3- مبدء الحق:
إنّ قيام المجتمع على ميزان الحقّ، وتوازن العلاقات بين الفرد والمجتمع يضمن سلامة الأمن والاستقرار والوحدة، أمّا إذا اختل الميزان، فإنّ كافة العلاقات تتدهور، ويشيع الظلم والحقد والفساد.
ومن الطبيعي أن يلتزم المؤمن بميزان الحقّ في كافة علاقاته ومعاملاته وأن يتجاوز المنافق ذلك، ويقيم علاقاته على أساس من الهوى والمصلحة غير آبه لسخط الله أو خائف من عقابه يوم القيامة، وقد يحافظ المرء على علاقاته متوازنة، في حالته الطبيعية، ولكنّه يركل ميزان الحقّ إذا أفرط في السخط والرضا، ولذلك يقول الإمام الصادق (ع): "إنّما المؤمن إذا سخط لم يخرجه سخطه من الحقّ وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له"[1]. ويقول الرسول الأعظم: "قل الحقّ وإن كان مُراً"[2].
ومن الواضح إنّ لقول الحقّ دوراً كبيراً في إطفاء نيران المشاكل والخلافات والقضاء على جذور الصراع، فإنّ مَن يقول الحقّ ولو كان على نفسه.. لا يقوم بظلم أي أحد، وبالتالي فإنّه يحافظ على علاقاته متوازنة عادلة مع الآخرين.
4- العفو والحلم:
ويلعب الحلم والعفو وكظم الغيظ دوراً كبيراً كذلك في امتصاص عوامل التوتر والصراع في المجتمع، وهو في الحقيقة الوجه الآخر لعملية الالتزام بالحقّ إذا ما تجاوز الآخرين، واعتدوا على الإنسان المؤمن أو غمطوا حقّه، فلا يكتفي هو بالتزام الحقّ وأداء الحقوق للآخرين، وإنما يسامحهم عن حقوقه ويكظم غيظه عنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، وهذه قمة اللا أنانية على العكس من المنافق الذي لا يؤدي حقوق إخوانه ويثور بغضب إذا ما نال الآخرون شيئاً من حقوقه...
يقول رسول الله (ص): "عليكم بالعفو، فإنّ العفو لا يزيد العبد إلّا عزاً فتعافوا يعزكم الله"[3].
ويقول حفيده الإمام الصادق (ع): "ثلاث لا يزيد الله بهن المرء المسلم إلّا عزاً: الصفح عمن ظلمه، وإعطاء مَن حرمه، والصلة لمَن قطعه"[4]. ويعلم أصحابه: "أنا أهل البيت مروتنا العفو عمّن ظلمنا"[5].
وإذا تساءلنا عن حدود العفو؟ فإنّ الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) يجيبنا: "إن أتاكم آتٍ فأسمعكم في الإذن اليمنى مكروهاً ثمّ تحوّل إلى الأذن اليسرى، فاعتذر، وقال: لم أقل شيئاً فاقبلوا عذره"[6].
ولكن إذا كان الإنسان مطبوعاً على سرعة الغضب ورد العدوان، فماذا يفعل؟. يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): "إن لم تكن حليماً فتحلّم، فإنّه قلّ مَن تشبه بقوم إلّا أوشك أن يكون منهم"[7].
5- الأخلاق الحسنة:
وتلعب الأخلاق الحسنة هي الأخرى دوراً مهماً في تمشيط الأضغان من القلوب ونثر ورود المحبة على طريق الوحدة.
يقول الرسول الأعظم (ص): "حسن البشر يذهب بالسخيمة"[8]. ويعتبر النبيّ البسمة الحلوة مع الإخوان دلالة على الإيمان: "المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه.. أوسع شيء صدراً"[9]. ويدعو الرسول إلى إظهار الحبّ والتودد إلى الناس ويعتبر ذلك علامة على العقل. "رأس العقل بعد الدِّين التودد إلى الناس واصطناع الخير كلّ برّ وفاجر"[10].
إنّ الأخلاق الحسنة تنبع من الحبّ، فإذا كره المؤمن أخاه غطّى الكره ملامح وجهه وعقد لسانه، وخطف البسمة من شفتيه، ولذلك يدعو الإسلام إلى كنس الحقد من القلب، والتصميم على الحبّ والمبادرة إليه، يقول الإمام الصادق(ع): "إنّ المسلمين ليلتقيان فأفضلهما أشدهما حباً لصاحبه"[11].
فمن منا لا يرغب أن يكون أفضل من صاحبه عند الله؟!.. إذن فلنزرع الحب في قلوبنا تجاه جميع المؤمنين سواءاً كانوا قريبين لنا أو بعيدين بأي نوع من النسبة، حتى نصبح أشبه شيء برسول الله!.
