آنكاس فيليبس/ الترجمة: رياض عبدالغني الحسن
"وسائل الإعلام القديمة لا تموت، لكن قدرها أن تشيخ وهي رابطة الجأش" دوغلاس آدمز، من كتاب (دليل السائحين في المستقبل).
منذ بدايات الثورة الرقمية، أخذ المعلقون بتأمل الرؤى المستقبلية للكتاب، وتساءلوا هل بإمكان الكاتب أن يواصل طريقه حيّاً جنباً إلى جنب مع ضروب التكنولوجيا الجديدة؟ ففي عصر أصبح فيه النص المكتوب قادراً على الوصول إلى كلّ شبر في العالم عبر مختلف الأدوات، وأصبح الكتاب فيه منافساً لأنماط عديدة أخرى من أنماط المتعة، هل يبدو الكتاب نمطاً من التكنولوجيا التي عفا عليها الزمن أم رفيقاً لازال يتمتع بحيوية الشباب، ويمكن الركون إليه؟ فأي مستقبل يمكن أن نرى للكتاب؟
إذا كان الكتاب قد ولّى زمنه، فكيف لنا أن نفحص لنتأكد من ذلك؟ هل يكون ذلك عندما نرى القرّاء أضحوا متتبعين شغوفين بقراءة الرواية من خلال هواتفهم الجوّالة؟ أو عندما نرى الصغار يدرسون مستعينين بحاسباتهم المحمولة تاركين وراء ظهورهم المصادر المطبوعة؟ أو عندما يبدأ أقل من نصف الكبار في أكبر اقتصاد في العالم بقراءة الأدب؟ أو عندما يقوم أحد ناشري الكُتُب الناجحين بالتخلّص من برنامجه الطباعي ببيعه ليركز جهوده على المصادر والخدمات الإلكترونية؟ أو عندما يبدأ مستخدمو القاموس باستشارة ما حررته الأقلام الإلكترونية في سعيهم للحصول على تعريف أو ترجمة ما؟
هذا هو ما عليه عالم اليوم. وإذا ما واصلت هذه التوجهات طريقها، فإنّ مستقبل الكتاب بمعناه التقليدي سيكون بالتأكيد محل نظر. لكنّنا إذا استخدمنا أساليب أخرى في الفحص، مثلاً في عدد الكُتُب التي يتم نشرها كلّ سنة، أو النجاح الذي يحققه كتّاب على مستوى فردي مثل جي. كي. رولنغ، نجد أنّ الكتاب بقي صامداً في مواجهة التغيرات التي حصلت في مجال التكنولوجيا والثقافة والمجتمع، بل أنّ هناك مفارقة ظاهرة، وهي أنّ العالم الذي يسعى إلى أن يكون رقمياً أصبح عوناً للكتاب في بقائه حيّاً، ذلك أنّ الكتاب بإمكانه أن يبقى بشكله الطباعي لأمد غير محدود حينما يكون مطروحاً للشراء في أي مكان من العالم.
- الثورة الرقمية
تمرّ الصناعات الآن بتحولات كبرى بسبب "الثورة الرقمية". ويمكن تعريفها بأنّها: "آثار الهبوط المطرد في الكلفة والتوسع المطرد في قدرات الآلات الرقمية مثل الحاسبات ووسائل الاتصال. وهي تشمل التغيرات التي حصلت في ميدان التكنولوجيا والمجتمع، وهو المصطلح الذي يستخدم بالذات، في أغلب الأحيان، في الجدل الذي يدور بشأن اتساع استخدام هذه التكنولوجيات" (موسوعة ويكيبيديا، كما هي عليه بتاريخ 3/5/2005). نضرب مثلين على الصناعات التي تأثرت بها، وهما التصوير الفوتوغرافي والموسيقي. إذ أنّ الانتقال من الفيلم إلى الصورة الرقمية أثر على صناعة التحميض وتصنيع كاميرات الأفلام التقليدية وبيعها، والطريقة التي يقوم بها الناس في مشاركة الآخرين بصورهم التي تحمل ذكريات عوائلهم وأيام عطلهم وطريقة خزنها. أما الذي بدأ كنقلة من الفيلم إلى الكاميرات الرقمية فقد نحى منحى آخر مع تطور الهواتف التي تحمل كاميرات ذات دقة عالية.
