• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

محدودية الحواس وزيغها

د. هاني عبدالرحمن مكروم

محدودية الحواس وزيغها

◄بصر الإنسان لا يستطيع أن يستشعر إلا في أضيق نطاق كماً وكيفاً، ضيق في ضيق. فالمشاهدة المباشرة للأجسام المعتمة محدودة كما بعشرات الكيلومترات، أما من حيث النوع فالإنسان لا يدرك من الأشعة إلا في النطاق الضيق المحصور بين عالمي الأشعة فوق البنفسجية والأشعة تحت الحمراء. وخارج هذا النطاق الضيق جدّاً فالإنسان في هذه الدنيا أعمى بشهادات المختبرات والعلم الحديث. وحتى في نطاق الألوان التي نعرفها فما نراه أو نعيه قد يكون غير الحقيقة تماماً والإشارات التي نستقبلها في زمن متقارب جدّاً يتعامل المخ معها وكأنها متزامنة. وإليك التجربة التالية التي ذكرها "كوخ و كريك". يتم إضاءة قرص ضوئي أحمر لمدة 20 ملي ثانية مثلاً، ثمّ يتبع ذلك ومضة من الضوء الأخضر لمدة 20 ملي ثانية أيضاً في نفس المكان، فنجد أنّ الشخص الذي يشاهد التجربة يقول أنّه لم ير ضوءاً أحمر يتبعه ضوء أخضر، ولكنه رأى ضوءاً أصفر فقط! أي كأنّه تعرض للضوءين (الأحمر والأخضر) معاً في نفس الوقت فاختلطا عليه. ولكن الشخص لا يمكنه الإحساس باللون الأصفر (الغير موجود أصلاً) إلا بعد أن تكون معلومة الومضة الخضراء تمت معالجتها ومكاملتها مع الومضة الحمراء التي سبقتها. معنى ذلك أنّه في خلال هذه المدة الزمنية (40 ملي ثانية مثلاً) يحدث حولنا العديد من الأحداث التي لا نراها ولا نشعر بها. لقد أدت التجارب من هذا النوع إلى القول بأنّ الزمن اللازم لمعالجة المعلومات وصولا إلى الإدراك يبلغ نحو 60 إلى 70 ملي ثانية. ويوجد أيضاً مدداً مماثلة في التجارب التي استخدمت الإشارات السمعية. ويمكن بالتدريب زيادة سرعة معالجة الإشارات بالمخ إلى حد ما.

ومنذ أربعة عشر قرناً من الزمان أخبرنا ربنا – تبارك اسمه – بقصور أبصارنا على رؤية الشيطان وهو يسرح بيننا، إذ يقول عزّ من قائل: (.. إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ...) (الأعراف/ 27). والثقوب السوداء في السماء يتعذر رؤيتها برغم عملقتها في السماء الدّنيا، لأنها تبتلع كلّ ما يصادفها حتى الضوء الذي هو وسيط الرؤية البصرية.

ويرى الإنسان الأشياء المجسمة وهذه تسمى رؤية – مجازاً – أو رأى العين، وهذه المجسمات لا يشترط أن تكون هي الحقيقة، بل غالباً ما تكون الحقيقة غير ذلك والسراب أوضح مثال على ذلك، يحسبه الظمآن ماء، وهذا خطأ في الحساب العقلي. فوظيفة العين هي النظر أما البصر فهو وظيفة العقل. وزيغ البصر سببه عقلي قبل أن يكون بسبب العين، فالبصر يزيغ، والأمثلة المادية على زيغ البصر عديدة وتفوق الحصر، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، ما ورد في محكم التنزيل بشأن ملكة سبأ: (.. فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً...) (النمل/ 44). أي أنّها نظرته بعينها السليمتين، ولكن حسبته بعقلها المذهول، وعلى ذلك كانت النتيجة والتصرف الخاطئ، (وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا) (النمل/ 44).