وإذا وجد المؤمن قلبه يمتلأ حقداً فجأة من بعض الاخوان نتيجة تصرفاتهم اللا ودية معه.. فانّه مطالب بتفريغه بسرعة.. ولا يسمح للحقد أو الكراهية أن يعشعشا في قلبه.. يقول الإمام الصادق:
(حقد المؤمن مقامه.. ثم يفارق أخاه فلا يجد عليه شيئاً وحقد الكافر دهره) (بحار الأنوار 211/72).
أي انّه يعتبر من يخزن الحقد ضد المؤمنين.. بمثابة الكافر!.. وإذا ما قال أحد بأنّه مضطر لمبادلة الآخرين الذين يكرهونه ويكنون عليه الحقد، فانّ الإمام يقول:
(احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك) (بحار الانوار 212/72).
وربما يقطب الإنسان وجهه ويسيء خلقه من دون أي حقد داخلي، وحتى مع أهله واخوانه، بسبب من بعض المشاكل والهموم والأحزان.. فيؤدي ذلك إلى تعكير علاقاته الطيبة مع اخوانه من دون ارادته.. وهكذا يفقدهم واحداً بعد الآخر.. وقد يقع في كثير من الأخطاء التي تخرب عمله وتفسد جهاده.. ولذلك فانّه مطالب بالسيطرة على الحزن والهم.. وحتى الحقد إذا كان في قلبه شيء منه تجاه منافق..
يقول الإمام الصادق:
(صانع المنافق بلسانك واخلص ودك للمؤمن، وان جالسك يهودي فاحسن مجالسته) (بحار الأنوار 152/71).
أما الرسول الأعظم فيقول:
(أبى الله لصاحب الخلق السيء بالتوبة، قيل وكيف ذلك يا رسول الله قال: لأنّه إذا تاب من ذنب وقع في أعظم من الذنب الذي تاب منه) (بحار الأنوار 299/70).
وفي الحقيقة انّ بعض الناس يقيمون علاقاتهم على أساس المادة والدنيا والمصلحة.. فإذا كان ثمة شيء من ذلك فانّهم يجاملون ويبتسمون ويظهرون الود والملق.. وإذا لم يكن شيء من ذلك.. فانّ علاقاتهم يسودها العبوس والتجهم والاحتقار، ولذلك فان أهل البيت عليهم السلام يؤكدون بشدة على إقامة العلاقات على أساس الإيمان.. وفي سبيل الله حتى لا تتعرض للاهتزاز مع انقلاب معادلات المال والقوة.. يقول الإمام أمير المؤمنين:
(لتجمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم، يكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن بشرك، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزك) (بحار الأنوار 158/71).
والسؤال الآن كيف نطبع علاقاتنا على الحب والمودة؟.. وهل يمكن أن ينمو ذلك بصورة عفوية؟.. بالطبع لا.. وإنما لابد من أمور:
1- المصافحة، يقول الإمام الصادق:
(إنّ المؤمنين ليلتقيان فيتصافحان فلا يزال عز وجل مقبلاً عليهما بوجهه والذنوب تتحات عن وجوههما حتى يفترقا) (بحار الأنوار 64/64).
2- التوقير، يقول الامام الباقر:
(عظموا أصحابكم ووقروهم ولا يتجهم بعضكم بعضاً ولا تضاروهم وكونوا عباد الله المخلصين) ( بحار الأنوار 254/71).
3- التزاور، يقول الإمام الباقر:
(إنّ العبد المسلم إذا خرج من بيته زائراً أخاه لله لا لغيره، التماس وجه الله، رغبة فيما عنده، وكل الله عز وجل به سبعين ألف ملك ينادونه من خلفه إلى أن يرجع إلى منزله: "ألا طبت وطابت لك الجنة").
ويسأل الإمام الصادق أحد أصحابه:
(يا فضيل.. تجلسون وتحدثون؟.. قال نعم جعلت فداك، قال: إنّ تلك المجالس أحبها فاحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا) (بحار الأنوار 351/77).
(المؤمن ألف مألوف) فانّ المؤمن ينبغي أن يكون ألفاً مستأنساً بالخلق ومستأنساً به، غير نافر منفر.. ولا منفور منه.. موافقاً غير منافق، محالفاً غير مخالف، مناصحاً غير مفاضح.
4- الرفق واللين، وخاصة في النشاطات السياسية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الإمام الصادق:
(ما زوي الرفق عن أهل بيت إلا زوي عنهم الخير).
وكما في سائر النقاط.. كذلك هنا.. لابد من ممارسة الرفق واللين حتى مع من يمارسون الشدة والغلظة.. لأنّها الطريقة الوحيدة لامتصاص شرهم.. ودفعهم لتغيير سلوكهم..