كما انتقلت صناعة الموسيقى من الوضع التناظري (analogue) إلى الوضع الرقمي (digital) Negroponte 1995، بظهور الأقراص المدمجة (CD) التي حلت محل تسجيلات الفينيل. تبعاً لذلك، تصدعت المقاومة تجاه تحميل الموسيقى من الإنترنت والتشارك في الملفات، والجداول البيانية للموسيقى الآن تأخذ بالحسبان الموسيقى المحملة من الإنترنت، وصار أغلب الفنانين يدعم هذه التغييرات علانية.
إنّ فكرة امتلاك الموسيقى هي موضع تأمّل، فبعض المستخدمين يرى أنّ الاستماع للموسيقى عند طلبها أمر كافٍ لا يستدعي اقتناء نسخة شخصية من مقطوعة معينة. إذ "بفضل الموجة العريضة، الحاضرة في كلّ مكان، السلكية منها واللاسلكية، سيلجأ المزيد من المستخدمين إلى جهاز تشغيل الموسيقى الأثيري في حصولهم عليها، والذي يتيح لهم أية مقطوعة موسيقية عملت، قابلة للعزف عند الطلب". (Anderson 2004)
وإذا التفتنا ناحية إنتاج الكتاب، نرى أنّ عملية نشر الكُتُب قد أصبحت رقمية بالكامل - ابتداءً من تسليم الكتّاب لنصوصهم مختزنة على الأقراص أو بواسطة البريد الإلكتروني وإلى تصميم الصفحة باستخدام الحاسوب والنقل الإلكتروني للملفات إلى الطابعة -. إنّ فكرة "أنشئ مرة وانشر مرات" قادت إلى عملية الطباعة، كونها فقط إحدى الصيغ التي يعتمدها الناشرون، التي يُضاف إليها عمليات النقل عبر شبكة الإنترنت والأقراص المدمجة. لقد تبنت عمليات النشر التعليمية والمحترفة ونشر المراجع أسلوب النشر الإلكتروني جزءاً محورياً في نشاطاتها.
أما في ميدان النشر الثقافي، فقد أصبحت عملية الدخول على خطوط الشبكة الإلكترونية هي النمط الشائع لإيصال المجلات. بل إنّ هناك توجهاً نحو عملية النشر الرقمي للبحوث الدراسية. إذ أنّ الخط الإلكتروني للزمالات التابع لجامعة أوكسفورد والذي بُدئ به في عام 2003م، يُعدّ خدمة لنقل البحوث إلى المكتبات باستخدام العناوين التي تنشرها مطبعة جامعة أكسفورد. فبإمكانيات نظامي البحث والإسنادات، "تقوم هذه الخدمة بمضاعفة نوع النظام الذي يعتمده الأكاديميون في بيئة المجلات الثقافية وهم على الخط الإلكتروني". (Thompson 2005: 363)
ويتنبأ لين بريندلي، المدير التنفيذي في المكتبة البريطانية، أنّه بحلول عام 2020م سيكون ما نسبته 40 بالمئة من البحوث في المملكة المتحدة متاحة بصيغة إلكترونية فقط، مقابل ما يزيد عن 50 بالمئة منها سيتم صياغته بشكل طباعي وشكل رقمي. (British Library 2005) وسيستلزم هذا التطوّر نقلة ثقافية كبرى في المجتمعات الأكاديمية، لأنّ نشر مطبوعات الكُتُب على طولها (مع خضوعها لمبدأ تقييم النظراء) مازال يشكّل حاجة لتطوير الكفاءات في مختلف فروع المعارف.