وما يقال بخصوص محدودية بصر الإنسان يوجد مثله بالنسبة لباقي الحواس، كلها تعاني من قصور وزيغ. وكمثال آخر، فسمع الإنسان محصور في مدى 20-20000 ذبذبة في الثانية، خارج هذا النطاق الضيق جدّاً فالإنسان الكامل الحواس أصم بالنسبة لملايين الأصوات التي تصفع سمعه ليل نهار ولا يشعر به. فالجن والملائكة تتكلم من حولنا ولا نسمع ولا نعي ولا نشعر بما تقول، والأنعام ترى مالا نرى وتسمع مالا نسمع. فمن يعرض ويأبى الهداية ويحصر نفسه في موروثاته وما تدركه حواسه المادية فقط فقد حرم نفسه من نور الهدى وعرض نفسه للطرد من رحمة الله ويتم تصنيفه ضمن مرضى القلب، لا تشفيه كلّ مستشفيات الدنيا ولو اجتمعت: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمَّد/ 23). وحتى في مجال البيان، فمن يتكلَّم بلغة لا يعرفها السامع، فبماذا يتميز عن الأخرس! ومن يستمع للغة لا يفهمها فبماذا يتميز عن الأصم في هذه الحالة!

بالنسبة للقضايا المعنوية فالعمى والصمم والبَكَم أشد وأخطر من القضايا المُجسمة مادياً؛ لأنّ الحاسة هنا محدودة الحيلة وغير واضحة المعالم أو ربما لا حيلة لها، فهل آن للإنسان أن يتواضع! وكثيراً ما نسمع قائلاً صادقاً يقول: رأيي في هذه المسألة كذا وكذا. فيرد عليه آخر أصدق منه قائلاً: إنني أرى غير ذلك. يحدث ذلك في الأمور كثيراً، فبماذا يرى كلّ منهما رأيه؟ بأي حاسة، أو بأي وسيلة إدراك؟ بل إنّ الإنسان يبيت برأي ويصبح برأي آخر.

وإن كان عشرة أفراد أو أكثر يتحاورون في قضية، فكيف يراها كلّ منهم بصورة مختلفة وهو صادق! هل حقيقة القضية متعددة؟ الجواب: لا، إنّها نفس القضية، ولكن قد تكون عديدة الوجوه، وهي في الغالب كذلك. وسبب الاختلاف أنّ كلَّ شخص يرى القضية بوسيلة رؤية مختلفة؛ وهذه الوسيلة هي العقل. وأحياناً يقال إنّ كلَّ شخص ينظر للقضية من وجهة نظره، كيف والمسألة ليست بصرية؟ إنّها الرؤية بالعقل وهي أعمق من رؤية البصر أو إدراك الحواس. الرؤية تبنى على المعلومات التي تتدفق على العقول ليل نهار، وعلى الخبرات والخلفيات التي تتشكل بها. ولذلك فالرؤية المعنوية ذات طبيعة ديناميكية متطورة وليست استاتيكية، وعليه فلا بأس من تغير الرؤية فذلك هو الأمر الطبيعي طول العمر، ولكن الخطورة تكون في كثرة التذبذب أو ضعف الرؤية.

والتفاوت الشديد في الرؤى يمكن أن يؤدي إلى الصدام، فالآخر يرى الشيء (أو يراك) بعقله هو ليس بعقلك أنت، وكلّ منكما لا يرى الحقيقة مكتملة بل تتفاوت الرؤى في إدراك ما يتيسر من الحقيقة. ومن المهم والمفيد أن تضع رؤية الآخر لك في الاعتبار؛ لأنها أساس تصرفه تجاهك. ويمكن تغيير هذه الرؤية نسبياً بتوصيل بعض المعلومات ليقين الآخر، وذلك يحتاج لصبر وتحين الفرص المناسبة.

أيضاً من تكون حدود رؤيته محصورة في بضع سنين أشد تواضعاً ممن تكون رؤيته ممتدة لعشرات السنين وكلاهما حبيس في ظلمات المادة وفي أوحالها، أما من تنطلق بصيرته نحو الخلود فتكون رؤيته نورانية وغايته عظمى ومداركه أوسع.

 

المصدر: كتاب العقل تنظيمه وإدارته

ارسال التعليق

Top