح الطمع والحرص والجشع المادي. المصدر: كتاب نظرية الإصلاح من القرآن الكريممقالات ذات صلة
ارسال التعليق