إنّ عملية نشر الكُتُب التعليمية في أجزاء عديدة من العالم تتحرك الآن بشكل مطرد باتجاه تطوير الموارد الإلكترونية. ففي المملكة المتحدة، قامت الحكومة برصد أموال لموارد التعليم الإلكتروني وشبكات الإنترنت ذات الموجة العريضة وفائقة السرعة في المدارس. وفي الصين، هناك دعم حكومي للموارد التعليمية المرتبطة بالنقل الإلكتروني، وخاصّة في مجال تعليم اللغة الإنكليزية. في وقت من الأوقات، كان يُنظر إلى القرص المدمج (CD-ROM) على أنّه الوسيلة العالمية في النقل الإلكتروني لمواد التعليم ومراجعه، وفي مستهل التسعينيات، نزل الناشرون بكامل ثقلهم في الاستثمار في المنتوجات المتعددة الوسائط من المطبوعات. ومع تحقيق مبيعات قليلة وتوسع مطرد في شبكة الإنترنت، سرعان ما انتقل الاستثمار إلى التطوير في الخطوط الإلكترونية. ومع ازدياد تبني الموجة العريضة من قبل مستخدميها في المنازل، هناك فرص متجددة للناشرين في تقديم المنتوجات المتعددة الوسائط والإقلال من التأكيد على المطبوعات.
قبل عقد من الآن، قال الروائي ئي. آني برولكس أنّ خاصية "الطريق السريع للحصول على المعلومات" (information highway) كانت موجهةً للحاسبات التي تقوم بدور اللوحات الإعلانية التي تحمل مواضيع محدودة التداول وأخباراً وقوائم وأعمال مرجعية، ومعلومات ذات نفع آني، يمكن اقتناصها عبر الأسلاك بشكل فعّال. فما من أحد - على الإطلاق - سيجلس ليقرأ رواية من خلال شاشة صغيرة مرتعشة (May 26 1994 New York Times) واليوم نجد الكتب الإلكترونية من الروايات متاحة للقراءة بكلّ تأكيد من خلال الحاسبات والآلات المحمولة باليد، وبالإمكان تحميل طبعات من الروايات الكلاسيكية مجاناً.
هناك من الناس مَن يقرأ الروايات من خلال الآلات المحمولة باليد، لكن أعدادهم تبقى ضئيلة مقارنة بقرّاء المطبوعات التقليدية. فهل لهذا الوضع أن يتغير؟ وإذا كان جهاز الآي بود وأجهزة تشغيل الموسيقى الأخرى قد أحدثت ثورة في الطريقة التي يتواصل بها الناس مع الموسيقى، فهل يجد المطبوع آلة محمولة مشابهة لتلك الآلات تسد مسدّه. وهل ستكون هناك قيمة مضافة في الكُتُب الإلكترونية بالشكل نفسه الذي نجده المزايا المضافة على أقراص الدي في دي (DVD)؟ وهل سيقوم القرّاء بعرض النصوص باستخدام إمكانية عشوائية؟ إنّ شركات الكُتُب الصوتية تبحث الآن بالفعل إمكانية تحميل منتجاتهم على الإنترنت لتجعلها بديلاً عن الأشرطة والأقراص المدمجة.