وبالنسبة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول الإمام الصادق: انما يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر من كانت به ثلاث خصال:
1- عالم بما يأمر وعالم بما ينهى.
2- عادل فيما يأمر وعادل فيما ينهى.
3- رفيق بما يأمر ورفيق بما ينهى.
إذن فانّ النشاط السياسي والنقد والاصلاح.. يجب أن يراعي كرامة الآخرين ومشاعرهم وأن يتم بالرفق واللين والمداراة.
و(أعقل الناس أشدهم مداراة للناس، وأذل الناس من أهان الناس).
كما يقول الرسول الاعظم (ص).
5- التصميم على الوحدة، رغم الظروف والتباعد الجغرافي، فضلاً عن نبذ الخلاف والتفرق في الآراء.. يقول الإمام الباقر (ع):
(الشيعة.. أولئك الخفيض عيشهم المنقلة ديارهم، القليلة منازعتهم.. ان خاطبهم جاهل سلموا، لم يختلف قولهم وان اختلفت بهم البلدان).
ولا يقتصر المؤمن على اقامة الوحدة بينه وبين الآخرين.. بل انه يحمل مسؤولية الوحدة في المجتمع الاسلامي.. وخصوصاً بين العاملين في الحركة الثورية الإسلامية.. فانّ الخلافات قد تدب بين هذا وذاك، وقد تتطور فتمزق الصفوف وتؤثر على الآخرين عندما يحاول كل طرف أن يكسب مزيداً من المؤيدين إلى صفوفه.. ولذلك يقول الإمام الباقر أيضاً.
(إنّ الشيطان يغري بين المؤمنين.. فرحم الله امرأ ألّف بين وليّين لنا، يا معشر المؤمنين تآلفوا وتعاطفوا) (بحار الأنوار 187/75).
واذا كان هناك بعض المشاكل العالقة بين المؤمنين والعاملين، فانّ حلها لا يتم بالتباعد والتفرق، وإنما بالحوار الهاديء والمزيد من اللقاءات، والتصميم على الوحدة.. فانّ التشرذم والخروج على الجماعة أهون ما يكون.. وانّ المحافظة على الوحدة والانسجام والتآلف هي الجهاد بعينه..
(إياك وهجران أخيك، فانّ العمل لا يتقبل من الهجران) (بحار الأنوار 89/74).
وهكذا يحارب الإمام أمير المؤمنين (ع) القطيعة ويدعو إلى الصلة والحوار والوحدة:
(أحمل نفسك من أخيك عند صرمه إياك على الصلة، وعند صدوره على لطف المسألة، وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو وعند شدته على اللين، وعند تجرمه على الاعذار حتى كأنك له عبد، وكأنه ذو النعمة عليك (ويحذر) وإياك أن تصنع ذلك في غير موضعه أو تفعله في غير أهله.. ولا تطلبن مجازاة أخيك وان حثا التراب بفيك.. ولا تصرم أخاك على ارتياب ولا تقطعه دون استعتاب.. ولن لمن غالظك فانّه يوشك أن يلين لك.. وان أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها ان بدا له ولك يوماً ما) (بحار الأنوار 197/74).
ومن الأمور التي تمزق الوحدة وتزرع البغضاء: المراء والجدال والخصومة وسرعة اللوم وكثرة الانتقاد والمشاورة.
يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع):
(إياكم والمراء والخصومة فانهما يمرضان القلوب على الاخوان وينب عليهما النفاق) (بحار الأنوار 299/70).
وأخيراً.. إذا ما أضطر المؤمن إلى الافتراق عن أخيه وعدم التعاون معه فانّه يحافظ على لسانه.. ولا يستمر في الحديث ضده إذا قام وإذا قعد فانّه يفارق بحسن.. ويخالف بحسن.. ولا يتورط أبداً في الدخول في مهاترات اعلامية تزيد في العداء والتفرقة ولا تصلح شيئاً..
يقول الإمام الباقر (ع):
(إنّ الله يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين) (بحار الأنوار 161/71).
وقد قال رسول الله (ص):
(ألا أخبركم بشراركم؟.. قالوا بلى يا رسول الله.. قال المتفحش اللعان الذي إذا ذكر عنده المؤمنون لعنهم، وإذا ذكروه لعنوه).
[1]- بحار الأنوار 289/64.
[2]- بحار الأنوار 107/67.
[3]- بحار الأنوار 401/68.
[4]- بحار الأنوار 403/68.
[5]- بحار الأنوار 414/68.
[6]- بحار الأنوار 425/68.
[7]- بحار الأنوار 427/68.
[8]- بحار الأنوار 472/71.
[9]- بحار الأنوار 411/66.
[10]- بحار الأنوار 252/71.
[11]- بحار الأنوار 250/66.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق