• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

معيار الربح والخسارة في القرآن

معيار الربح والخسارة في القرآن

الخسارة تعني (النقص). إذا خسرتَ التجارة فهذا يعني نقصان أرباحها أو انعدام الأرباح بالمرّة. وإذا مرضتَ خسرتَ الصحّة، وإذا جُنّ جُنون شخص خسر عقله وتوازنه، وإذا كان أحدهم كافراً فقد خسر الإيمان والثواب. وخسر نفسه: لم ينتفع بمواهبه التي وهبها اللهُ له.

يقول الإمام عليّ (ع): «ومَن قَصَّر في أيام أمله قبلَ حضور أجله، فقد خسر عمله»[1]. وكتبَ (ع) إلى (مصقلة بن هبيرة الشيباني) الذي وعد بدفع حقّ مُترتِّب بذمّته وهرب: «فلا تستهن بحقّ ربّك ولا تُصلح دُنياك بمحق دينك، فتكون من الأخسرين أعمالاً»[2]. وفي اعتبار آخر للخسارة، يرى (ع) أنّ الإغراق في دوّامة المعاصي والابتعاد عن الطاعة خسارة: «احذر أنْ يراك الله عند معصيته، ويفقدك عند طاعته، فتكون من الخاسرين»[3].

أمّا (الربح)، فهو الزيادة الحاصلة نتيجة البيع، وقيل: «مَن نجا برأسه فقد ربح»! والربح: النماء في التجارة. يُقال: تجارة رابحة إذا ربح صاحبها زيادة في المال على ثمن بضاعته؛ ولكن مَن يبيع (الهُدى) والاستقامة بـ(الضلال) والانحراف، فإنّه تاجرٌ خاسر فاشل. يقول الإمام عليّ (ع): «وما أخسرَ المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار»[4]. وقال (ع) في قيمة العمل الصالح: «ولا تجارة كالعمل الصالح، ولا ربحَ كالثواب»[5]. ومن بليغ وعميق ما أؤثر عنه (ع): «فكم من منقوصٍ رابح ومزيدٍ خاسر»[6].

وعلى هذا، فإنّ مقياس (الربح) و(الخسارة) – بحسب تحديد القرآن لهما – هو (خسارة النفس) و(خسارة الأهل): (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الزُّمر/ 15). وعبَّر السيِّد المسيح (ع) عن ذلك بقوله: «ماذا يُجدي الإنسانُ نفعاً لو ربح العالم كلَّه وخسر نفسه»؟! إذ قد تُعوَّض الخسائر كلّها، إلّا أنّ هذه تبقى الأفدح بين سائر الخسائر الأخرى لأنّها (كلّية) و(مُوجعة) و(مُفجعة) وغير قابلة للجبر أو التعويض!! ولذلك كانت الدعوة الدافعة لشبح هذا المصير الأسود هي: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) (التحريم/ 6).   

 والنتيجة الكبرى المستخلصة من بحث الربح والخسارة في القرآن، هي: أنّ الدُّنيا – باعتباراتها المتضاربة المتصارعة – لا تصلحُ مقياساً لمعرفة الربح والخسارة، وإنّما معيارهما الدُّنيا والآخرة معاً.. تأمّل في طائفة الخسائر التي يؤشِّر لها القرآن بإشارات واضحة وصريحة:

 

1-   الفساد.. خسارة:

قال تعالى: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة/ 27).

2-   ابتغاء غير الإسلام.. خسارة:

قال عزّوجلّ: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران/ 85).

3-   إطاعة الكافرين.. خسارة:

قال جلّ وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (آل عمران/ 149).

4-   تكذيب الأنبياء والرُّسُل.. خسارة:

قال سبحانه: (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف/ 92).

5-   اللهو بالباطل.. خسارة:

قال جلّ جلاله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) (الجاثية/ 27).

6-   الخبث واللوم والشيطنة.. خسارة:

قال تبارك وتعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال/ 37).

7-   اتّباع الشيطان وتقوية حزبه.. خسارة:

قال تقدّست أسماؤه: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المجادلة/ 19).

8-   التكذيب بالمعاد وإنكاره.. خسارة:

قال تبارك وتعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) (الأنعام/ 31).

9-   العبادة الحرفية المصلحية.. خسارة:

قال عزّوجلّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج/ 11).

والمقصود بـ(على حرف) أي على جانب الطمع والربح والانتفاع فقط.

10- قتل النفس المحرَّمة[7].. خسارة:

قال جلّ شأنه في قتل قابيل لأخيه هابيل: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة/ 30).

11- إطاعة غير الله تعالى.. خسارة:

قال سبحانه: (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) (المؤمنون/ 34).

12- ظنّ السُّوء بالله عزّوجلّ.. خسارة:

قال تعالى: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (فُصِّلت/ 23).

13- الانشغال السلبي بالأموال والأولاد.. خسارة:

قال عزّوجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون/ 9).

14- الظلم بأنواعه.. خسارة:

قال جلّ وعلا: (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) (الشورى/ 45).

15- تصوُّر الإساءة إحساناً.. خسارة:

قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الكهف/ 103 – 104).

هذه هي مجمل (الخسائر) التي نَبَّه القرآن وأشار إليها وحَذَّر منها، وما عداها فأرباح، كما سيتبيّن.

هذا وقد ترجمت الأحاديث والروايات تلكم الخسائر في أقوال مبلورة لمعانيها من قبيل قوله 6: «الخاسر مَن غفل عن إصلاح المعاد»[8]. وعنه 6: «المُنفق عمره في طلب الدنيا خاسرُ الصفقة، عادم التوفيق»[9]. وعن الإمام عليّ 7: «أخسرُكم أظلمُكم»[10]. ورُوِي عن الإمام محمّد الباقر 7 في قوله عزّوجلّ: (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا)، قال: «هم النصارى والقسيسون والرُّهبان[11] وأهل الشُّبهات والأهواء من أهل القبلة والحرورية (الخوارج) وأهل البِدَع»[12]، والمتطرِّفون المغالون عموماً.

 

[1] - نهج البلاغة، تنظيم صبحي الصالح، الخطبة 28، ص71.

[2] - المصدر نفسه، الكتاب 43، ص415.

[3] - المصدر نفسه، قصار الحكم/ 383، ص544.

[4] -  المصدر نفسه، قصار الحكم/ 37، ص475.

[5] - المصدر نفسه، قصار الحكم/ 113، ص488.

[6] - المصدر نفسه، الخطبة 114، ص170.

[7] - النفس المحرَّمة: البريئة التي لم ترتكب جرماً تستحق عليه القتل، كفسادها أو قتلها لنفس أخرى.

[8] - تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، ج2، ص118.

[9] - المصدر السابق نفسه، ص119.

[10] - غرر الحكم ودرر الكلم، الفصل8، رقم12، ص185.

[11] - الذين أحلّوا حرام الله وحرَّموا حلاله وليس كلّهم قاطبة.

[12] - نور الثقلين، 3/ 312.

ارسال التعليق

Top