لا تزال صناعة الكتاب اليابانية قاصرة، وتعاني من نمو سلبي في المبيعات على مدى سنوات عدة، ويظهر المعلّقون السوق على أنّه مشبع. ويرى مادوكا هاناجيري أنّ "سلوك الزبائن قد تغير ولا زال يتغير. فقبل عشرين عاماً، كان طلبة الكلية يتجولون حاملين كُتُب الفلسفة –على سبيل الموضة– حتى ولو لم يكونوا يقرأونها فعلاً. أما الآن فطلبة الكلية ينصب اهتمامهم الأكبر على هواتفهم النقالة". وهواتف اليوم –كما هو الحال في كلّ مكان في العالم– يتم استخدامها للبريد الإلكتروني والبحث في شبكة الإنترنت، وللألعاب والتقاط الصور؛ ومبيعات الكُتُب الإلكترونية في تزايد سريع، وتُكتب العناوين الجديدة للقرّاء في هواتفهم النقالة. علّق أحد القرّاء قائلاً: "تتعب عيناي أحياناً، غير أنّي أكون مسروراً حين أتمكن من القراءة وأنا في القطار حين يكون القطار مزدحماً إلى حدّ لا يكون هناك مكان يتسع لفتح كتاب.. كما أنّي أحب الغوص في الكُتُب والخروج منها، وليس قراءة القصص بشكل سردي". (McCurry 2005)
لقد كتب يوشي (الحب العميق) عام 2002م، وهي قصة تحكي عن فتاة في السابعة عشرة من عمرها التي تجد قصة رومانسية في أجزاء من خلال مطالعتها في الهواتف النقالة: "لقد بدأت أجزاء الرواية تتلقى الملايين من النجاحات، خاصّة من قبل الفتيات في عمر المراهقة، واللواتي لم يكنّ قد أمسكن بكتاب عادي من قبل... إنّ يوشي –بخلاف كتّاب الرواية التقليدية- يعرف في الحال متى يسأم قرّاؤه: فهم إمّا يتوقفون عن زيارة موقعه، أو يراسلونه مباشرة عبر البريد الإلكتروني. ولأنّه يكتب بشكل أجزاء، فهو يتمكّن من التحكّم في مجرى سير القصة في أي وقت يشاء". (McCurry 2005)
إنّ الآلات الإلكترونية القارئة للكتاب الإلكتروني المتخصصة بخزن وعرض الكُتُب بالوضوح الذي تتمتع به الصفحة المطبوعة، لم تحقق لحد الآن مبيعات كبيرة. ففي عام 2006م قامت شركة سوني بإطلاق جهازها القارئ الجديد الخفيف الوزن، بذاكرة تسع وثمانين عنواناً. ومحاكاة لأصداء التطوّر الذي حصل لخزين الموسيقى العائد لشركة آبل، تم التوصل إلى اتفاق مع كبار الناشرين على بيع كُتُبهم الرقمية من خلال الخزين الإلكتروني على الشبكة. وقد علقت فيكتوريا بارسنلي، المديرة التنفيذية لهاربر كولنز في المملكة المتحدة قائلة: "سواء أكان الجهاز القارئ من نوع سوني هو الذي سيثبت نجاحه أم الجيل الثاني من الأجهزة القارئة، فإنّه سيخلق سوقاً كبيرة، ويوفر فرصاً للناشرين". (Andrews 2006) وفي الوقت نفسه، تم تحقيق تقدم في مجال تطوير الورق الإلكتروني. فكما يمكن لتسجيلات شريط الفينيل والأقراص المدمجة والفيديوهات، وأقراص الدي في دي، أن تتلاشى كلّها لتصبح ضمن قرص صلب واحد في غرفة معيشتك، يمكن على الغرار نفسه أن يكون حال مكتبتك. وعندما ترغب بقراءة العنوان الذي تختاره، بإمكانك تحميله وعرضه داخل ما يشبه الكتاب بصحفات مرنة تشبه الورق. يكون هذا الكتاب قابلاً للنقل وبإمكانك اصطحاب عناوين عدة معك في أوقات العطل باستخدام آلة ذاكرة صغيرة. وباستخدام التكنولوجيا اللاسلكية يكون بإمكانك أن تعرّج على أي عنوان تشاء. بقي أنّ كلف الورق الإلكتروني عالية جداً لا تسمح بعملية إنتاج شامل، بيد أنّ أعمال التطوير قائمة على قدم وساق.
إنّ تكنولوجيات ربط الهاتف النقال ومنظومة تحديد المكان في العالم (GPS) تتيح مزيداً من الفرص؛ مثلاً بإطلاق المطبوعات الخاصّة بالسفر. فبالرغم من توفر الدليل السياحي بصيغة كُتُب إلكترونية، غير أنّه لم يتم تأمين ربطه بموقع المستخدم ليوفر له فوائد دالة على المطاعم والأماكن الثقافية المحلية. هناك إمكانية لتقديم تشكيلة من الروايات أو أدب السفر يلائم الوجهة التي يقصدها القارئ في سفره. فيمكن للسائح في باريس أن يقتني نسخة محمّلة من رواية (أحدب نوتردام) لفيكتور هيجو، أو الشمس تشرق أيضاً للكاتب هيمنغواي، أو شيفرة دافينشي للكاتب دان براون، مع إعطاء النص مظللاً.
- المجتمع والثقافة
يدخل الكتاب في تنافس مع أنواع مختلفة من أدوات المتعة الأخرى، وقد اعتاد جيل الشباب الحالي على الأخذ بطُرُق بديلة لاكتساب المعلومات. وقد ترتب على صناعة الجرائد أنّ تكيّف نفسها للتنافس مع التلفزيون وشبكة الإنترنت. ففي عام 2004م صدرت جريدة التايمز اللندنية بورق من قطع أصغر. وقد أشار المحرر روبرت تومسون إلى أنّ شبكة الإنترنت كان لها أثر في التصميم الجديد للورق: "إنّ الصفحة العريضة التقليدية تنطوي على ما يمكن أن نطلق عليه (مهارات المسح الشامل)، أما بالنسبة للعدد المتزايد من الناس –وخاصة الشباب منهم– الذين اعتادوا على عروض الإنترنت، فقد أصبحوا معتادين على (مهارات التقليب). وهذا أمر يكفي لشد انتباهنا إلى أنّ مهارات التقليب تؤدي عملها إذا أخذت وضع القطع الأصغر بشكل أفضل من قطع الصفحات العريضة".
إنّ الأولوية المعطاة للطباعة أصبحت أمراً محل تأمّل، فقد أصبح مهدداً بالانهيار بسبب سلاسة الدخول إلى الإنترنت، وظهور جيل جديد نشأ على عدم توقير الكتاب بالقدر الذي يوقر به الإنترنت. وبالنسبة للكثير، أصبح موقع "غوغل" الميناء الذي ترسو فيه سفن بحثهم عن الحقائق، وأقاموا سطح المكتب في الحاسبة مقام رف كُتُب المراجع. كما يشجّع المدرسون أطفال المدارس على البحث عن المعلومات الأساسية لأداء واجباتهم البيتية بدلاً من استخدام الموسوعات. كما تبذل الجامعات جهداً في تعليم فضائل الإشارة إلى المصادر بشكل صحيح، لكن الطلبة لا ترى في تحوير كلمات الآخرين أو نسخها كما هي، خطأً كبيراً.
في مجال المشاريع الرائدة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، يتم تجهيز أطفال المدارس بالحاسبات المحمولة أو أجهزة المعلومات الإلكترونية المحمولة (PDA) لاستخدامها في البيت وفي المدرسة، لتكون بديلاً عن الحقائب المحمولة على الظهر التي يحملون فيها الكُتُب المدرسية. ثم أخذت السبورات الذكية بتغيير نمط التدريس ومنح فرص لنشاطات صفية جديدة.
أما بالنسبة للكبار، فإنّ القراءة من أجل المتعة يجب تأخذ مكانها في أنماط الحياة المليئة بالمشاغل. إنّ الأعذار التي يبديها غير القرّاء في المملكة المتحدة عن عدم قراءتهم تشمل: تفضيل الصحف أو المجلات؛ ليس لديهم ما يكفي من الوقت؛ يفضلون الاسترخاء أكثر؛ أنّهم لا يجدون متعة في القراءة. (Bury 2005: 13) في رواية إيان ماك ايوان وعنوانها "يوم السبت"، نجد أنّ هنري بيرون، جراح الأعصاب المتقد الذكاء والمليء بالمشاغل، يواصل قراءة الرواية التي أشارت عليه ابنته بقراءتها، لكنّه يبقى على حذر من العالم الآخر هذا: "لم يتخيل هنري يوماً ما أنّه سينتهي به المطاف ليعيش في بيت يحوي على مكتبة. إنّ طموحه هو أن يقضي عطل نهاية الأسبوع كلّها هناك، مضطجعاً على أريكة أثرية من طراز (نول)، وإلى جانبه فنجان القهوة، ويقرأ بعضاً من الروائع العالمية أو غيرها، ربما مترجمة.. لكن وقت الفراغ هذا ليس مشتتاً دائماً بين سفرياته والتزاماته العائلية والرياضة فحسب، بل بالسأم الذي تأتي به فسح الحرّية أسبوعياً. فهو لا يريد أن يقضي أيامه مضطجعاً أو حتى جالساً".
لا يسعنا بأي حال من الأحوال اللحاق بركب القراءة أبداً. يشير الكاتب المكسيكي جابريال زيد في بحثه عن القراءة، الموسوم "كُتُب كثيرة جداً"، إلى أنّ في كلّ ثلاثين ثانية، يصدر كتاب جديد: "إنّ الكُتُب تصدر بمعدل سريع يتركنا متمادين في جهلنا. فإذا قرأ المرء كتاباً واحداً في كلّ يوم، فذلك يعني أنّه أهمل قراءة أربعة آلاف كتاب آخر تم نشرها في اليوم نفسه".
وفي المملكة المتحدة، يتم قضاء ما يقارب نصف أوقات الفراغ مجتمعة في مشاهدة التلفزيون (National Statistics 2005: 174). وقد تم تصنيف شخص واحد من بين كلّ خمسة من البالغين على أنّه من مشتري الكُتُب المكثرين، في حين أنّ ثلث البالغين الذين خضعوا للمسح لم يشتروا كتاباً واحداً في السنة الماضية. "وإذا تحدّثنا بشكل أوسع، نقول إنّه كلما كان المرء أغنى مالاً وأكثر ثقافةً، كلما ازداد عدد الكُتُب التي يشتريها". (Bury 2005: 4)
مع هذا نجد أنّه مع النمو الذي حصل في اقتصاد المملكة المتحدة وارتفاع نسبة السكان الدارسين في مرحلة التعليم العالي، كلّ ذلك لم يؤدِّ إلى طفرة في مبيعات الكُتُب. كما إنّه بين عامي 1993م و2003م، انخفض عدد الكُتُب المستعارة من مكتبات المملكة المتحدة بنسبة 36 بالمئة، وهبط خزين الإعارة النشيط بنسبة 17 بالمئة (LISU 2004: 19)، غير أنّه صاحب ذلك ازدياد استخدام الوسائل السمعية البصرية والإلكترونية في المكتبات خلال المدة نفسها.
وفي الولايات المتحدة، أحدث ظهور تقرير وكالة الوقف الوطني للفنون قلقاً ملحوظاً (2004م)، إذ كان عنوانه "القراءة في خطر". فما بين عامي 1982م و2002م، انخفض عدد الكبار في الولايات المتحدة من قرّاء الأدب (الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والشعر) بنسبة 10 نقاط بالمئة، من 56.9 بالمائة إلى 46.7 بالمائة. أما نسبة مَن يقرأ أي نوع من الكُتُب، فقد انخفض بنسبة 7 نقاط بالمئة. وفي عام 2002م، لوحظ أنّ 55 بالمئة من النساء يقرأن الأدب، بينما كان العدد بالنسبة للرجال لا يتجاوز 37.5 بالمئة.
في مقدمة التقرير، كتبت دانا كيويا، رئيس مجلس وكالة الوقف الوطني للفنون، تقول: إنّ هذا المسح الشامل لقرّاء الأدب الأمريكي يعطي تقييماً تفصيلياً، لكنّه محزن، عن تدهور وضع القراءة في ثقافة الأمة. فللمرّة الأولى في التاريخ الحديث، يشكّل عدد قرّاء الأدب من الكبار أقل من نصف السكان... إنّ تقرير "القراءة في خطر" مهمته لا تتعدى توثيق النقلة الحضارية الضخمة وتبيانها بالأرقام، تلك النقلة التي قد شهدها معظم الأمريكيين، وهي النقلة العملاقة لمجتمعنا باتجاه الوسائل الإلكترونية في سعيه للحصول على المعلومات والتسلية. (National Endowment for the Arts 2004: vii)
ولمن انتابه الرُّعب بسبب هذه الإحصاءات، نرى أنّ من المهم أن يتأمل ما جاء آنفاً. كُتُب امبيرتو ايكو يقول: "لنا أن نتشكى من أن كثيراً من الناس يقضون يومهم بمشاهدة التلفزيون، ولا يقرأون كتاباً أو صحيفة أبداً، وهذه بالتأكيد مشكلة اجتماعية وتربوية، لكنّنا غالباً ما ننسى أنّ الناس أنفسهم كانوا قبل قرون خلت كانوا يشاهدون صوراً اعتيادية لا أكثر وكانوا أميين تماماً". (Eco 1996: 297)
وإذا ترتب على الصحف دراسة التنافس المتأتي من وسائل أخرى، فمن المرجح أيضاً أنّ صناعة الكتاب ستبقى تشهد تآكلاً في إقبال الناس الأساسي نحو القراءة. في البلدان المتقدمة، في الوقت الذي تزداد فيه مشاهدة التلفزيون، وتزداد بشكل كبير عمليات البحث في الإنترنت، ويزداد استخدام الألعاب الإلكترونية، أليست هناك حتمية في تضاءل الوقت المخصص لقراءة الكُتُب؟ لقد علّق المحلّل الأمريكي باري رابابورت في عام 2004م قائلاً: المشكلة أنّه ليس بمقدورك تحقيق النمو دون جذب زبائن جُدد، والحال أنّ الصناعة لا تقوم بجذب الزبائن الجُدد، بل هي في الواقع تخسر الزبائن.. هذا يعني أنّها تعتمد بشكل متزايد على مشتري الكُتُب المكثرين منها؛ وكلما ازدادت وفرة الكتاب، ازداد المثقف ثقافة، لكنّنا نلحظ فتوراً في ذلك الجانب أيضاً. هناك الكثير من الكُتُب التي يستطيع الناس شراءها مقتبسة في (Nance and Thomas).
هذا هو لب الحديث الدائر الآن في الصناعات الناضجة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. كيف يتسنى لهم الوصول إلى جمهور جديد؟ ما نوع الكُتُب التي يريدها مشترو الكُتُب من المقلّين وغير المشترين؟ لقد كتب بويد تونكن يقول: "إنّ سوق الكتاب بالتأكيد بحاجة إلى التوسع. وما يحتاجه هو الإبداع الخلّاق، وليس إلى حركة مجنونة لدفع الأسعار دون مستوى السوق. بدايةً، على الناشرين أن يفكّروا بعمق في كيفية الوصول إلى الجموع الغفيرة من المستهلكين الناقدين للأفلام والتلفزيون والثقافة التي تستهوي الناس، والذين يقرأون الكُتُب بذكاء ونباهة كما يفعلون مع كلّ البرامج التلفزيونية والمواقع الإلكترونية والفرق الموسيقية التي يحبونها". (Tonkin 2005)
ومن أجل تحفيز قطاع أوسع من الناس للقراءة، هل بإمكان صناعة نشر الكتاب أن تكون أقل نخبوية في نهجها وواسعة الخيال في أعمالها مع الوسائل الأخرى؟ إنّ صناعة نشر الكُتُب توظّف الملاكات نفسها التي تخلق لها قرّاءها، كما أشار الناشر جون بليك: "إنّ صناعة النشر يهيمن عليها الناشرون من الطبقة المتوسطة، وتنشر الكُتُب ليقرأها أُناس من الطبقة المتوسطة". (Bury 2005: 12) فهل بإمكان ممثلين من قطاع أوسع من الناس أن ينتجوا كُتُباً يرغب أكثر عدد من الناس بقرائتها، ويكون محتواها أكثر توافقاً مع اهتماماتهم؟ إنّ نجاح (المانجا) وهي كُتُب يابانية هزلية يُعد مثالاً على المواد المكثرة من الصور، وهو ما يشجع القراءة في أوساط الشباب الذين تجتذبهم أقراص الدي في دي والألعاب أكثر مما يجذبهم الكتاب. هل المهم الآن، في نهاية المطاف، هو نوع الكتب التي يقرؤها الناس؟ يعكس هذا النقاش هموماً من عهد سابق، يشير إليه ادوارد تينير قائلاً: "وحتى في العصر الذهبي للثقافة المطبوعة من أعوام 1880م إلى 1930م، كان المتأدبون والمتأدبات يشعرون بالامتعاض من عدم اهتمام الأمريكيين بشراء الكتاب، ومما لاحظوه من تفضيل الجماهير لقراءة ما هو مبتذل وما يعتمد إثارة الفضول لدى القارئ.
بعيداً عن ظاهرة هاري بوتر، فقد أعطت البرامج التلفزيونية حافزاً قوياً لمبيعات الكُتُب. فترغيبات برنامج (أوبرا Oprah) في الولايات المتحدة وبرنامج (ريجارد أند جوديRichard and Judy ) في المملكة المتحدة قادت إلى زيادات كبرى في مبيعات الكُتُب المعنية، وهو ما يشير إلى وجود سوق للأدب النوعي وللكُتُب الأخرى غير الأدبية. لكن الاتكال المتزايد من قبل سلسلة من بائعي الكُتُب على أرقام مبيعات الكُتُب لتنفيذ قراراتهم بشأن خزينهم من الكُتُب يعني أنّ الكتاب الجديد لن يأخذ إلّا وقتاً قليلاً في إظهار أثره في السوق. إنّ التركيز على بيع الكُتُب قد جعل من الصعب على الناشرين المستقلين طرح كُتُبهم أمام مَن ينتظرونهم من القرّاء. فأصحاب المكتبات الصغيرة قد تخلّوا عن محاولاتهم في الدخول في تنافس إزاء الخصومات في الأسعار التي تعلنها سلسلة المكتبات وأصحاب الأسواق الضخمة، واتجهوا إمّا إلى التوقف عن التجارة في الكُتُب أو آثروا أن يصبحوا متخصصين في نوع الخزين الكتابي الذي يعرضونه.
يبدو من المؤكد مواصلة التركيز على الإنتاج في صناعة نشر الكتب. وقد توصّل تقرير لمجلس الآداب يخص صناعة النشر المستقلة في إنكلترا إلى استنتاج مفاده أنّ هذه الصناعة آخذة في الاستقطاب بشكل متزايد "بين عدد صغير من عمالقة الناشرين من الشركات، وهم بشكل رئيس أقسام من الإعلام المتعدد الجنسيات ومجموعات مهتمة بالنشر، وبين عدد كبير من المشغّلين الصغار والصغار جداً من الناشرين".
إنّ دُور النشر الأكبر حجماً تسعى إلى الحفاظ على علاماتها التجارية وإبداعها وذلك بإبقاء العلامات التجارية الأصغر حيّة تتنفس ضمن مؤسساتها الأضخم. ولكن تبقى تساؤلات عن نوعية النشر إذا ما هيمن لاعبون كبار في هذه الصناعة على مجالي نشر الكُتُب وبيعها.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق